أيتها السجادة أَخبرينا حكاياتك

“سجَّادة الرؤْيا” ممدودةً على طولها (140 مترًا)

هنري زغيب*

حين منظمة اليونسكو قسمَت التراث اثنين: ماديًّا وغيرَ مادي، كانت ترمي إِلى تخصيص كل فئة منه بالدراسات الـمُشْبَعة موادَّ وتحليلًا وحفظًا في الأَماكن والذاكرة.

من هذا التراثِ صُنْعِ الأَيدي الكريمة: المنسوجاتُ اليدويةُ التي لحياكتها براعةٌ خاصة كثيرًا ما أَنتَجَت صُوَرًا ورُسُومًا ووُجُوهًا مذهلةَ الدقة خطوطًا وأَلوانًا وأَمانةَ تعبير. واشتهرت منها حرفةُ النَول التي خفتَت اليوم أَمام النسيج الصناعي، ولم تَبْقَ منه إِلَّا ملامحُ وحِرَفيون مَهَرة يجاهدون كي يحافظوا على إِرثٍ وَرِثوه وتراثٍ يحرصون عليه في بلدان عربية عدَّة.

سجَّادة “صيد وحيد القرن”

منسوجات القرون الوُسطى

في هذا المقال أَذهب إِلى الغرب وأَبتعد إِلى الماضي، لأُضيْءَ على منسوجات يدوية، بخيطانِ الصوف أَو الحرير. سجادات جدارية تروي بحياكاتها حكايات من التاريخ والميثولوجيا والكتاب المقدَّس. وهي من أَقدم أَشكال المنسوجات حياكةً وبراعةً، عرفها الغرب بين النصف الآخر من القرن الرابع عشر ونهاية القرن الثامن عشر. كانت مقصورة أُوروپيًّا على النخبة من الملوك والحكام والأَشراف والنبلاء، يُزيِّنون بها قصورَهم داخلًا، أَو ساحاتٍ خارجيةً تَشهد على ترفهم وثرواتهم. وفي التاريخ أَن ملك إِنكلترا هنري الثامن  (1491-1547) كان يمتلك منها نحو 2000 سجادة موزَّعة على قصوره.

سجَّادة “السيِّدة ووحيد القرن”

خمسة نماذج

من هذه الروائع النسيجية أَقتطف خمسًا متنوعة المواضيع.

  1. “سجَّادة الرؤْيا”: في القرن الرابع عشر كان “سفْر الرؤْيا” من الحكايات الشعبية في التداول، دلالةً على الصراع الدائم بين الملائكة والحيوانات. تم نسْج هذه السجادة في پاريس بين سنتَي 1377 و1382 بطلب من دوق آنجو (جنوبيّ شرق فرنسا) لويس الأَول (1339-1384) منقولةً عن “سِفْر رؤْيا يوحنا”. طولها 140 مترًا، علُوُّها 6 أَمتار، تضم 90 مشهدًا، منسوجة بالخيطان الملونة على ستة أَقسام متجانبة. صمَّمها الفنان الهولندي جان بوندول ونفَّذها حِرَفيون فرنسيون. يرجِّح باحثون أَن لويس الأَول كان عارضَها خارجًا على طول السور في حديقة قصره المسقوفة. والسجادة اليوم معروضة في قصر آنجيه (غربي وسَط فرنسا).
  2. “صيد وحيد القرن”: هي إِحدى 7 سجَّادات جدارية منسوجة في پاريس بين سنتَي 1495 و1505، بخيطان صوف وحرير ذات دقة عجيبة في إِبراز التفاصيل الدقيقة عن رجال يصطادون وحيد القرن في غابة فرنسية. كل سجادةٍ من السَبْع “تروي” لحظات مختلفة من عملية الصيد، منذ بدايتها حتى الانقضاض على وحيد القرن. وللباحثين تفسيرات عدة حول رمز السجادات، بينهم مسيحيون رأَوا في وحيد القرن رمزَ المسيح، وفي المطاردة والصيد رمزَ الاعتقال والصلْب. السجَّادة اليوم موجودة في متحف الأَروقة (جناح تابع لمتحف متروپوليتان في نيويورك).
  3. “السيِّدة ووحيد القرن”: كان وحيد القرن عصرئذٍ رمزًا شائعًا في المنسوجات اليدوية. وهذه السجَّادة هي من أَبرز الأَعمال الأُوروپية في القرون الوسطى، مصمَّمة في پاريس ومنسوجة بخيطان الصوف والحرير في مقاطعة فلانْدِرْز (بلجيكا) بين سنتَي 1484 و1500. تتشكَّل من ستة أَقسام متجانبة، في كلٍّ منها سيدةٌ نبيلة، إِلى يسارها وحيد القرن، وإِلى يمينها أَسد. يقال إِن الأَقسام الخمسة ترمز إِلى الحواس الخمس، والسادس يرمز إِلى الحب. والسجادة اليوم موجودة في متحف كلوني (پاريس)، وظهرَت في بعض الحلقات من مسلسل أَفلام هاري پوتر.
    سجَّادة بايو
  4. “سجَّادة بايو” Bayeux: ليست منسوجةً بالخيطان كسائر السجَّادات بل مطرَّزةٌ بين سنتَي 1050 و1099. طولُها 70 مترًا وعرضها خمسون، تمثل معارك غزو إِنكلترا سنة 1066 في 58 مشهدًا مختلفًا، بدءًا من رحلة النورماندي سنة 1064، والحوار مع الملك إِدوارد، حتى نهاية المعارك سنة 1066. تم تطريزُها بطلب من أُسقف بايو أُودون دو كونْتْڤيل لتزيين كاتدرائية بايو الجديدة في القرن الحادي عشر. وعدا إِبرازها أَسلحةَ ذاك العصر القتالية، تُبرز تفاصيلَ الحياة اليومية عصرئذٍ. تم إِنقاذها من الفوضى في اضطرابات الثورة الفرنسية، ومن احتلال النازيين فرنسا. وهي اليوم موجودة لدى متحف المنسوجات اليدوية في بايو (منطقة النورماندي).
    سجَّادة “صيد البجعة وثعلب الماء”
  5. “صيد البجعة وثعلب الماء”: منسوجة في مدينة آراس (عاصمة مقاطعة آرْتْوى – شمال فرنسا) بين سنتَي 1430 و1450. مؤَلَّفة من أَربعة أَجزاء كبرى متجانبة، كلُّ جزء من 3 أَمتار طولًا، يمثِّل رجالًا ونساءً من القرن الخامس عشر في ملابس رسمية يصطادون حيوانات: خنازير، دببة، بجعًا، ثعالب ماء، غزلانًا. وهي المنسوجة الوحيدة الباقية من ذاك العصر قبل 600 سنة، كانت لدى الأُسرة الحاكمة في ديڤونْشَايْرْ (جنوبي غرب إِنكلترا). بقيَت معلَّقة داخل قصرهم في تْشاتْسْوُورْثْ نحو 500 سنة قبل أَن تُنقَل إِلى “متحف ڤيكتوريا وأَلبرت” في لندن. وقبل 4 سنوات أُعلن عن إِعادة سجَّادتين من الأَربع إِلى قصر تْشاتْسْوُورْثْ، بطلب من دوق ديڤونْشَايْرْ الذي اعتبر “امتيازًا فريدًا” أَن تكونا في قصره.
  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى