لبنان الآتي …

محمود بري*

نعيشُ في عالمٍ حقيقي، لكن ما يحكمنا ويُسيِّر حياتنا هي قوانين وحالات العالم الإفتراضي.

حين أكتب لمتحادثة حديثة العهد على صفحتي الفايسبوك، كلمة “صديقتي الوهمية”، تتحسّس في الغالب وتعترض … “أنا حقيقية ولست وهمية” تردّ بشيء من شبه غضب، بمعنى أن ما قلته إهانة. لكن تحسّسها وشبه غضبها لا يُغيّران الحقيقة. أودّ أن أقول لها إنها سيدة حقيقية ولا ينقصها شيء، لكنها ليست في حقيقة الأمر أكثر ولا أقل من صورة تشكّلت على شاشة بموجب العلوم والتقنيات السيبرانية، وأداتها تلك الشبكة العنكبوتية العجيبة وغير الملموسة ولا المُجسّدة التي نسميها الإنترنت والتي هي أم العالم الإفتراضي وحقله وداره ومساحته.

بات علينا جميعًا، وتلك المتحادثة العزيزة من بابٍ أَولى، أن نعتاد على حقيقة العالم الإفتراضي وتحكّمه بحياتنا. صحيح أننا حقيقيون، لكن الإفتراض هو ما يُسيّر العجلة. وهذا لا يقلل من أهميتنا، ولا ينبغي أن يجعلنا نتحسّس منه كأمرٍ بات واقعًا، ولو كنّا لا نستحبّه.

إمعانًا في تأكيد هذا “الواقع الإفتراضي”، وبخاصة في لبنان، فالواقع الملموس وغير الافتراضي يؤكد أننا نعيش في وضع شبه ميؤوس منه تحت غائلة فقر وحرمان يتمشّيان على وقع خُطى مجاعة تحثّ الخُطى، وقد سُرِقنا ونُهِبنا وحُرِمنا مما لنا، وها هي  مُدّخراتنا تضيع تحت أعيننا ورواتبنا تتحلّل بين أصابعنا… ولا أحد مسؤول عن هذه الإرتكابات بحقّنا: لا المصرف المركزي ولا المصارف ولا الدولة ولا المنظومة الحاكمة ولا ذوي العمائم بمختلف أشكالها وألوانها ولا حُماة الأمن والديار ولا الزعماء ولا القادة، ولا عدوّنا ولا صديقنا ولا حليفنا ولا أحد…البتّة أبدًا مُطلقًا. المعنى أن “الأحدهم” الذي سرقنا هو من العالم الإفتراضي. وهذا كلّه، للتذكير، حقيقي تماماً وليس خياليًا ولا وهميًا… لكنه بميزان المنطق لا يختلف أبدًا كواقع عن كونه افتراضًا…إذ أنه في العالم الافتراضي فقط  يمكن أن أن يحصل كل ذلك، وقد حصل في واقعنا “من تلقائه ومن دون فاعل”… ولو كنّا اليوم في أزمنة الجاهلية لأمكننا القول إن ذلك  من أفعال …الجن.

أليس هذا أكثر ثقلًا من افتراض؟

نعم. سيقول قائلٌ إنه نوعٌ من الكوميديا السوداء… ويقول آخر إنه مجرّد كلام كاريكاتوري. والحق أن الكاريكاتور الأسود يتجسّد في عبارة بعينها ما فتئنا نُكرّرها كلّما أُتيحت لنا الفرصة: استعادة الأموال المنهوبة! نقولها وكأنها عبارة “علي بابا” الأسطورية التي تفتح مغارة الكنوز. هذا في حين أن طرفًا واحدًا في البلد يدّعي أن البلد مسروق ومنهوب، وهو طرف المسروقين – المنهوبين. أما الطرف الآخر، المُتَّهم نظريًا وكلاميًا ومنطقيًا وواقعيًا وافتراضيًا… بالسلب والنهب، فهو لا يعترف أساسًا بحصول سلب ونهب، ويُسمّي كل ما يقع تحت هذا البند بالـ”هدر”… وهو تعبير اختراعي عظيم يصلح على ما يبدو لتغطية كل السلب والنهب برداءٍ واقٍ لمرتكبيه، ونقطة علىى السطر. ثم يأتي الإعلام لـ”يُقنع” الناس بأن هذا كلّه ليس سوى مطر خير وندى فجر. فلا نهب ولا سرقة، بل مجرّد ضجيج ومؤامرة وحسد؛ المعنى أن البلد قد نُهِب، إنما لم يقم بنهبه أحد. ونحن سُرقنا ولم يسرقنا أحد. وهذا على غرابته ليس غريبًا بما يكفي لرفع الإصبع اعتراضًا. فقد سبقه القول إن هناك فسادًا يستشري، وليس هناك من فاسدين. ولو خيّرنا أصحاب  الأمر لاختاروا أن يُقال إن المواطن هو الفاسد…الناهب… وأنه لشدة فساده، نهب نفسه. وهذا أهون الشرور. فهكذا تنتهي الجلبة ويذهب كلٌ إلى بيته. إلى ذلك فالأفضل الآن وفي هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخنا (!) الأفضل والأجود والأحل (من  حلال)… بذل كل الجهود من أجل “عقد الخناصر”..( من دون مبالاة بكون الخنصر أصغر الأصابع وأضعفها وآخرها على الحافة…)، كما أن الأجدى والأحوَط كذلك العمل على مسألة “رصّ الصفوف”. فالصفوف يلزمها رصّ، والمرحلة خطيرة… (إلى ما هنالك من تعاويذ تُستخدم في هكذا مناسبة لتضييع الشنكاش).

وضعوا قانوناً تحت يافطة “من أين لك هذا؟”؛ لكنهم لم يقولوا من أين لهم. جهدوا ويجهدون ومعهم جيوش المقلنسوين والمعممين لتبرير ثرائهم وثرواتهم إلهيًا، “الله رزق… هل تعترض على مشيئة الله!”… مع فارق هنا  أن من لا يقتنع لا يكون كافراً…بل عميلًا. أما أن السرقة والنهب يخالفان شجرة الإيمان وجوهر الدين، كل دين، فهذا لا يعنيهم ولا يشاهدونه ولا يتصاغرون إليه. فهم يسبحون في البحر ولا يرون الماء. وحتى لو حصل المحظور وجرى تحويل سياسي ما على المجلس “الأعلى” لعدم محاكمة الرؤساء والوزراء، فلا بأس ولا خطر. الأمر يتطلّب إجراءات ورقية تحتاج سنوات. ثم إن هناك دروعَ الحصانة تتربّص لقطع الطريق. فالحصانة في هذا البلد الذي مسخوه، لا تقتصر عندهم كما أراد المُشرّع، على حرية الرأي مثلًا، بل هي حصانة عامة شاملة مُطلقة تُغطي السياسي من نعل حذائه…وصعودًا. هذا مع هامش طريف يُفيد أنه لم يحصل أبدًا أن شهد المجلس الأعلى المُنوّه به أي إحالة عليه ولا محاكمة فيه منذ تأسيسه قبل 95 سنة (1926)، لأن السلطة المُخوّلة الإحالة عليه (مجلس النواب أو المجلس النيابي حسب المزاج) لم تحصل بتاتاً.

فإلى أين من كل هذا؟؟؟

ربما إلى  فراغ رئاسي مما تدرّبنا مليًّا عليه خلال السنوات الحريرية الآفلة (ولن يكون أكثر فراغاً…) وإما إلى “طائف جديد” لن يكون أقل ولا أكثر سوءًا. أما مَن لا زال يأمل خيرًا بما يُسمى “المؤتمر التأسيسي”، فهذا ولّى زمانه. وبالنسبة إلى صاحب الفخامة، ربما كان على أحد أن يهمس في إذنه بصوتٍ مسموع أن ما كان مُمكنًا له في أول سنتي العهد، وأحجم عنه، بات مستحيلًا في سنته الأخيرة، ولو أقدم عليه. وتخبزوا بالعافية.

النتائج: لا ممرّ لجبران باسيل إلى بعبدا… ولا أمل لسليمان فرنجية البتّة. الأفضل أن يتفكّر “أقوياء الأمس” بما هم مقبلون عليه… مع مجلس نيابي جديد لن يكونوا فيه أقوياء ولا على راحتهم كما اليوم، وسيكون عليهم، منذ الآن، تدبّر طُرقًا ووسائلَ لتقديم أوراق الطاعة والتأييد إلى راكب جديد في بعبدا سيتم إيصاله رُغم إرادتهم وفوق أنوفهم .

هل هذا تنجيم وضربٌ بالرمل…؟

لا أبداً…

بالنسبة إلى سعد الحريري أولاً…لا مجال لأن يكون “تحت جناح” سمير جعجع، لا سياسيًا ولا ماليًا. النتيجة إعلانه الخروج  من اللعبة… دلالًا كي يسارعوا إلى استرضائه واستعادته. وهو لا يصدّق نائبه مصطفى أنه واهم، على الرغم من أنهم ينفضون الغبار عن بهاء.

وضع رياض سلامة في السجن…! حلم إبليس بالجنة. سينتهي العهد ويبقى سلامة.

وليد جنبلاط… سيعمل كالعادة، على مواصلة الإرتزاق بالشعارات وتنفس أوكسيجين الرقص على الحبال.

الثنائي الشيعي…سيصبح  زواجاً مارونيًا… وتحت سقفه زيجات بالمتعة.

الكتائب… سيواصل الإبن الحفر في صخرة… حاكورة الوالد والجد.

والآخرون…! لم يعد من آخرين. فقط الناس…أهل البلد غير التابعين للأحزاب. وهؤلاء… غير موجودين.

  • محمود برّي هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى