التطبيعُ مع الأسد يُلغي مُساءَلتَهُ عن تدمير سوريا وكل ما رافقه؟

كابي طبراني*

في آذار (مارس) المقبل، سيَدخُل الصِراعُ السوري عامه الحادي عشر من دون أن تلوح نهايةٌ له في الأفق. مع اقترابِ هذه الذكرى القاتمة: إنهارَ الاقتصاد السوري؛ أصبح الإتجار بالمخدّرات مَصدرًا رئيسًا لإيرادات النظام؛ يُعاني أكثر من 12 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي؛ الأمنُ الداخلي محفوفٌ بالمخاطر؛ إندلعت حركاتُ تمرِّد عدة في مناطق استعادتها قوات النظام سابقًا؛ وتنشط خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية” عبر مساحات شاسعة في شرق سوريا. وعلى الرغم من وقفِ إطلاق النار الإسمي في الشمال الشرقي، فإن هجمات النظام والروس التي تستهدف المدنيين تحدث بشكلٍ شبه يومي.

لكن حتى مع هذا التقييم القاتم، فقد حقق الرئيس بشار الأسد إنتصارات ديبلوماسية كبيرة خلال العام الفائت. بدءًا من مبادرة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في تموز (يوليو) الفائت، التي سرعان ما أكسبت تطبيع الأسد ونظامه زخمًا في جميع أنحاء المنطقة. أعادت الإمارات العربية المتحدة والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق؛ يضغط مسؤولون كبار في العديد من الدول العربية لإعادة عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، بما في ذلك الجزائر، التي ستستضيف قمة الجامعة المقبلة في آذار (مارس)؛ تم بالفعل تعيين سوريا لاستضافة مؤتمر الطاقة العربي لعام 2024؛ وسعت الولايات المتحدة إلى تخفيف العقوبات للسماح لخط أنابيب مصري بنقل الغاز الطبيعي إلى لبنان عبر سوريا، رُغمَ أن المشروع يواجه عقبات، ومن المُرَجَّح أن يتسارع هذا الاتجاه في العام الجديد. على الرغم من إصرار إدارة جو بايدن على أنها تُعارض تطبيع العلاقات مع الأسد وستُبقي العقوبات الاقتصادية سارية، إلّا أنها لم “تؤنِّب” حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين الذين تواصلوا مع دمشق، حتى وهم يُقوِّضون الأهداف المُعلَنة للسياسة الأميركية.

وُصِفَ الأمرُ بأنه تحوّلٌ من العزلة العقابية إلى ديبلوماسية “الخطوة خطوة”، وقدّمت الأنظمة العربية في هذا الصدد عددًا من المُبرِّرات لتطبيع العلاقات مع الأسد، منها: بأن ذلك سيُعطي ثقلًا عربيًّا لسوريا مُوازِنًا لإيران؛ سيكون وسيلة لتخفيف الضائقة الاقتصادية عن المدنيين السوريين؛ سيُشكِّل خطوةً نحو عودة اللاجئين السوريين؛ ويضمن عدم تدفّق مزيد من اللاجئين الذي قد يُهدّد استقرار الدول المجاورة. ومع ذلك، فإن الشيء الأكثر تكرارًا هو أن الإنخراط العربي سيَخلَق حوافز لنظام الأسد لقبول الإصلاحات اللازمة لفتح صنابير تمويل إعادة الإعمار من الاتحاد الأوروبي والعالم العربي، وتحريك سوريا نحو الانتقال السياسي الذي دعا إليه قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.

إذا فشلت العقوبات في تغيير سلوك نظام الأسد، بحسب هذا المنطق، فربما حان الوقت للإظهار للنظام ما قد يجنيه من التعاون. هذا الاحتمال هو ما دفع مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا، غير بيدرسن، إلى تأييد التطبيع تحت راية الإنخراط. وقد علّق في كانون الأول (ديسمبر) قائلاً: “مع مرور كل شهر، فقد شعرتُ بإدراكٍ أوسع من ذي قبل أن هناك حاجة إلى خطواتٍ سياسية واقتصادية – وأن هذه الخطوات يمكن أن تحدث فقط خطوة خطوة”.

لكن كأساسٍ منطقي لتقديمِ تنازلاتٍ لدمشق، فإن هذا النهج، الذي يُعيدُ تأهيل الأسد ديبلوماسيًا، يرقى إلى مستوى الوهم. إن فكرةَ أن نظام الأسد سيردّ على التطبيع بتنازلاتٍ من جانبه هي سذاجة سياسية في مواجهة كل ما نعرفه عن كيفية حكم عائلة الأسد لسوريا لأكثر من 50 عامًا. لم يقتصر الأمر على فشل إنخراط ال”خطوة خطوة” في إحداثِ أدنى تلميحٍ عن حدوث تحوّلٍ في سلوكِ النظام فحسب، بل كان له تأثيرٌ مُعاكِس.

كدليلٍ على أن العناد مُستمِرٌّ والجموح يعمل، فإن ديبلوماسية ال”خطوة خطوة” أُضفت الشرعية على نظام الأسد وقوّته، وعزّزت تصميمه على رفض التسويات، ودفعت بالتسوية السياسية للصراع السوري بعيدًا من متناول اليد. كما إنه من غير المحتمل أن يرى السوريون المكاسب الاقتصادية المزعومة للتطبيع. لقد حدّد الإفتراس والفساد طريقة إدارة النظام للمساعدات الإنسانية طوال الحرب الأهلية. لقد استولى آل الأسد وأعوانهم دائمًا على الانفتاحات الاقتصادية، حيث احتكروا مزاياها مع تجاهلٍ تام لرفاهية المواطنين العاديين. لذا لا يوجد سببٌ للتخيّل بأن التطبيع سيؤدي إلى أي نتيجة أخرى.

لا يقل إثارة للقلق أن دعاة التطبيع غير مُبالين بفشله. لم يُبدوا أيّ اهتمام باتخاذ “خطوات” أخرى مشروطة باستجابةٍ إيجابية للمبادرات السابقة. في الواقع، أصبحت ال”خطوة خطوة” إطارًا لنزع السلاح الديبلوماسي من جانبٍ واحد.

ستكونُ للتطبيع أيضًا آثارٌ مُدمّرة للغاية في العقوبات، على الرغم من مزاعم الولايات المتحدة بعكس ذلك. لقد أظهرت إدارة بايدن استعدادًا أقل من سابقتها للاستفادة من العقوبات الحالية بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا. بالنسبة إلى الدول الأخرى، بما فيها الجهات الفاعلة الإقليمية، فإن ديبلوماسية ال”خطوة خطوة” هي ذريعة مُناسِبة لتَجاهُلِ العقوبات وتعميق الروابط الاقتصادية مع النظام. يُجري الأردن والإمارات العربية المتحدة بالفعل مناقشات مع دمشق حول كيفية تنشيط التجارة والاستثمار. وتوَقَّعَ المبعوث الروسي الخاص لسوريا، ألكسندر لافرينتيف، المزيد من تخفيف العقوبات في العام الجديد.

قد يُرحِّب منتقدو ومعارضو العقوبات بهذا الاحتمال، بحجّة أنها فشلت في تحقيق هدفها والتسبّب في إلحاق الضرر بالمدنيين السوريين، بينما تفرض القليل من المشقّة والضرر على نُخَبِ النظام. ومع ذلك، عند تقديم مثل هذه الادعاءات والمزاعم، غالبًا ما يتجاهل النقاد العديد من العوامل الأخرى التي تُساهم بشكل جماعي أكثر بكثير من العقوبات في معاناة الشعب السوري.

وتشمل هذه العوامل التدمير الهائل الذي ألحقه النظام بالبنية التحتية لسوريا على مدى العقد الفائت؛ النزوح الجماعي للسكان؛ إنهيار الاقتصاد اللبناني؛ تأثير فساد النظام والافتراس على انتعاش الاقتصاد السوري؛ ورفض رُعاته الدوليين الرئيسيين، بما في ذلك الصين وروسيا، تقديم دعمٍ ذي مغزى إن كان بالنسبة إلى المساعدات الإنسانية أو إلى إعادة الإعمار الاقتصادي. لنأخذ على سبيل المثال أزمة الخبز في سوريا، والتي لا علاقة للعقوبات بها. إنها ناتجة إلى حدٍّ كبير عن رفض روسيا بيع القمح إلى سوريا مع انتشار جائحة كوفيد-19، واشتعال الحرائق التي دمّرت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في صيف العام 2020 – والتي يبدو أن الكثير منها نتج عن قوات النظام – والجفاف اللاحق الذي اجتاح المحافظات الشرقية لسوريا.

علاوة على ذلك، يتجاهل منتقدو العقوبات الضرر الذي سيُحدِثه تخفيفها، حتى ضمنيًا – ليس فقط لضحايا عنف النظام ومصدر نفوذ يستخفّ به النقاد في كثير من الأحيان، ولكن للقانون الدولي والمعايير العالمية اللذين يُمثّلان أكثر الآليات قابلية للتطبيق لمحاسبة نظام الأسد على جرائمه وانتهاكاته. إن هذا النظام قد أشرف على القتل الجماعي والاستخدام المُمَنهَج للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، والتعذيب والاحتجاز التعسّفي وغير القانوني والتهجير القسري لملايين المدنيين السوريين.

ببساطة، لا يُمكِن قياس فعالية العقوبات فقط من خلال إجبار النظام على تغيير سلوكه. وعلى القدر عينه من الأهمية، إن لم يكن الأمر الأكثر أهمية، هو قيمتها في الإشارة إلى نبذِ نظامٍ مسؤولٍ عن جرائم ضد الإنسانية وانتهاكاته الفظيعة للقانون الدولي وإنكار شرعيته. في السنوات الأخيرة، أصبح هذا الجانب من العقوبات مُهمًا بشكلٍ مُتزايد مع تقدّم الإجراءات القانونية ضد مسؤولي نظام الأسد المُتورّطين في التعذيب في عدد من البلدان، بما فيها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا.

إذا تم قبول ديبلوماسية “الخطوة خطوة” كإطارٍ لتطبيع نظام الأسد، فإن النتيجة النهائية ستكون محو وإلغاء مسؤوليته عن تدمير سوريا وكل ما رافقه. تعمل روسيا، جنبًا إلى جنب مع النظام، بجدٍّ لضمان هذه النتيجة بالضبط. لا ينبغي للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يكونوا متواطئين، بشكل مباشر أو غير مباشر، في مثل هذه الجهود. يجب على الغرب أن يفعل أكثر من تأكيد التزامه بالإبقاء على العقوبات على نظام الأسد الوحشي. يحتاج إلى استخدامها، والتثبيت علنًا بأنه سيتّخذ خطواتٍ لفرضِ عقوباتٍ ضد أيّ طرفٍ ينتهكها وتنفيذها على الفور عند حدوث انتهاكات. كما يجب أن يُوضّح أن هناك طريقًا واحدًا فقط لتخفيف العقوبات: تقدّمٌ واضحٌ لا رجعة فيه نحو انتقالٍ سياسي ذي مغزى في سوريا الذي دعا إليه قرار مجلس الأمن رقم 2254. إن القيام بخلافِ ذلك سيُرسِل إشارة مُروِّعة حول اللامبالاة الأميركية والغربية، وبالتالي المجتمع الدولي، لجرائم نظام الأسد، ويزيد من إضعاف احتمالات منع الديكتاتوريين والمستبدّين الآخرين من السير على خطاه.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى