“المانيفِستو”

رشيد  درباس*

وَساسوا الأمر حين خَلا إليهمْ    بأهواءِ النفوسِ..فما استقاما
أحمد شوقي

توقّعتُ ردودَ الفعل على مقالي لشهر كانون الأول (ديسمبر) الفائت، وبخاصة مِمَن يقلقون لغموض موقف الرئيس سعد الحريري والتزامه بحبلِ الصمت. ولفتني أن ذلك القلق لم يكن محصورًا بجمهور المستقبل، أو بالطائفة السنية، بل إن نُخَبًا من مختلف الطوائف، لا سيما المسيحية، شاركتني الرأي في ما ذهبت إليه، وعَبَّرَتْ عن شعورِها بأن اعتكافَ الرئيس الحريري قد يُدخل المعادلة اللبنانية إلى حالةٍ مُلتبسة. وكان علي أن اتوقّع أيضًا مواقف مُناهضة، وهذا من طبيعة الأمور، فالإمام الشافعي يقول: “رأيي صوابٌ يَحتمِلُ الخطأ، ورأيُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب”. وأنا أعلم أن شرائح كبرى تُحَمِّل خيارات الرئيس الحريري مسؤولية تردّي الأوضاع، وأن كثيرين يرون الأوان قد آنَ للخروج من وراثة الدم من أجل البحث عن نمط جديد في القيادة لا ينحصر فيه القرار بشخصٍ واحد؛ لكنني فوجئتُ فعلًا بقلّة لم تُثبِت للبنانيين حتى الآن جدارتها السياسية لأنها لم تصُنْ تليدًا، ولم تُحْدِثْ طارفًا، بل اكتفت بالبناء على تراجع الحالة الحريرية، ظنًّا منها أن تلك الحالة كانت حاجزًا يحول دون ظهور مواهبها، فشنّت هجومًا مُقذِعًا على دعوتي للرئيس الحريري أن يُحاوِلَ ترميم صَفِّه في تجربةٍ جديدة قائمة على إعادة الاعتبار للقضية اللبنانية بالرغم من عسره المادي الذي بات معروفًا. لكن مقالي هذا الشهر، ليس للرد على ما قيل، بل هو استكمالٌ لبحثِ أفكارٍ يجري تداولها في مختلف الأوساط السياسية والشعبية، في مرحلةٍ أصبح فيها للانتخابات النيابية مواعيد معلومة، وللترشيحات والتحالفات وتركيب اللوائح مُهَلٌ قاطعة، فكل فريق يقوم باستقصاءاته ويسبر الأغوار المجهولة، ويبحث عن حلفاء، ولكن فوق أرضٍ رجراجة عصفت بها انتفاضة 2019، وأفرزت منها قوى غامضةَ الأحجام والتأثيرات والتوجّهات.

قد لا أُجاري بعض مَن يعتقد بأن النتائج الانتخابية ستنقل لبنان من حالٍ إلى حال، فقبل ذلك أُطيح  بالأكثرية بالإغتيال والانكفاء والتبعثر من خلال ازدواجية السلطة أو سطوة السلاح، بعد التنكر لشعار “فليحكم من يفز”، ولكنني أوافق على أنَّ أمورًا واضحةً ستنجم، أهمها أن الصناديق إذا رَفَضت بأكثريةٍ واضحةٍ الانصياعَ للأمر الواقع واختارت نوابًا يقفون بوجه ارتهان الدولة للصراعات الخارجية، وتفتيت المؤسّسات وتجميد الاستحقاقات، والعبث بالقوانين والاستخفاف بالقضاء، فإنها ستضع نهج الهيمنة والتسلّط في مأزق سياسي وأخلاقي يصعب تجاوزه بالركون إلى القوة المُفرطة فحسب.

هنا أفتح حاشية لأقول، إن المشرق العربي لم يعرف في تاريخه تنظيمًا مُماثلًا ل”حزب الله”، بل إن حركة “الإخوان  المسلمين”،على اتساعها وصلابة تنظيمها، وتخطّيها لحدود الدول، لم تبلغ الانضباط الذي يتمتّع به الحزب ولا القدرات العسكرية النظامية المُعلَنة التي تجعل منه أقرب إلى الدولة منه إلى فريقٍ سياسي. بل هو يُدير دولته تلك بكفاءةٍ عالية جدًّا، كما يُديرُ مصالحه في “دولتنا” بطريقةٍ لا يُجاريه فيها أحد بمؤازة جمهور صارم الالتزام، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه قوةٌ إقليمية يُحسَب حسابها وأنها ذات حرية قرار تحت مظلّة ولاية الفقيه، وصلنا إلى نتيجة بدهيةٍ أن الدعوة لِجَبْهِ تلك الحالة بتنظيمٍ مُماثل أو بالتسلّح، ضربٌ من المُغامرة الساذجة، كما أن الحديث عن الفيدرالية الرائج في هذه الأيام لا يفضي على الإطلاق إلى النأي بالنفس عن الهيمنة، لأن إعادة النظر في الخرائط ليس وليد رغباتٍ محلية، كما أن دويلة مُموَّهة بعنوان لامركزية إدارية ومالية هي دويلة ذِمِّية بحكم الجوار والتداخل واختلال نسبة القوى.

لا أظنّ أن لبنان قد عانى في تاريخه وضعًا مُعقّدًا كهذا، ما يعني أن الحلول ليست مرهونة ببعض المعاملات التبسيطية بل تحتاج إلى تفكيرٍ عميق ومناقشات واسعة تقوم على قاعدة أساس، هي أن الدولة اللبنانية غير قابلة للاقتسام، وغير قابلة للارتهان المحوري، وغير قابلة لإعادة تركيبٍ مُتعسّفة، كما أن الشعب اللبناني المُنقسم  سياسيًّا، مُتّحد في المصالح والبلوى، وهذا حال باقي الشعوب. ومناط الحلول هو بالاحتكام إلى الحياة الديموقراطية غير المُزَيَّفة أو المُهجّنة بمفردات التوافق وحق النقض. ليس كلامي هذا من باب التنظير المثالي، لأن التضخّم النقدي والهندسات المالية، واحتباس الأرصدة  جمعت الشمل رُغم أنف السياسة، بل إن هذا التردّي المُفقر لا يقتصر على طائفة، وهو بلا شك نتيجة واضحة لنهج الفساد وإرهاق الخزينة وضرب المصالح الوطنية لحساب مصالح لا يوافق عليها معظم اللبنانيين. وعليه، فإن الخُطَبَ التحريضية المتهاترة لم تعد تؤدّي الوظيفة التي كانت تؤديّها في السابق، مَثَلُها كَمَثَل اتفاق مار مخايل الذي أشار إليه رئيس “التيار الوطني الحر”، جبران باسيل، ولَوّح بالتنصّل منه، بعد استنزاف منافعه حتى الثمالة. هنا أسمح لنفسي بملاحظة بين قوسين وهي أن الذي نهى بالأمس عن خلق كان يأتي بمثله في حكومة تمام سلام، حيث كان يستنكف فجأة عن الحضور، فيؤازره في ذلك وزراء حركة “أمل” و”حزب الله”، فيمتنع الرئيس عن الدعوة حفاظًا على اكتمال المُكوّنات، فما هو الفرق إذًا بين قبل وبعد؟!

خلاصة ذلك أن أيّة تسوية داخلية أو خارجية أو مُختلطة، مرهونةٌ بإعادة التوازن السياسي الوطني، ليس بمحاولة التماثل كما أشرت، وإنما بإعلانٍ سياسي يكون بمثابة “المانيفِستو” الذي تُوقِّع عليه، بصدق، القوى المُتمسّكة بوجود الدولة، والمُتضرّرة من الحالة اللبنانية الموصوفة. ولعلّ المذكرة التي قدمها الرؤساء السابقون الخمسة للأمين العام للأمم المتحدة، وكذلك لقاء رؤساء الطوائف معه، بداية صالحة لتشاورٍ أشمل يقوم على إعادة تظهير الجوامع التي أفرزها قرن من عمر الدولة، فصمدت كما الجبال، وتدفّقت كما الأنهار، وأصبحت روابطَ لا فكاك منها، وإن نزعَتْ إراداتٌ ضاقت بنبضِها صدورُها، إلى التملّص منها. ومن تلك الجوامع أن الدورة الاقتصادية في حالتي الركود والازدهار تُنظّم مصالح الناس جميعًا، وأن مبادلاتنا تقوم على العملة الوطنية في حالتي الصمود والتضخم، وأن عرض المستطيل الجغرافي ملازم لطوله وإن تَفاوتا، وأن الجوف الجيولوجي لم يتخذ لنفسه مذهبًا أو دينًا حتى الآن، وأنه يحنُّ لامتدادَيْهِ السوري والفلسطيني بحكم الأخوّة والتضاريس، وأن بحارًا وصحراءَ ودولًا تحول دون التحامها بالمشروع الإيراني الذي هو، على طموحه وصموده وتصميمه، أثقل وطأة من أن يتحمّله الكيان اللبناني المُركَّب بدقّةٍ شديدة، بدليل أن التمادي في توريطه بصراعات المنطقة أدى إلى إفقار شعبه، وهو الآن يهدد بزلزلته كيانًا وأرضًا.

لست أدري إن كان ينبغي لي أن أصف الدولة اللبنانية بلوحةٍ فنّية، تداخلت فيها الألوان وانسجمت الخطوط، واتّصل أبيض الذرى بأبيض الرذاذ بخطفة عين، وصمد أخضرها في وجه النار، وأغدقَتْ ينابيعُها برغم التلوث. لكنَّ هذه المساحة التي صانت الفصحى، واستقبلت اللغات والجامعات وأنشأت المستشفيات وحَبَّرت الصحف، وأتخمت المطابع، وامَّحت فيها الأمية، وأنشأت المصارف، لا يمكن أن يضاف عليها سنتيمتر واحد من ألوانٍ جديدة، فلا نمط العيش يسمح، ولا نمط الإنتاج، ولا المناخ الثقافي، ولا المصالح الاقتصادية؛ هذه الثوابت تستحق ممن يُدينون لها بالهوية أن يلتفّوا حولها، ويعلنوها بلا حاجة إلى طاولات الحوار المُتلِفة للوقت.

أما عن الانتخابات، وسُبُل خوضها، وبخاصة من قبل الطائفة السنّية المُصابة بكدماتٍ وطنية، فلا مناصَ لها من دورها الوطني الجامع، ومن الخروج من التراخي؛ وهذا واجبٌ ينبغي لسعد الحريري أن يعود إليه، وللحضرة السياسية المُتمثّلة بالرؤساء السابقين أن تكون له منصةً جامعة تصون ولا تُبدّد، تحمي ولا تُهدّد، تستقطبُ الكفاءات والأجيال المُعتَرِضة، وتستلهم نبض الشارع من خلال ما أفرزه من إرهاصات، بهدف الاندماج الإيجابي الحيوي في حالةٍ وطنية يجمعها “مانيفِستو” واقعي، أساسه ترميم الدولة والانتقال الآمن بها إلى قرنٍ جديد في خريطة الزمان والمكان.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى