الثورة الإيرانية تأكل نفسها و… أبناءها

من خلال تطهير السياسيين المخضرمين، والتخلي عن التظاهر بإجراء انتخابات حرة، وترك دولة الرفاهية تتدهور، فإن طهران تلعب بالنار.

حسن روحاني وعلي لاريجاني: الثورة أكلتهما!

راي تاكيه*

بعد أشهرٍ قليلة على رئاسته، أصبح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي فعليًّا في مأزق. على الرغم من أن التعليقات ركّزت على عدوانيته ومشاكسته النووية، إلّا أن رئيسي يواجه محلّيًّا انشقاقَ وانسحاب النخبة واحتجاجًا جماهيريًا. إن إدارته للاقتصاد وديبلوماسيته النووية هما موضع تساؤل على نطاق واسع. ما لم يُجرِ المرشد الأعلى علي خامنئي وأحد تلاميذه المُفضَّلين تغييرات مهمة في نهجهما تجاه القوى العظمى، فقد يُعرّضان للخطر الجمهورية الإسلامية التي التزما بالحفاظ عليها.

تضرّر الاقتصاد الإيراني بشكلٍ كبير وهو يُعاني بسبب مزيجٍ من سوء الإدارة والوباء والعقوبات. يحوم معدل التضخّم حول 40 في المئة والعملة فقدت الكثير من قيمتها. في غضون ذلك، يتعهّد رئيسي بمعدل نمو 8 في المئة وخلق ما يقرب من مليوني وظيفة في العامين المقبلين.

هذه مفاهيم وتعهّدات خيالية، حيث لا يُمكن إنعاش الاقتصاد الإيراني بدون تخفيف العقوبات. فقط عندما يتشقّق جدار العقوبات، يمكن لإيران بيع المزيد من نفطها وإعادة أموالها المُجَمَّدة في البنوك الأجنبية.

إن الفكرة القائلة بأن التجارة مع الصين يُمكن أن تُحافظ على أمة يبلغ تعداد سكانها 85 مليون نسمة هي فكرة خاطئة بالمثل. إن بيع حوالي نصف مليون برميل من النفط يوميًا إلى الصين بأسعار مُخَفَّضة ليس بخطةٍ اقتصادية حكيمة. يُروّج المسؤولون الإيرانيون لصفقة 25 عامًا مع الصين، لكن حتى الآن الاستثمارات الموعودة لم تتحقّق بعد حيث كانت بكين متردّدة في ضخّ مبالغ ضخمة في إيران الخاضعة للعقوبات. في الواقع، بالنسبة إلى نظامٍ إسلامي يصرّ على مفاهيم الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات، فإن التحوّل إلى دولة تابعة للصين لا يمكن أن يُعزّز حظوظه السياسية.

على الرغم من الانطباعات عن الاستقرار الاستبدادي، فإن إيران هي أرضُ المظاهرات والإضرابات. في السنوات القليلة الماضية، إنضمت الطبقة العاملة، التي كانت تُعتَبَرُ سابقًا ركيزة دعم موثوقة للنظام، إلى شرائح أخرى من المجتمع في المعارضة. لقد شهدت فترة رئاسة رئيسي القصيرة بالفعل نصيبها من التشنّجات والاضطرابات.

في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، اهتزّت مدينة أصفهان على وقع أقدام المزارعين الذين اشتكوا من عدم تحويل الحكومة للمياه اللازمة لمحاصيلهم. كالعادة، سرعان ما تحوّلت المظالم الاقتصادية إلى السياسة مع هتافات “الموت لخامنئي”. في غضون ذلك، نزل المعلمون إلى الشوارع في أكثر من 50 مدينة للمُطالبة بزيادة. قمعت الحكومة هذه المظاهرات بالاستخدام الوحشي للقوة، ما زاد من تقويض شرعيتها المُمَزَّقة.

إن الجمهورية الإسلامية ماهرة في تحويل أنصارها المُخلِصين إلى مُنشَقّين. في أعقاب الانتخابات الرئاسية المُتنازَع عليها في العام 2009 ، تمت مساواة حركة الإصلاح بالفتنة وتم استبعاد السياسيين الأكثر شعبية في إيران من السياسة جسديًّا. مشكلة الحكومة هي أن قادة الحركة الإصلاحية ما زالوا السياسيين الأكثر شعبية في إيران.

ربما يكون هدفهم المتمثّل في إنشاء نظامٍ ديموقراطي عمليًا ولكنه ديني الشخصية قد أحبطه المُتشدّدون، لكنهم يحتلون مكانًا فريدًا في المخيلة الشعبية. هذا هو السبب في أن الطريقة الوحيدة التي يمكن للحكومة من خلالها منعهم من الفوز في الانتخابات هي من خلال الاستبعاد الجماعي لمرشحيهم.

فصيل الإصلاح سارع إلى إصدار تحذيرٍ للحكومة، ما لم تُغيّر مسارها، فإنها ستأخذ البلاد إلى كارثة. في توبيخ لاذع لديبلوماسية رئيسي، أصدرت حركة الإصلاح خطابًا تم تداوله على نطاق واسع، مؤكدة أنه “في الوقت الذي تواجه الأمة الإيرانية إنهاكًا اقتصاديًا، فإن التأخير في العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة سيزيد من الضرر بالبلد”.

إنضمَّ إلى هذه الدعوة حزب الثقة الوطنية الوسطي الذي أنشأه مهدي كروبي، رئيس البرلمان السابق، والمُرشَّح الرئاسي لعام 2009 الذي لا يزال يُعاني من الإقامة الجبرية. حذّر إسماعيل جرامي، القيادي البارز في الحزب، رئيسي من أن حكومته تُخاطر باضطرابٍ جماعي: “من الطبيعي أن يختار الناس الاحتجاج عندما يقعون تحت خط الفقر”. لكن يتم تجاهل هذه الأصوات وغيرها.

كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2021 واحدة من أكثر الانتخابات أهمية في تاريخ الجمهورية الإسلامية. كانت مناسبة حيث انقلب النظام على نفسه، ما أدى إلى استبعاد المحافظين ذوي التاريخ الطويل في خدمة الثيوقراطية. أظهر خامنئي أنه لن يقبل أيّ خلاف في الرأي. إن مأزق اثنين من أنصار الثورة، رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني والرئيس السابق حسن روحاني، يكشف كيف تضيق دائرة النخبة الإيرانية.

لاريجاني هو سليل إحدى أكثر العائلات شهرة في إيران. كان رئيس مجلس النواب الأطول خدمة وعضوًا موثوقًا به في الفصيل المحافظ. خلال فترته الطويلة في الحكومة، شغل العديد من المناصب المهمة، بما فيها منصب كبير المفاوضين النوويين. ومع ذلك، فقد تم استبعاده من الأهلية للرئاسة بسبب تعليقاته خلال ثورة 2009 ودعمه للاتفاق النووي الإيراني.

في عمل من أعمال التمرّد، أصدر تفنيدًا لاذعًا ربط النظام بأكمله بخطة العمل الشاملة المشتركة. وشدّد في الخطاب الطويل على “لمناقشة الاتفاق النووي عقد مجلس النواب 20 جلسة بحضور القيادة وعقد نحو 40 اجتماعًا في المجلس النووي بتوجيه من الرئيس وعقد ما لا يقل عن أربعة اجتماعات في المجلس الأعلى للأمن القومي”. لأول مرة في حياته المهنية، يقف لاريجاني خارج مجالس السلطة من دون أي احتمال حقيقي للعودة أو للخلاص.

روحاني يجد نفسه في موقف مماثل لا يُحسَد عليه. تمنح الجمهورية الإسلامية عادةً رؤساءها السابقين قدرًا من الاحترام من خلال تعيينهم في مختلف الهيئات الحكومية. على سبيل المثال، كان علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيسًا منذ فترة طويلة لمجلس تشخيص مصلحة النظام المسؤول عن التوسط في النزاعات بين مختلف فروع الحكومة. وبعيدًا من حصوله على مثل هذا الشرف، يتعرّض روحاني للتهديد بالمقاضاة من قبل البرلمان المُتشدّد. كما هو الحال مع لاريجاني، فقد فصل نفسه إلى حدٍّ كبير عن النظام.

واجهت الجمهورية الإسلامية احتجاجًا عامًا على مدى عقودٍ من طلاب الجامعات المُتمرّدين، والأعضاء المحرومين من الطبقة الوسطى، وفي الآونة الأخيرة فقراء المدن. تتراوح القضايا التي حرّكت هذه الجماعات من تزوير الانتخابات إلى الصعوبات المالية. يبدو أن الجماهير تُدرك أن النظام لا يمكنه إصلاح نفسه، لأن سياساته صارمة للغاية وقادته لا يقبلون بأي مساومة.

لقد نجا النظام من هذا ليس فقط بسبب أجهزته الأمنية ولكن لأن المظاهرات تلاشت في النهاية. لقد أعطى الافتقار إلى الهيكل التنظيمي الحكومة اليد العليا. من الممكن تمامًا أنه مع استمرار الاحتجاجات، سيخلق المتظاهرون قادتهم. لكن سيكون من الحكمة أن يشعر النظام بالقلق إزاء انشقاق أنواره القيادية.

ربما يشهد العالم نقطة انعطاف مهمة في تاريخ الجمهورية الإسلامية. أصعب شيء على السياسي أن يفعله هو أن ينتقل من مُنشَقّ إلى سياسي معارض. ينضم العديد من الإصلاحيين إلى صفوف الساخطين، ويعطون صوتًا للجماهير. بالنسبة إلى المحافظين الذين تم تطهيرهم، ستكون هذه رحلة أكثر صعوبة، لكن عندما يصبح النظام أكثر استبعادًا في الداخل وتهوّرًا في الخارج، فإنهم سيُشكّلون دوائر المعارضة الخاصة بهم. من حيث الجوهر، يقوم خامنئي بإنشاء نظام تكون فيه المعارضة الموالية مستحيلة.

يبدو أن خامنئي ورئيسي قد نسيا سبب طول عمر الثيوقراطية. لم تكن أبدًا نظامًا استطاع البقاء فقط بالقوة الوحشية. على الرغم من أن اختيار المرشحين للمناصب العامة كان مُقيّدًا من قبل السلطات الحاكمة، فقد قدمت الانتخابات للجمهور خيارًا متنوعًا من السياسيين، وبالتالي كانت بمثابة صمام أمان. في غضون ذلك، ربطت دولة الرفاهية المدروسة الفقراء بالنظام.

لقد تخلّت الحكومة الإسلامية الإيرانية الآن عن كلا المنبعين لقوتها. خزنتها تستنزفها العقوبات ولا يمكنها أن تحافظ على مستوى معيشي أساسي. في غضون ذلك، من خلال عمليات التطهير وإلغاء الأهلية، تُستخدم الانتخابات للمصادقة على خيارات خامنئي. كانت انتخابات 2021 الرئاسية هي الأقل تنافسية والأقل إثارة للاهتمام في العقود الأربعة الماضية.

لا يمكن لإيران أن تتحمّل مواجهة مع القوى العظمى التي يبدو أنها تستمتع بها. تُقدم الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون لإيران طريقًا للخلاص من معضلاتها. إذا اختارت العودة إلى الاتفاق النووي، فيمكنها استعادة جُزءٍ كبير من وضعها المالي واستعادة قدر من النمو الاقتصادي على الأقل. مثل هذه الخطوة لن تُخفّف من مشاكلها العديدة، لكنها قد تساعد على إحباط حركة المعارضة الوليدة التي تتشكل تدريجًا.

غالبًا ما تنهار الأنظمة عندما تتجاهل أسرار نجاحها. يُقابل افتقار رئيسي للخيال أمّيته للتاريخ. لن ينقذ البرنامج النووي المتمكّن الجمهورية الإسلامية، لكن اتباع نهجٍ ديبلوماسي أكثر دقة قد يطيل من فترة ولايتها.

  • راي تاكيه هو خبير في الشؤون الإيرانية وزميل كبير في مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة. وهو مؤلف كتاب “الشاه الأخير: أميركا وإيران وسقوط سلالة بهلوي”.
  • يصدرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى