عَبَثِيَّةُ العُقوباتِ الأميركية على سوريا

على الرغم من أن الولايات المتحدة قد تخلّت عن محاولة الإطاحة ببشار الأسد – فإنها تواصل معاقبة الشعب السوري.

الرئيس بشار الأسد: العقوبات لم تُغيّر من سلوكه.

أنشال فوهرا*

في ذروة الحرب الأهلية، فرّ السوريون من القصف العنيف لإنقاذ حياتهم، لكن الآن يبدو أن الغالبية التي بقيت عازمة على الهروب من حياة الفقر المدقع. في الآونة الأخيرة، كان السوريون من بين المهاجرين الذين تدفّقوا على حدود الاتحاد الأوروبي عبر بيلاروسيا. كانت تلك الأزمة من تدبير روسيا والحكومة السورية وحليفهما البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، لكن رغبة السوريين في الفرار من الاقتصاد المُنهار في الداخل كانت بديهية.

لم يهدأ اليأس الذي يعيشه السوريون على الرغم من تراجع النزاع المسلح. لقد قرعت الأزمة أجراس الإنذار في العواصم الأوروبية لكنها كشفت أيضًا عن إخفاقات السياسة الغربية. لا يمكن للمجتمع الدولي أن يَغسلَ يديه من المشكلة السورية بمجرّد فَرَضَ عقوبات. يجب أن يُفكّر بشكلٍ أكثر براغماتية، وأن يجد طريقةً للاستفادة من العقوبات لتحسين حياة الشعب السوري، بدلًا من إبقائها ليقول إنه فعل شيئًا لمعاقبة بشار الأسد على جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبها.

في حين أن أرقام المهاجرين المُتّجهين إلى أوروبا لا تزال مُنخَفِضة مُقارنَةً بما كانت عليه قبل خمس سنوات، إلّا أنها في ازديادٍ مُطرد حيث ارتفعت في العام الماضي فيما أصبحت خطوط الخبز والوقود أطول. وفقًا لوكالة أسوشيتيد برس، تَقدَّمَ 82 ألف سوري بطلبات لجوء في الاتحاد الأوروبي في العام 2021، 66 ألفًا منهم من المُتقدّمين لأول مرة. هذه زيادة بنسبة 70 في المئة عن العام السابق، على الرغم من الارتفاع الكبير في عدد السفن المحطّمة والغرق في البحر. وفقًا لإحدى الدراسات الاستقصائية، يريد ما يقرب من 64 في المئة من السوريين داخل الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة مغادرة البلاد وإعادة التوطين في مكان آخر. أوروبا هي راهنًا موطنٌ لمليون سوري، وهناك القليل من الشهية المحلية لقبول المزيد. بالنسبة إلى السوريين الذين يعانون من الحرمان اليومي على كل الصعد ولا يزالون يسكنون المدن المدمرة، فإن الرحلات الغادرة على متن سفن غير صالحة للإبحار إلى أوروبا هي السبيل الوحيد للهروب.

حاول أبو زاهر العبور إلى ألمانيا من بيلاروسيا ثلاث مرات، لكنه تعرّض للخداع أو الاعتقال أو الترحيل. في محاولته الأولى، تخلّى عنه المُهرِّبون، الذين دفع لهم المال لاصطحابه إلى ألمانيا وتركوه في غابة بالقرب من الحدود البولندية. بعد بضعة أيام، أجبره الجنود البيلاروسيون على السباحة عبر نهر جليدي بارد وعبور الحدود إلى ليتوانيا بشكلٍ غير قانوني. قبضت عليه شرطة الحدود الليتوانية ورحّلته على الفور إلى بيلاروسيا. في محاولته الثالثة، وصل إلى بولندا ولكن الشرطة هناك أوقفته حيث تعرّض على أيدي رجالها للضرب ومن ثم أعادته مرة أخرى إلى الغابة.

نفد ماله وتعب من الجري. ومع ذلك، قال إنه يُفضّل الاستمرار في محاولة الوصول إلى ألمانيا بدلًا من العودة إلى سوريا، حيث لا توجد كهرباء، والمواد الغذائية الأساسية لا يمُكن تحمّل أسعارها، والوقود سلعة ثمينة. “حلمي الوحيد هو الحصول على وظيفة لائقة وإرسال بعض المال إلى والديّ”، قال أبو زاهر، المهندس السوري البالغ من العمر 33 عامًا، الذي لم يفر من القنابل بل من أزمة اقتصادية مُدمِّرة.

كان نجل أم عبد الله أسعد حظًّا. لقد تمكّن من تخطّي العديد من سلطات الحدود والوصول إلى ألمانيا. في سوريا، عمل عبد الله كنجّارٍ متدرّب مع والده. لكن الطلب المُتناقص وغياب الكهرباء يعنيان أن لديهما القليل من العمل، أو لا يملكان أي عمل، ونادرًا ما تمكّنا من إدارة مشروعهما – وهو وضعٌ مُشابِهٌ لوضع معظم السوريين في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة. قالت أم عبد الله إن الحياة في سوريا ليست حياةً على الإطلاق. فضّلَت أن يواجه ابنها المخاطر التي تأتي مع السفر غير القانوني على تحمّل الحرمان في كل مجالات الحياة بعد الصراع مع عدم وجود نهاية في الأفق.

كانت هناك حركة ضخمة إلى خارج البلاد في العام الفائت. لقد اضطرّت عائلات كثيرة إلى بيع كل شيء تستطيع بيعه من أجل الهجرة. “بعتُ مجوهراتي لأدفع تكاليف السفر لابني. أردته أن يبدأ حياة حقيقية. نحن هنا نعيش مثل الأشباح”، قالت أم عبد الله من إحدى ضواحي دمشق.

تسعةٌ من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر ولا يستطيعون شراء الضروريات الأساسية مثل الخبز والحليب واللحوم. إنخفضت قيمة العملة المحلية بشكلٍ حاد خلال العام الماضي بالتوازي مع الانهيار في لبنان المجاور، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بأكثر من 100 في المئة. لا يزال هناك ما يقرب من 7 ملايين نازح داخليًا ويعانون من ضائقة مالية، وليست لديهم أي وسيلة لإعادة بناء منازلهم ومجتمعاتهم.

إنهار اقتصاد البلاد نتيجة الدمار الذي تسبّبت به الحرب، والفساد المستمر والمستشري منذ عقود في إدارة الأسد، وانهيار القطاع المصرفي في لبنان، حيث لم يفقد اللبنانيون فقط ودائعهم بل السوريون أيضًا. لكن العقوبات الغربية التي حظّرت إعادة الإعمار من أي نوع، بما في ذلك محطات الطاقة والمدن المدمَّرة، فاقمت بالتأكيد مآسي السوريين وقضت على أيِّ فُرصةٍ للتعافي.

لم يكن لدى السوريين أيّ توقّعات من الحكومة التي حوّلت منازلهم ومتاجرهم ومدارسهم إلى أنقاضٍ في المقام الأول. لكنهم كانوا يأملون في أن يأتي المستثمرون الأجانب لمساعدتهم، ويُعيدون بناء البلاد، ويُسمَح لهم باستئناف حياتهم. تبخّر هذا الأمل عندما دخل قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا حيّز التنفيذ في حزيران (يونيو) 2020. ويُهدّد القانون الأميركي بفرض عقوبات على أيِّ كيان، أميركي أو غيره، يوفِّرُ “دعمًا ماليًا أو ماديًا أو تقنيًا كبيرًا” للحكومة السورية.

لا خلاف على العقوبات الفردية ضد الأسد وزمرته. في الواقع، يبدو أن هناك إجماعًا بين الخبراء على تحديد المزيد من الأشخاص في الأجهزة الأمنية السورية ومعاقبتهم. عبر الانقسام، يعتقد الخبراء أن مجرمي الحرب السوريين المُتَّهَمين يجب أن يُحاكَموا في محاكم أوروبية بموجب الولاية القضائية العالمية. لكن جدوى العقوبات بموجب قانون قيصر محلّ نزاعٍ عميق.

تعتقد إحدى المجموعات أن تخفيف العقوبات، بسبب الخوف من تدفّق اللاجئين، من شأنه أن يرقى إلى الاستسلام لتكتيكات روسيا والأسد. يقولون إن الأسد لم يرضخ حتى الآن لأيٍّ من مطالب المجتمع الدولي في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 وليست لديه أي نيّة لتغيير سلوكه.

لكن البعض الآخر يقترح نهجًا عمليًّا أكثر للتخفيف من معاناة الشعب السوري وتجنّب نزوحٍ جماعي آخر. يقولون: بما أنه لا أحد يعتقد بأن المعارضة تستطيع إسقاط الأسد أو أن راعيه الروسي يريد إسقاطه في أي وقت قريب، فإن الأمر يتطلب سياسة أكثر دقة. إذا أبقت الولايات المتحدة على مجموعة واسعة من العقوبات سارية حتى يفسح الأسد الطريق لانتقالٍ سياسي ذي مغزى، والذي تعتبره الحكومة السورية بمثابة تغييرٍ للنظام بوسائل أخرى، فإن الأزمة سوف تتفاقم ببساطة بمرور الوقت. ولكن إذا أمكن الاستفادة من العقوبات بشكلٍ مُناسبٍ وتخفيف الضائقة الاقتصادية في سوريا، فقد يُشجّعُ ذلك السوريين على البقاء في منازلهم.

لطالما أوصت مجموعة الأزمات الدولية بأن تضع الولايات المتحدة قائمة بالخطوات “الملموسة والواقعية” التي يجب على دمشق وحلفائها اتخاذها مقابل إعفاءات من العقوبات.

لن تُحاسِب القيادة السورية مُجرمي الحرب (أو نفسها) أو حتى إطلاق سراح جميع أسراها. لكنها قد تفي بمطالب أخرى إذا تم تحفيزها بشكل كافٍ. وتقول مجموعة الأزمات الدولية إن النظام يمكن إقناعه بعرض وصولٍ غير مُقيَّد للجهات الفاعلة الإنسانية الدولية، والسماح للنازحين بالعودة إلى ديارهم، والوعد بإنهاء الضربات الجوية العشوائية على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

وأشارت دارين خليفة، كبيرة المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن الدول الغربية تحتفظ حاليًا بنفوذها في سوريا بفضل الوجود العسكري للتحالف الدولي، والعقوبات، والسيطرة الفعلية على ما إذا كانت الموارد الخارجية الكبيرة ستتدفق نحو إعادة إعمار سوريا والتعافي المبكر. وقالت: “في حين أن هذا النفوذ ربما يكون غير كافٍ لإحداث تغييرٍ في القيادة في دمشق، فإنه إذا تم استخدامه بشكل فعّال يمكنه أن يُحقّق أهدافًا رئيسة ذات قيمة استراتيجية للغرب وأهمية الحياة أو الموت لملايين السوريين”.

وأضافت خليفة أنه من أجل الاستفادة بشكل أفضل من نفوذ هذه العقوبات، يتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديد موقفٍ أكثر وضوحًا يؤكّد أنه في حين أن دمشق قد لا تحصل على الأشياء مجانًا، إلّا أن هناك نتائج قابلة للتحقيق، ليس من ضمنها تغيير النظام، التي من شأنها أن تؤدي إلى المعاملة بالمثل مع الغرب. “نقطة البداية في المفاوضات لا يمكن أن تكون أن ’دمشق لن تتزحزح’. الحكومة السورية، مثل أي طرف آخر في النزاع، تقبل التسوية عندما تشعر أنه ليس لديها خيار آخر سوى القيام بذلك – على الأقل طالما أن هذه التنازلات لا تمسّ جوهر النظام”.

جوشوا لانديس، رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، مُتزوّجٌ من سورية علوية ومن أشد الناشطين لإلغاء العقوبات. قال: “يجب السماح للسوريين بإخراج أنفسهم من حفرة اليأس. هذا يعني رفع العقوبات. عندما يتم ذلك، سيضع المستثمرون الإقليميون الأموال في العمل. سوف يعود اقتصادهم إلى الحياة”.

المستثمرون الإقليميون يريدون المشاركة في إعادة إعمار سوريا ولكن في المقابل يريدون من الحكومة السورية إحتواء إيران. في العام الفائت، أقنع الأردن الولايات المتحدة بالسماح للغاز المصري والكهرباء الأردنية بالمرور عبر الأراضي السورية لإنهاء أزمة الطاقة في لبنان، ولكن هذه العملية ساعدت أيضًا الاقتصاد السوري. تركت هذه الخطوة المُحلّلين في حيرة من أمرهم حيث تساءلوا عن سبب عدم استفادة إدارة بايدن من العقوبات وطلبت شيئًا في المقابل بدلًا من تسليم التنازل مجانًا. قال أندرو تابلر، زميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: “ليس من الحكمة تقديم كلّ شيء مقابل لا شيء”.

حاول فريق بايدن تمييز نفسه عن سياسات عقوبات “الضغط الأقصى” للرئيس السابق دونالد ترامب في الشرق الأوسط، لكنه لم يفعل أي شيء حتى الآن لصالح الشعب السوري. لقد استمر ببساطة مع قانون قيصر، الذي وقّعه ترامب ليصبح قانونًا في كانون الأول (ديسمبر) 2019. غالبًا ما توصف سياسة الرئيس جو بايدن تجاه سوريا بأنها “مُشَوَّشة” ​​وأنها فشلت في إيجادِ توازنٍ بين العصا والجزرة للضغط من أجل التغيير في سلوك النظام. يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية غير راغبة في تجاوز ذلك، وبالتالي فهي تترك الأزمة لتذبل وتُوهِن على الرغم من آثارها وتداعياتها على ملايين الأرواح – ومستقبل السياسة الأوروبية.

  • أنشال فوهرا هي كاتبة ومحلّلة سياسية في مجلة “فورين بوليسي” ومراسلة تلفزيونية مستقلة ومعلقة حول شؤون الشرق الأوسط. يمكن متابعتها عبر تويتير على: @anchalvohra
  • صدَرَ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى