لماذا تتهاوى “ديموقراطيّة” العرب؟

محمّد قوّاص*

بَينَ مَشهَدِ العراك بالأيدي داخل البرلمان الأردني، ومشهد تمرير التعديلات الدستورية في الأسبوع الماضي، مرّت خمسة أيام فقط كانت كفيلة بإنزال “وحي” أعاد الهدوء والتعقلن، وفرضَ – بإرادة يُشتبه أنها عُليا – ما يجب أن يكون. ولئن تمت هندسة المخارج عبر القنوات الخلفية وحول الموائد وداخل القاعات المغلقة، فإن الحكومة صوّبت أداءها وفعّلت دورها ضامنًا ومُطمئِنًا ومدوّرًا للزوايا النافرة.

وعلى الرغم من أهمية كثير من التعديلات الدستورية، إلّا أن مسألة إضافة عبارة “الأردنيات” إلى عبارة “الأردنيين”، كان لها الوقع الأكبر لما أثارته من نقاشٍ حول هوية الأردن وتشريعاته، وما يتسرّب من تلك الإضافة من “تحوّرات” على قانون الأحوال الشخصية، ما سعّر ذلك العراك داخل البيت البرلماني.

وفيما تمرّ تجربة الديموقراطية العتيقة في لبنان بمخاضٍ خبيث، وتمرّ تلك الحديثة في تونس بامتحانٍ صعب، فإن البرلمانات العربية (بما فيها تجارب المغرب والكويت والأردن) بقيت مُرتبكة، تُدار ولا تُدير، تصنعها السلطة ولا تصنع سلطةً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وإذا ما كانت البرلمانات داخل الديموقراطيات الحديثة تُمثّل الرأي العام وتتولّد عنها سلطاتٌ تنفيذية، فإن برلمانات المنطقة، وإن قُيّض لها افتراضًا تمثيل الرأي العام، بقيت تحت سقف “إرادة أصحاب القرار” ويتمّ حلّها والاستغناء عنها في حال نقيض ذلك.

والحال، وعلى الرغم من عدم طوباوية هذا المنطق، فإن الرأي العام ليس بالضرورة دائمًا على حق، وبالتالي فإن ما يُنتِجه من برلمانات ليس بالضرورة الترياق الأمثل. ولئن تكشف “المواجهات” في برلمان الأردن حول عبارة “الأردنيات” موقفًا صادمًا للأردن والأردنيين، لا سيما للمرأة الأردنية، فإن “الجهات العُليا” من خارج البرلمان هي التي تضبط، كما تضبط دائمًا، بوصلة البلد في كلّ ما هو سيادي يطال المجتمع والأمن والاقتصاد والدفاع.

يعترف عُتاة المُنظّرين الغربيين في العالم بأن الديموقراطية ليست نظامًا مثاليًا، لكنها تتحلّى بصفاتٍ أفضل، فإما الديموقراطية وإما الاستبداد. وقد خاض الغرب من أجل مُبرّر كينونته ووظيفته وهويته حربًا دموية كارثية ضد الاستبداد في نسخته اليمينية الهتلرية النازية، وأخرى باردة شرسة ضد نسخته الشيوعية اليسارية الستالينية، ولن يتخلّى العالم الغربي عن تلك الديموقراطية التي صنعت منه تميّزًا ومنحته التفوّق الأخلاقي في هذا المضمار. ومع ذلك، فإن دونالد ترامب فاز في العام 2016 (وفق النظام الانتخابي) بالرئاسة في بلاده، على الرغم من أن منافسته هيلاري كلينتون كانت قد حصلت على عدد أكبر من الأصوات على مستوى الاقتراع الشعبي. وسبق أن حصل ذلك تمامًا حين فاز جورج بوش الابن على منافسة آل غور في العام 2000.

أكثر من ذلك. يروح النقاش بعيدًا في مسألة الاحتكام إلى الأغلبية مقابل الأقلية في فلسفة الديموقراطية. صوّت نحو 52 في المئة في الاستفتاء حول ال”بريكسِت” في بريطانيا، مثلاً، لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مقابل نحو 48 في المئة صوّتوا لمصلحة البقاء. فمَن الذي قرر مصير بريطانيا؟ النسبة الغالبة التي تفوق نصف عدد المقترعين أم نسبة 2 في المئة فقط (وهي الفارق بين الأغلبية والأقلية) هي التي قررت مصير المئة في المئة من الشعب البريطاني؟

سيبقى الجدلُ مُستمرًّا. وما يهمّنا هو أن الديموقراطية والبرلمانات هما من سُبل إدارة الأمم، وليستا الأفضل والأكثر نجاعةً في كل زمان ومكان. فقوة دول عظمى في الماضي والحاضر ومناعتها لم تتحقّق عبر الديموقراطية (مثال روسيا والصين)، ناهيك عن أن وصفة الديموقراطية بالنسخ العمياء، أي التي لا تأخذ بالاعتبار موازين القوى ومنظومات المجتمع والثقافة والدين وثقل التاريخ، والتي تمّ الزجّ بها، عن حسن أو سوء نية، في منطقتنا قادت إلى ما تعرفه وعرفته بلدان عربية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة.

وتجربة الأردن التي نتناول مناسبتها تُعبّر عن عجز المنظومات المُنتخَبة عن تحديث المجتمع ونقل البلد من طورٍ إلى طور، وأن أمر ذلك ما زال، وحتى إشعارٍ آخر، يحتاج إلى تدخّل “الجهات العليا” لفرض ما لا يمكن للجدل المجتمعي العقيم أن يجيزه أو يتخلّص منه. والحال أن التجربة السعودية الحديثة تُظهر بما لا يقبل الشك الحاجة إلى ثورة تأتي من القمة، لا يُمكن أن يخوضها الرأي العام وحده، ولا يمكن لبلد ينشد السمو والحداثة أن ينتظر طويلًا النضج المجتمعي العام الذي قد لا يأتي أبداً.

ولئن تتخلّى الولايات المتحدة عن مشروع تصدير الديموقراطية وفرضها في المنطقة، فذلك أنها استنتجت أنها وصفةٌ لنشر الفوضى والفتن والعبث، على الأقل بالنماذج المباشرة التي خبرتها في العراق وأفغانستان، واستنتجت أنها لا تُعزّز المصالح الأميركية في بُلدانٍ يفتك بها الخراب، واستنتجت أن الديموقراطية، التي كادت تفتك بها “غزوة الكابيتول” في واشنطن قبل عام، تحتاج إلى مرحلةٍ انتقالية ولا يمكن فرضها بانبلاج “ربيعٍ” مُتعجّل مُرتجَل، بدا أنه عرضيّ يسهل السطو عليه من قبل قوى مُتجذِّرة لا تهمّها أي حداثة وتطور.

والحال أن مأزقَ الديموقراطية ماثلٌ للعيان في المثال السوداني الذي يحتل واجهات الحدث هذه الأيام. والصراع يجري بين “السلطة” بمعناها المتراكم، أيًّا كان تقييمنا لتلك السلطة، وفسيسفاء من الإرادات السياسية المُجتمعية التي تنبت على قواعد مناطقية وقبائلية وعرقية وإيديولوجية. وبتعدد تلك الإرادات وتشظّيها وتنافرها وتضاد مصالحها، تقدم للسلطة الحاكمة هدايا بديلة تَعِد بالعدم. واللافت، ومع الرفض المبدئي لاحتكار العسكر للسلطة، فإن مطالبة نقل السلطة من العسكر إلى المدنيين تفترض أن العسكر شرّ مطلق، وأن المدنيين (لأنهم مدنيون) هم خيرٌ مطلق، ناهيك عن أن ذلك المطلب ليس ديموقراطياً يخرج عن الصناديق، بل انقلابي يردّ عليه العسكر بالانقلاب.

ولا ريب أن تونس في هذا الإطار تُعلنُ من خلال حدثها فشل التجربة الديموقراطية، وعجز برلمانها عن نقل البلد من طور الاستبداد إلى طور الحداثة بالمعنى الذي تعرفه أوروبا على الأقل، وهي في الضفة القريبة المقابلة من البحر المتوسط. وفيما كشفت التجربة في العراق وتونس عن نوستالجيا لزمن الاستقرار النسبي الذي كانت توفّره الديكتاتوريات، فإن في مغامرة قيس سعيد ومصطفى الكاظمي، على اختلاف  التجربتين وتميّزهما، توقاً إلى عقد اجتماعي آخر يجري الاهتداء إليه بصعوبة، وأحياناً بيأس في كلا البلدين.

قد يكون مؤسفاً فشل الديموقراطية في منطقتنا، ومن الخطيئة نعي وجودها. غير أن الاعتراف بهذا الفشل بات واجبًا أخلاقيًا يُجيز البحث مليًّا في أسباب ذلك الفشل وحيثيّاته، ويدفع باتجاه توسّل منظومات حكم مُتَحرّكة ذات دينامية تحترم خصوصية كل بلد، على أن لا يكون الاستبداد بمعناه التقليدي البليد بديلاً. والبحث ليس من مسؤولية الدوائر الطامحة إلى التغيير الكبير فقط، بل هي من مسؤولية “الإرادات العليا” التي لم تُدرِك بعد أن الأزمان تتغيّر.

الإستبداد خطيئة وجب اجتنابها، والفوضى والعبث سرطانٌ مُدمّر لا أفق له، والحكمة تكمن في استخلاص العِبَرِ واجتراحِ خلاصٍ يقع بين الخيارين.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى