الرسمُ الذاتي: براعة؟ أَم نرجسيَّة؟ (1 من 2)

“رامبرانت ضاحكًا” (1628)

هنري زغيب*

في تاريخ الفن التشكيلي، الرسم خصوصًا، يَدرُج أَن يرسم الفنان وجهه في أَوضاع مختلفة، فتكونَ تلك اللوحات جزءًا أَساسيًّا من تراثه. على أَن ما يطرحه النقَّاد عادةً والمحلِّلون في دراسة اللوحة أَو الظاهرة: هل براعةٌ أَن يرسم الفنان وجهه أَمام مرآةٍ أَو بدونها؟ أَم هي نرسيسية الفنان في إِضافة تعابيرَ لوجهه، أَو في نظرته، يريدها تكون إِذ هي لا تكون؟

رامبرنت نموذجًا

في آثار العبقري الهولندي رامبرانت (1606-1669) مجموعةٌ من 80 لوحة رسم ذاتي (پورتريه)، وضعها الرسام لوجهه أَو لبعض جسمه، بدءًا من أُولاها رسامًا في مطلع شبابه، حتى أَخيرتها مبدعًا مكرَّسًا قبيل وفاته، يمكن لِمُشاهدها أَن يتابع تطوُّر الوجه وتعابيره وتكاوينه بين الفُتُوَّة والشيخوخة، في براعة نادرة الريشة لهذا المبدع الذي وسَمَ القرن السابع عشر بروائعه الخالدة مثل “درس في التشريح” (1632) و”الحرَسَ الليلي” (1642) وسواهما. لكن اللافتَ في آثاره تلك اللوحاتُ والرسومُ الذاتية (بين زيتية ومخططات ورسوم بالقلم). وكان رائدًا في عصره بهذا الفن الخاص، لا في نقْل شَبَهِه في اللوحة بل في التعبير الذي كان يضعه الرسام لوجهه ولتفاصيل في نوع الملابس الخاصة عهدئذٍ.

لِـمَ هذا “الكَـمّ” من اللوحات الذاتية؟ ليُظهِر تطوُّر تفكيره وحالاته النفسية في أَوضاع مختلفة ومراحل متعاقبة من حياته، ما لم يكن ممكنًا لأَيِّ كاتبِ سيرةٍ أَن يَبْلُغها مهما بَرَع في تحليلاته واستقصاءاته البيوغرافية. فكأَن تلك اللوحات الثمانين سيرةٌ ذاتيةٌ بالريشة لن يَبْلغ شفافيَّتَها قلمُ كاتب.

أَقتطف هنا سبعَ لوحات فقط تتيحها لي مساحةُ هذا المقال.

  1. رامبرانت ضاحكًا. زيتية رسَمها سنة 1628 وكان في الثانية والعشرين. هي على الأَرجح، بين ما بقي من أَعماله، أَقدمُ لوحة ذاتية لوجهه، يظهر فيها أَثناء لحظة استرخاء آلت إِلى ضحكة حُبُور.
  2. العينان المذهولتان. رسْم بالقلم الرصاص وضعه سنة 1630. اعتمده مؤَرخ الفنون الهولندي إِرنست ڤان دُو ويتيرِنْغ (1938-2021) مع أَربعة رسوم أُخرى لرامبرانت كي يَدرس من خلالها براعةَ الرسام الفائقةَ في إظهار نفسيته من خلال تعابير الوجه والعينين، خصوصًا في ذاك الرسم بالذات ذي العينَين المذهولتَين المشدوهتَين والشفتَين شبه المنفتحتَين.
  3. الـمُواطن الأَنيق. رسَمها سنة 1632، وهو شابٌّ يرتدي الزي الرسمي لمواطن يعتمر قبَّعةً عريضة وواسعة كانت دارجة عصرئِذٍ، مع شَعر طويل ينحدر إِلى رقبته، وياقة بيضاء عريضة تدل على ملامح بورجوازية، وسلسال ثمين يتدلَّـى من رقبته.
    “الثوب الرافل” (1640)
  4. الثوب الرافل. زيتية رسَمها سنة 1640، وكان في الرابعة والثلاثين. يعتمر فيها قبعته المأْلوفة، ويرتدي ثوبًا فخمًا من أَزياء القرن السادس عشر، ما لم يكن مُتاحًا إِلَّا لأَغنياء العصر. ويبدو فيها رامبرانت متَّكئًا على رف خشبي يذكِّر بما جاء كذلك في لوحة رافايـيـل “بالداسار كاستيليوني” (1515) ولوحة تيتيان “الشاعر آريُوسْتْ” (1510). وفي نظرة رامبرانت واضحةٌ ثقةُ الفنان بقدرته الفنية وبراعة ريشته كما يتَّضح من نظرته المباشرة إِلى مَن يرى لوحته. وهي دُرْجة تعهَّدها رامبرانت في جميع لوحات رسمه الذاتي.
    “بالقبَّعة والياقة المرفوعة” (1659)
  5. بالقبَّعة والياقة المرفوعة. زيتية رسَمها سنة 1659. ويبدو فيها الرسام بقبَّعته المعتادة، وبنظرة فيها الكثير من التعبير الحزين والقَلَق، لأَن الفنان وضَعها فترةَ كان يمر في مرحلة صعبة من الضائقة المالية التي حاصرته في سنواته الأَخيرة. لذا رسَمها بأَلوان قاتمة أَضفت على جوِّها العام مسحةً غامقةً من العتمة المحيطة. وهنا أَيضًا، في جلسته، يذكِّر بهذه الوضعية ذاتها التي كانت سائدة في أَعمال مبدعي عصر النهضة الإِيطالية بين القرنَين الخامس عشر والسادس عشر.
  6. الدائرتان. زيتية وضَعها رامبرانت بين 1665 و1669. وكمعظم أَعمال رامبرانت في هذه السن (كان بلَغ الستين) أَخذَت لوحاته تتَّخذ طابعًا أَكثر جدية على بعض عُبوس. وهذه اللوحة – بين شقيقاتها في تلك المرحلة الأَخيرة من حياته – تتميز بحضور دائرتَين كبيرتَين حوله، لم يُجمع النقاد على شرح معناهما من ريشة الفنان. منهم من حاول أَن يجد فيهما براعة الرسام في حفر تينك الدائرين بهذه الدقة، كما براعة المبدع الإِيطالي جيوتُّو دي بوندوني (1267-1337) في رسم دائرة كبيرة أَمام صورة البابا. ورأَى فيهما آخرون خارطة قديمة كانت سائدةً في عدد من اللوحات الأَلمانية فترتئذٍ.
  7. الغُروب. هي إِحدى ثلاث زيتيات أُخرى كانت آخرَ ما رسَم رامبرانت سنة 1669 قبل أَسابيع من وفاته. ويبدو فيها الرسام متهدِّج القسَمات، كما في معظم أَعماله الأَخيرة، بضربات ريشة قوية وصاخبة في آن. وتبدو يداه في هذه اللوحة مكتوفتَين على صدره، وهي وضعيَّة كان يتجنَّبها في لوحاته السابقة عند جلوسه أَمام المرآة لنقْل تعابيره إِلى لوحاته.

هي نبذة قصيرة عن فن البورتريه الذاتي الذي اعتمده رسامون كثيرون لإِحدى عاطفتَين قد تكونان متعادلتَين: إِحداهما رغبةُ إِظهار البراعة (وهي تختلف عن براعة الرسام في وضع بورتريه لشخص آخَر أَمامه)، والأُخرى عاطفة النرجسية التي غالبًا ما تعتمر في نفسية الفنان المبدع (شاعرًا كان أَو موسيقيًّا أَو رسامًا أَو نحاتًا أَو ممتهِنًا أَيَّ دُربة فنية أُخرى).

من أُولئك الرسامين أَختار نخبةً أَعرض رسومهم الذاتية في المقال المقبل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى