مَصيرُ نزارباييف في كازاخستان رسالةٌ تحذيرية إلى بوتين وشي جي بينغ

الأحداث التي وقعت في الأسبوع الفائت في كازاخستان أثارت تساؤلات عدة حول النتائج المترتبة عنها وماذا تعني في نهاية المطاف.

الرئيس قاسم جومارت توكاييف: حليف بوتين الجديد.

هاني مكارم*

أكثر من كلّ الأزمات، يُمكن قراءة الأحداث التي تكشّفت في كازاخستان في الأيام الأخيرة بطُرُقٍ كثيرة ومُتعدِّدة. على أحد المستويات، يبدو أنها قد منحت فرصة أخرى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة السيطرة على مجالات فقدها الكرملين بعد زوال الاتحاد السوفياتي.

تمكّنت موسكو من تحقيق ذلك من خلال التظاهر الكاذب بأن الاضطرابات التي ساعدت على إخمادها في جارتها في آسيا الوسطى كانت مثالًا آخر على ما تسمّيه “ثورة ملوّنة”، ما يعني مؤامرة خبيثة لزعزعة الاستقرار يدعمها الغرب.

على مستوى آخر، تكشف الأزمة عن ضعفِ الصين الجيواستراتيجي المُفاجئ في آسيا الوسطى. حتى بعد عقودٍ من النمو الاقتصادي، الذي جعل اقتصاد البلاد الثاني بعد الإقتصاد الأميركي، وبناء خط سكة حديد جديد عابرٍ للقارات عبر كازاخستان يربط الصين بأوروبا، يبدو أن بكين ليس لها تأثيرٌ سياسيٌ ذا مغزى في ذلك البلد. في الأسبوع الفائت، كانت مُجرّد مُتفرّجة حيث أرسلت موسكو قوات تحت غطاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي منظمة إقليمية تقودها، لدعم الرئيس قاسم جومارت توكاييف.

لكن من المفارقات أن السياسة الداخلية لكازاخستان لها صلة عالمية أكبر، على الرغم من كونها غامضة للغاية بالنسبة إلى معظم العالم بسبب طبيعة البلد: شاسعة ولكنها معزولة جغرافيًا وقليلة السكان، مع ثلاثة عقود فقط من الاستقلال عن الإتحاد السوفياتي.

أكثر من أي شيءٍ آخر، فإن الاضطرابات في كازاخستان – التي انتشرت في الأسبوع الفائت من المدن الغربية الصغيرة بالقرب من منطقة إنتاج النفط في البلاد إلى العاصمة التجارية “ألماتي”، والعاصمة السياسية “نور سلطان” (أستانا سابقًا)، حيث اقتحم الناس المباني الحكومية – تؤكّد على مأزق أساسي يأتي مع حكمٍ استبدادي صارم. كلّما تمّ استثمارُ المزيد من القوة في فردٍ واحد، أصبح الانتقال إلى خليفة أكثر غموضًا وانعدامًا للأمن. اليوم، تشعر موسكو وكأنها تستعيد قدرًا من السيطرة الإمبراطورية المفقودة من خلال اختيار فائزٍ في المنافسة بين حكّام كازاخستان السابقين والحاليين واستخدام قواتها لدعمه. لكن القاعدة عينها ستبقى يومًا ما لخلافة بوتين في نهاية المطاف، ولصين ما بعد شي جين بينغ أيضًا.

إن الأزمة الأكثر جوهرية في أيِّ نظامٍ ملكي، وهو نظامُ حُكمٍ ساد معظم تاريخ البشرية، هي أزمة الخلافة. تعرّضت مملكة أو إمبراطورية تلوَ أخرى إلى الفوضى أو الزوال التام بسبب فشل النُخَب في الاتفاق على خليفة. في كثير من الأحيان لم يحدث هذا بسبب شيءٍ أكثر تعقيدًا من عدم وجود وريث ذكر، والذي كان في معظم الأماكن هو الخيار التلقائي لخلافة صاحب الجلالة. في حالاتٍ أخرى، تم التراجع عن شرعية خلفاء العرش من خلال ادعاءاتٍ مُضادة قدّمتها السلالات العائلية المُتنافِسة. هذا هو المكان الذي يحمل فيه النظام الملكي أكبر قدرٍ من الشَبَه بالسياسة الحديثة. يحتاج المرء فقط إلى استبدال العشائر السياسية بسلالات الدم ليبدأ في تخيّلِ كيف تتبع، عادةً، بعد قيادة حكّام مُستَبدّين من نوع الرجل القوي (الديكتاتور)، فتراتٍ من عدم الاستقرار.

حاول زعيم كازاخستان منذ فترة طويلة، نور سلطان نزارباييف، حيلة مألوفة تاريخيًا لتجنّب هذا النوع من الفوضى عندما تنحّى في العام 2019، من خلال تسمية خليفة له بينما كان لا يزال في صحة جيدة وكانت سلطته بدون منازع تمامًا. كان طموح نزارباييف أن يموت يومًا ما من الأثرياء ومن الذين يُحتفى بهم، وهي رغبة قديمة قدم الفراعنة، قائمًا على فكرة الحفاظ على معظم سلطته بعد ترك منصبه رسميًا، وهذا يعني الحكم من وراء الكواليس. ومع ذلك، في أول علامة رئيسة على وجود مشاكل في البلاد منذ تنحّيه -بسبب الغضب الشعبي من الارتفاع المفاجئ في أسعار البنزين- تفكّكت هذه الترتيبات وسط أعمال عنف، وباءت خطط نزارباييف الموضوعة بشكل جيد بالفشل.

مخطط نزارباييف لم يكن شيئًا جديدًا. في الواقع، كان التطبيق الأكثر شهرة أخيرًا في روسيا نفسها، حيث رتّب بوتين ليصبح رئيسًا للوزراء في العام 2008 بعد أن قضى بالفعل فترة ولايتين كرئيس قوي. عاد بوتين، بالطبع، إلى الرئاسة بعد تلك التجربة، واستثمر طاقة كبيرة منذ ذلك الحين في تعديل الترتيبات الدستورية في بلاده للسماح لنفسه بالبقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. إن لجوءَ سياسيّ واسع الحيلة ومحنّك ومراوغ كبوتين إلى مثل هذه الإجراءات، يكشف أنه يعلم أنه لن يجد أمانًا حقيقيًا في التقاعد الحقيقي. وعلى القدر عينه من الأهمية، رُغمَ ذلك، إن ما قد يقبله أو لا يقبله هو أنه لا توجد ضمانات بأن النظام السياسي الذي صاغه سوف يدوم طويلًا بمجرّد تقاعده أو رحيله.

في الواقع، هناك العديد من الأسباب للاعتقاد بأنه كلما طال تمسّك السلطة الاستبدادية المتمركزة في السلطة بالمنصب، قلّ احتمال نجاح نظامها ومُثُلها العليا وطبقة المحسوبية التي أحاطت بها نفسها في البقاء سياسيًا. ذلك لأن السلطة المُرَكّزة في فرد واحد، بغض النظر عن مدى ذكائه أو حرصه، تُقوّض المؤسسات بشكل مباشر، وأن المؤسسات -وليس الأشخاص- هي التي تُبنى عليها الأنظمة السياسية بل والاستقرار.

في القرن العشرين، تكثر الأمثلة التحذيرية لهذه الحقيقة، ومع ذلك فإن قلّة من المُستبدّين المُتشدّدين يلتفتون إليها. يبدو أن الإيمان بقدرة الفرد على الهروب من النمط وإثبات أنه استثناء من القاعدة لا يُقاوَم. هناك مجموعة في التاريخ غير المرغوب فيه في هذا النوع، متنوعة للغاية من الناحية السياسية وتشمل: مانويل نورييغا من بنما، وجان كلود دوفالييه من هايتي، وشاه إيران محمد رضا بهلوي من إيران، وفيرديناند ماركوس من الفلبين، ومعمر القذافي في ليبيا وغيرهم. لم يتمكن أحد منهم إيجاد طريق رشيق للخروج من “العرش”، بغض النظر عن الطريقة التي حافظت على نفوذهم أو هيبتهم التاريخية.

أحد الأمثلة المفضلة لدي هو نيكولاي تشاوشيسكو من رومانيا. حتى بعد أسبوع من الاضطرابات في بلاده في خريف العام 1989، وهو الوقت الذي تم فيه إسقاط نظام بعد آخر في أوروبا الشرقية بسبب الانتفاضات الشعبية لصالح الديموقراطية، تشاوشيسكو، الذي ركز السلطة في يديه بدرجة غير عادية، شعر بأنه منيع ضد دعوات الإصلاح. وردًا على الاحتجاجات في تيميشوارا، ثاني أكبر مدينة في البلاد، ألقى خطابًا أمام مقر البرلمان، وهو مبنى فخم لهيئةٍ بلا سلطة.

ردًّا على تحياته الافتتاحية، صرخ الحشد، “ليسقط تشاوشيسكو!”. زوجة الديكتاتور، التي وقفت إلى جانبه، حيث لم ترَ سلطة زوجها تُسأل علنًا، ردّت بصدمة قائلة: “أصمتوا!”.

“صه! أسكُتي!” غمغم لها تشاوشيسكو، من دون أن يُدرِك أن كلامه وكلام زوجته تم التقاطهما على الميكروفونات الحيّة وتم بثهما إلى الأمة بأكملها. ”أيها الرفاق! أجلسوا بهدوء”، عاد يقول للحشد. بحلول صباح اليوم التالي، عندما اقتحمت الحشود مبنى اللجنة المركزية حيث اختبأ تشاوشيسكو، كان الرجل الذي حكم رومانيا بقبضة من حديد لمدة 24 عامًا رحل. هرب تشاوشيسكو وزوجته بطائرة هليكوبتر، لكن سرعان ما تمّ القبض عليهما وإعدامهما بعد محاكمة سريعة، ولم يستوعبا تمامًا ما حدث لهما.

تنطبق الدروس المستفادة من كازاخستان على عددٍ كبير جدًا من الدول في العالم اليوم، وهي الأماكن التي تأتي سياساتها بنكهاتٍ مختلفة على نطاق واسع، ولكنها تشترك في خاصيتين: دافعُ مركزي قوي لتركيز السلطة في أيدي شخص واحد، والنفور من النظام الرسمي وآليات الخلافة الشفافة. تُعَدُّ الصين، حيث قام شي جين بينغ بإلغاء نظام الخلافة غير الرسمي للبلاد بقدر ما فعل بوتين الروسي، مكانًا واضحًا يجب الانتباه إليه من العواقب المحتملة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى رواندا الصغيرة في عهد الرئيس بول كاغامي، وهو زعيم طالما أشاد الغرب به، لكن سلطته الشخصية لا تعرف حدودًا.

لطالما كان هناك أناسٌ على استعداد للثناء على الاستبداد على أسس متزعزعة أنه لا يعاني من عدم كفاءة وبطء الديموقراطية. سواء أحببنا أم كرهنا، يقول هؤلاء المشجعون، يمكن للرجال الأقوياء وأنظمتهم إنجاز الأمور. سيكون هذا أكثر إقناعًا إذا كانت هناك قائمة طويلة من الأمثلة على هؤلاء القادة الذين صمدت إنجازاتهم أمام اختبار الزمن. ما تبقّى لنا في الغالب هو الأنقاض التي تركوها وراءهم وهم يغادرون.

  • هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى