فَورَةُ التَقارُب: أبوظبي تُعيدُ ضَبطَ علاقاتِها مع أنقرة

يُمثّلُ الاستثمار الإماراتي البالغ 10 مليارات دولار في تركيا مجرد رأس جبل جليد في عملية التطبيع. فقد يكون اللقاء الودّي بين القادة الإماراتيين والأتراك مؤشرًا إلى تقاربٍ مُحتَمل، في رسالة موجّهة إلى خصوم الفريقَين.

الرئيس بشار الأسد والشيخ عبدالله بن زايد: زيارة أزعجت الأميركيين.

 

حمدالله بيكار*

أطلقت الإمارات العربية  المتحدة فورةً من التطبيعِ الديبلوماسي في العام 2020. فالتطبيع مع إسرائيل في آب/أغسطس 2020 أعقبه انتهاء الخلاف مع قطر في كانون الثاني/يناير 2021، في خطوةٍ كانت، نسبيًا، أكثر شعبية وأقل جدلية من التطبيع مع إسرائيل. وأخيرًا، أعادت الإمارات تأهيل علاقاتها مع الرئيس السوري بشار الأسد، على الرغم من الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي حول عودة سوريا إلى الحظيرة الديبلوماسية.

خلال العقد الأخير، كانت تركيا والإمارات عدوَّتين لدودتَين، وتورّطتا في العديد من الأزمات الإقليمية، ما أفضى إلى عداوةٍ وخصومةٍ بينهما وبين أفرقاءٍ إقليميين آخرين. والآن، يبدو أن البلدَين يسلكان طريق التطبيع على مستوى العلاقات بينهما، وقد ساهمت زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى أنقرة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر في إضفاءِ طابعٍ رسمي على هذا التقارب.

لقد انصبّ اهتمامُ وسائل الإعلام على الوعود الإماراتية بالاستثمار في الأسواق التركية، ولكن صور اللقاء الودّي بين القائدَين اللذين كانا حتى ذلك الوقت في موقعَين مُتعارضَين، تُوَجِّهُ رسالةً واضحة إلى منافسيهما وخصومهما بأن السلامَ مُمكنٌ، حتى لو أنه لم ينقضِ وقت طويل على الخطاب العدائي بين الطرفَين، ولا يزال هذا الخطاب يُبَثّ على نطاق واسع في وسائل الإعلام التابعة للحكومتَين. إذًا يمكن اعتبار هذا التطبيع بمثابةِ تمهيدٍ لتطبيعٍ تُركي مُحتَمَل مع المملكة العربية السعودية ومصر وإسرائيل وحتى سوريا (حتى إذا لم يحدث ذلك قريبًا). وفي الوقت نفسه، قد ينطبق ذلك على العلاقات الإماراتية مع إيران.

جذور العداء

أطلقت الإمارات وتركيا فورةً من التطبيع في العامَين المُنصرمين، مع ازدياد خصومهما الديبلوماسيين خلال العقد الماضي. وهذه الزيادة في العداوات لم يكن مردّها فقط إلى التطلعات إلى تعزيز النفوذ، بل كانت أكثر ارتباطًا بالتغييرات الإقليمية والعالمية التي أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وعلى رأسها اجتياح أفغانستان والعراق والانتفاضات العربية. فقد تسبّبت هذه الأحداث بفراغٍ في السلطة في المنطقة مع سقوط مراكز النفوذ العربية التقليدية، بغداد ودمشق والقاهرة، وحلول قوى أصغر مكانها من خلال الدوحة والرياض وأبو ظبي. وفي حين حاولت الدولتان الاستفادة من الفراغ، وقفتا على طرفَي نقيض في جميع المسائل تقريبًا. وقد زعمت الإمارات أن تركيا تطمح إلى إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية على حساب العرب، فيما تُلقي تركيا باللائمة على الإمارات في زعزعة استقرار المنطقة.

وقفت تركيا إلى جانب المُحتجّين في عددٍ من الدول العربية خلال “الربيع العربي”، فيما اعتبرتهم القيادة الإماراتية تهديدًا أساسيًا مع اكتساب جماعة “الإخوان المسلمين” نفوذًا سياسيًا في مصر وتونس. والحال هو أن الإمارات رأت في صعود الإخوان قضيةً تتعلّق بالأمن القومي، فأعربت عن تنديدها بجميع الأفرقاء الذين تربطهم علاقات وثيقة بالإخوان. وعلى سبيل المثال، كانت الأزمة القطرية التي استمرّت ثلاث سنوات ونصف السنة جُزءًا من تداعيات العلاقات الوثيقة التي تُقيمها القيادة القطرية مع الإخوان. ولكن بغض النظر عن نتيجة الاحتجاجات، لم تُحقّق تركيا ولا الإمارات مكاسب كبيرة، نظرًا إلى استمرار النزاعات، الديبلوماسية والعسكرية على السواء، لفترة أطول مما كان مُتوَقّعًا.

تأثير بايدن؟

لم تُحقّق الاتهامات المُتبادلة ثمارًا لأيٍّ من الطرفَين؛ هذا ما تبيّن قبل مغادرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب منصبه، ولكنه تأكّد سريعًا مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وعلى الرُغمِ من أنه اعتُبِر أن الرئيس بايدن هو السبب وراء عدد كبير من حالات التطبيع في المنطقة، مثل التطبيع بين قطر وباقي دول الخليج، وبين السعودية وتركيا، وتركيا ومصر، ودول أخرى كثيرة، إلا أن إسنادها إلى بايدن قد يؤدّي إلى ترسيخ العدسة المُتمَحوِرة حول الولايات المتحدة، وبالتالي إلى استبعاد المعطيات الإقليمية الأساسية. أولًا، انطلق جزءٌ كبير من المفاوضات الإماراتية-التركية قبل وقتٍ طويل من الموعد الذي كُشِف عنه في العلن. فقد صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مثلًا بأن أجهزة الاستخبارات عقدت اجتماعات في ما بينها طوال أشهرٍ قبل قدوم مستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان في زيارة إلى تركيا. هذا فضلًا عن أن نَسْب التطبيع إلى بايدن يحجب الأثر الشديد الذي خلّفته جائحة كوفيد-19 في المنطقة: فقد شهدت الدول تقلّصًا كبيرًا في الاقتصاد بسبب القيود التي فرضتها الجائحة، ولذلك، غالب الظن، أن التطبيع الديبلوماسي سيساهم في توليد منافع اقتصادية وتيسير الانتعاش.

صحيح أن بايدن شجّع القوى الإقليمية على التواصل في ما بينها، لكن السبب وراء هذه المصالحات لا يعود فقط إلى شخصية بايدن وحزبه، بل يعود، على نحوٍ أكثر أهمية، إلى إدراكِ القوى الإقليمية جماعيًا بأن الولايات المتحدة لم تعد تكترث بالشرق الأوسط وبأنها جاهزة لمغادرته. وقد كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان من الأسباب التي دفعت بالقوى الإقليمية إلى طرح علامات استفهام حول علاقاتها مع واشنطن. حتى إن بعض المحلّلين اعتبر أن التقارب الإماراتي-التركي يشكّل خطوة نحو حقبة ما بعد أميركية في المنطقة، مع ما يرافقها من امتعاض أميركي. فعلى سبيل المثال، لم ترحّب إدارة بايدن برغبة الإمارات في التطبيع مع سوريا وزيارة دمشق التي قام بها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد.

واستعداد الإمارات للتطبيع لا يقتصر على علاقاتها مع تركيا. فهي تُناقش أيضًا مع إيران إمكانية التطبيع، أو أقلّه هناك تواصلٌ بين البلدَين لتجنّب النزاع، وقد قام الشيخ طحنون بن زايد بزيارة إلى طهران أخيرًا للتباحث في الشؤون الإقليمية والمباحثات النووية.

طَوقُ نجاةٍ للاقتصاد التركي أم مكاسب متبادلة؟

نظرًا إلى المشكلات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد التركي بدءًا من التضخم الشديد وصولًا إلى البطالة، تتعرّض الحكومة للانتقادات وتُوجَّه إليها مناشدات تكرارًا لإجراء انتخابات مبكرة. يُضاف إلى هذه التطورات الاقتصادية التدهور الأخير في قيمة الليرة التركية، ما جعل الاقتصاد البند الأكثر أهمية على جدول الأعمال التركي. فقبل يومٍ واحد من الاجتماع الذي عُقِد بين بن زايد وأردوغان، خسرت الليرة التركية نحو 15 في المئة من قيمتها مقارنةً بالدولار الأميركي، وتراجعت إلى مستوى تاريخي مع بلوغها 13.50 مقابل الدولار.

وبما أن جدول أعمال بن زايد خلال الزيارة اشتمل على التفاوض على اتفاقات استثمارية وعلى التعاون الاقتصادي، بدت الزيارة بمثابة طوق نجاة للاقتصاد التركي. وقد تحدثت وسائل الإعلام عن استثمارات بقيمة مئة مليار دولار، ولكن الأرقام الأكثر واقعية تتراوح من 10 إلى 20 مليار دولار: فقد أعلنت أبو ظبي أخيرًا عن تخصيص 10 مليارات دولار للمجالات التي تشمل الطاقة والبنى التحتية والتمويل.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة جاءت في الوقت الذي كانت تركيا بأمس الحاجة إلى الاستثمارات الخارجية، إلّا أن هذا الاستثمار هو أيضًا أولوية لدى الإمارات. فلطالما كانت أبو ظبي، الإمارة الغنيّة بالنفط، فريقًا في الاستثمارات الدولية. وتكتسي الاستثمارات الخارجية أهمية محورية بالنسبة إلى الإمارات لأسباب عدة: فهي تسعى منذ فترة طويلة إلى تنويع اقتصادها القائم على النفط، ما يعني أنها تبحث دائمًا عن استثمارات في مختلف أنحاء العالم. وتركيا على جدول أعمال الاستثمارات الخليجية منذ العام 2002، ولكن الأزمات الأخيرة بينها وبين السعودية والإمارات جعلت قطر لاعبًا أكثر أهمية في الاقتصاد التركي. وقطر هي من الجهات الاستثمارية المهمة في القطاعَين المصرفي والعقاري، والبورصة ومراكز التسوّق في تركيا. تبعًا لذلك، لا يمكن تجاهل الحسابات الإقليمية للإمارات في إطار سعيها إلى إضعاف قطر التي ازدادت زخمًا بفعل المصالحة الأخيرة.

ترغب السعودية أيضًا في تنويع اقتصادها خارج القطاع النفطي، ما يولّد أجواء من المنافسة مع الإمارات. فالمملكة تسعى راهنًا إلى أن تكون مركزًا إقليميًا للشركات الدولية مكان دبي التي لطالما لعبت هذا الدور. ويبدو أيضًا أن التقارب السعودي-القطري يتحقّق بوتيرة أسرع من التقارب الإماراتي-القطري. ولذلك ربما تشعر الإمارات بالإقصاء، وتفعل كل ما في وسعها كي تبقى في الصدارة.

  • حمدالله بيكار هو طالب دكتوراه في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر البريطانية. تُركِّزُ أعماله على الهوية والتسامح والتعدّد الثقافي والتراث بدول الخليج. يمكن متابعته على تويتر: @Hamdullahbaycar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى