ماكرون والشرق الأوسط: مَلءُ الفراغ الأميركي

كابي طبراني*

بينما يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن مُصَمِّمٌ على تقليصِ البَصمةِ الأميركية في الشرق الأوسط، وإعادة التموضع والتحوّل إلى محورِ آسيا الذي تبنّته واشنطن منذ فترة باراك أوباما، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسير في الاتجاه المعاكس. في السنوات الأخيرة، قام ماكرون بزيارات مُتكرّرة إلى لبنان والعراق ودول الخليج، وأطلق سلسلة من المبادرات الديبلوماسية في محاولاتٍ لمعالجة الأزمات الإقليمية. من الصعب التفكير في أيِّ زعيمٍ غربي شارك، حتى نصف مشاركة ماكرون، في مجموعةٍ من القضايا ذات الأولوية القصوى التي تواجه منطقة الشرق الأوسط.

إن زيارة ماكرون الأخيرة إلى الخليج، والتي أبرَمَ خلالها أكبر صفقة أسلحة فرنسية على الإطلاق مع الإمارات العربية المتحدة، والتقى أيضًا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الشخصية التي لا يزال يتجنّبها معظم القادة الغربيين، تَعكسُ طموحَ الرئيس الفرنسي في أن يكون لاعبًا مركزيًا في المزيج الإقليمي. بالنسبة إلى ماكرون، يُعَدُّ الشرق الأوسط الأوسع مسرحًا مُهمًّا للمصالح الفرنسية، ولكن يبدو أيضًا أنه يُمثّلُ مكانًا لإبراز وتأكيد مكانة فرنسا العالمية. بالنسبة إلى كلا الهَدَفين، غالبًا ما يُنظَر إلى المسار على أنه يكمن في الشراكة مع جهاتٍ خليجية فاعلة وحاسمة، لا سيما مع دولة الإمارات، التي تُعتَبَرُ الآن الحليف الإقليمي “الاستراتيجي” الرئيس لفرنسا.

بالمقابل، وعلى خلفية انخفاض تركيز الولايات المتحدة على المنطقة –والشعور باللامبالاة الأوروبية العامة بالتطورات في الشرق الأوسط– تُعتَبَرُ مشاركة ماكرون علامة مُهمّة على الالتزام. إن استعداده للتعامل مع القضايا المُعَقَّدة في محاولةٍ لتهدئة التوتّرات الإقليمية يُعاكِسُ اتجاه عدم الانخراط الدولي في التحديات المُتصاعدة. لكن هذا الانخراط الفرنسي يأتي أيضًا مع تناقضاتٍ متأصّلة – والتركيزٌ الكبير على قدرة ماكرون الشخصية للاختراق رسّخ الجمود، والذي من الواضح أنه قيّد أيضًا فعالية نهج باريس.

يكمُنُ اهتمامُ فرنسا المباشر بالشرق الأوسط في الحاجة إلى تحقيقِ الاستقرار في الجوار الجنوبي لأوروبا، نظرًا إلى التأثير التخريبي العميق للصراعات الإقليمية في أوروبا على مدار العقد الفائت. في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ركّزت الجهود الفرنسية على إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني ومنع الصراع بين واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط من جانب وطهران من جانبٍ آخر. استمر هذا الجهد النشط في فترة الرئيس بايدن، مع رعاية فرنسا المُشتَرَكة لمؤتمر بغداد في العراق في آب (أغسطس)، والذي تضمّن انخراطًا شخصيًّا واستثمارًا خاصًا كبيرًا من قبل ماكرون لجمع مسؤولين من دول الخليج العربية وإيران.

وقد سعى ماكرون في اجتماعه الأخير مع ولي العهد السعودي – كاسرًا العزلة الديبلوماسية الغربية المفروضة على الأمير محمد بن سلمان- إلى تأمين إعادة انخراط المملكة بلبنان، البلد الذي ركّز فيه ماكرون جهودًا خاصة بعد انفجار مرفإِ بيروت في العام الفائت واستمرار الانهيار الاقتصادي، والذي قطعت السعودية علاقاتها معه أخيرًا. ترى باريس أن المشاركة السعودية ضرورية لمنع لبنان من السقوط بالكامل في الهاوية. ومُقابل اللقاء إتصل ولي العهد السعودي هاتفيًا برئيس مجلس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي للمرة الأولى منذ اندلاع الخلاف الديبلوماسي بين البلدين.

الواقع أن هذه الجهود تعكسُ رغبةَ ماكرون المُتكرّرة في أخذ زمام المبادرة لمحاولةِ كسر الجمود وإنجاز الأمور، وبناءً على تقييمٍ بأن فرنسا بحاجة إلى أن تكون استباقية ديبلوماسيًا وإشراك أصحاب النفوذ الرئيسيين لإحرازِ تقدّمٍ حقيقي في القضايا ذات الأولوية. تمامًا كما رأى ماكرون ضرورةً للقاء بن سلمان، فقد حافظ على اتصالات منتظمة مع إيران وبعض حلفائها، حيث التقى محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية ل”حزب الله”، خلال زيارة إلى بيروت في العام الماضي. وعلى المنوال عينه، قاد في العام 2017 انخراطًا غربيًا رفيع المستوى مع الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، وهو شخصية كان العديد من شركاء فرنسا يتحفّظون عن التواصل معها في السابق.

كجُزءٍ من هذه الجهود، يبدو أن ماكرون يُريد ملء الفراغ القيادي في الشرق الأوسط الأوسع، سواء كان حقيقيًا أم مُتَخَيَّلًا، مع تقليص الولايات المتحدة مشاركتها الإقليمية، مُعتقدًا أن فرنسا يمكنها أن تصبح وسيطًا خارجيًا ضروريًا. لكن يبدو أن باريس ترى أيضًا فرصة لاستغلال القلق الإقليمي من إعادة تموضع واشنطن لتقوية علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين. في قلب هذه الرؤية تكمن علاقة فرنسا مع دولة الإمارات. على مدى السنوات الأخيرة، اندمجت باريس وأبو ظبي بشكلٍ متزايد وراء رؤيةٍ إقليمية مُشتركة، مع استثناءٍ ملحوظ في سوريا، حيث تستمر فرنسا في الحفاظ على خطٍ ثابت، وفي السرّ -إن لم يكن علنًا- تنتقد عودة أبو ظبي للإنخراط مع الرئيس بشار الأسد. في أماكن أخرى، يبدو أن البلدين يُركّزان إلى حدٍّ كبير على رؤية الرجل القوي (الإستبدادي) للاستقرار الإقليمي كأفضل وسيلة لمكافحة الإرهاب ووقف تدفقات الهجرة الخارجية، بينما يتشاركان في النفور الشديد من الإسلام السياسي.

على هذه الجبهة، تجدر الملاحظة على أنه بينما يُركّز ماكرون غالبًا على حشد الاتحاد الأوروبي للمساهمة في حلّ المشكلات الدولية، باستثناء الجهود المبذولة لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني، فإن هناك جهدًا أقل بكثير لقيادة استجابة أوروبية جماعية في الشرق الأوسط. قد يكون هذا جُزئيًا لأن ماكرون يعتقد، ربما بشكلٍ مُبرَّر، أن الدول الأوروبية الأخرى لا تريد الإنخراط كما يريد. ولكن يبدو أيضًا أنه يعكس شعورًا سائدًا في باريس بأن الشرق الأوسط هو ساحة لفرنسا لإبراز مكانتها العالمية كعضوٍ دائم في مجلس الأمن الدولي، بدلاً من دورها كدولة رائدة في الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إعطاء الأولوية لعلاقاتها الاستراتيجية مع أبوظبي على شركائها الأوروبيين.

هذه الديناميكية كانت أكثر وضوحًا في ليبيا، حيث دعمت فرنسا والإمارات منذ فترة طويلة محاولة اللواء خليفة حفتر للوصول إلى السلطة، مُعتَبرتَين إياه أفضل شخصية لتحقيق الاستقرار في البلاد. وبلغ هذا ذروته في الحملة العسكرية المشؤومة التي شنّها حفتر في العام 2019 للسيطرة على طرابلس، ما زاد من تصعيد الصراع الطويل الأمد في البلاد. على النقيض من ذلك، عمل حلفاء فرنسا الرئيسيون في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا على دعم تسوية سياسية أكثر شمولاً في ليبيا. (أدّى عدم قدرة حفتر على فرض تسوية عسكرية في النهاية إلى دفع جهات خارجية، بما فيها فرنسا والإمارات، إلى دعمِ مسارٍ سياسي جديد، وإن كان هشًّا، يتمثل بالانتخابات).

امتدّت الشراكة الفرنسية – الإماراتية أيضًا إلى عداءٍ مُشترَك لتركيا. أدّت الجهود التي تقودها باريس لبناءِ ثقلٍ مُوازنٍ لأنقرة في شرق البحر المتوسط ​​إلى جذب أبو ظبي إلى تحالفٍ أوثق مع اليونان وقبرص، بما في ذلك إجراء تدريبات عسكرية مشتركة بين الدول الأربع.

بالطبع، بالنسبة إلى فرنسا، العلاقات مع أبو ظبي هي أكثر من مُجرّد تحالفٍ سياسي. من الواضح أنها تتضمّن بُعدًا اقتصاديًا مُهمًّا. شهدت زيارة ماكرون لأبو ظبي، حيث تحتفظ فرنسا بقاعدة بحرية، توقيع الدولتين على صفقة بيع أسلحة ضخمة بلغت قيمتها 19 مليار دولار لشراء 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال. كان هذا في الواقع انتصارًا كانت باريس في أمس الحاجة إليه بعد الانهيار الأخير لأكبر صفقة أسلحة سابقة لها، وهو عقد بقيمة 66 مليار دولار مع أوستراليا لشراء 12 غواصة فرنسية تم نسفها بموجب اتفاق “أوكوس” (AUKUS) الذي يربط كانبيرا ولندن وواشنطن. يجب أن تكون التقارير التي تُفيد بأن الإمارات قد علّقت الآن صفقتها لشراء طائرات مقاتلة أميركية من طراز “أف-35” (F-35) متعددة المهام مُرضية بشكلٍ خاص لفرنسا، نظرًا إلى ما حلّ بها جراء “كارثة أوكوس”.

ومع ذلك، فإن هذه العلاقة مع الإمارات تعمل أيضًا على تسليط الضوء على التوتّرات الرئيسة في قلب نهج فرنسا تجاه الشرق الأوسط. بعد توقيع صفقة رافال في أبو ظبي، أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، بأنها “تساهم بشكلٍ مباشر في الاستقرار الإقليمي”. بالنسبة إلى الكثيرين، فإن بيع المزيد من الطائرات المقاتلة إلى الشرق الأوسط هو دعوة إلى المزيد من الصراعات. لكن اليوم، هناك شعور بأن الإمارات قد طوت الصفحة التي دعمت فيها بعض الأطراف في اليمن وليبيا، وفتحت حوارات ديبلوماسية في الأشهر الأخيرة مع كلٍّ من إيران وتركيا، ولا شك أن باريس ترى أن دخولها المُمَيز مع أبو ظبي وسيلة لتشكيل التطورات الإقليمية. لكن الكثيرين لديهم شكوك في ذلك.

الواقع أن مسألة الفعالية مُعلَّقة على جهود فرنسا الإقليمية الأوسع. بينما يجب الإشادة بماكرون على الطاقة الكبيرة التي التزم بها لحل الأزمات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فقد كافحت الديبلوماسية الفرنسية مرارًا لتحقيق ذلك. لنأخذ لبنان كمثال، ربما يكون ماكرون استطاع إقناع الأمير محمد بن سلمان بإجراء مكالمة هاتفية مع رئيس مجلس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، لكن لا يزال من غير المؤكد – وحتى مشكوك فيه – أن هذا سوف يُتَرجَم إلى دورٍ سعودي أكثر فاعلية هناك. في غضون ذلك، لم تُسفِر جهود فرنسا لدفعِ حزمةِ إصلاحاتٍ سياسية واقتصادية لبنانية، قادها ماكرون عبر زياراته المتكررة إلى بيروت، عن أيّ شيء.

إذا كان الهدف هو ضمان حصول فرنسا على مقعدٍ على الطاولات المُهمّة في منطقة الشرق الأوسط، وأن تحتفظ باريس بمكانةٍ مُتمَيِّزة مع الدول الإقليمية الرئيسة، فإن السياسة الفرنسية كانت ناجحة – وزيارة الخليج في الأسبوع الماضي هي شهادة على هذا الدور. لكن باريس ستحتاج إلى بذل المزيد من الجهد، باستخدام التوعية النشطة لماكرون وربما تبنّي نهجٍ أوروبي أوسع لانتزاع المزيد من التنازلات ذات المغزى من الجهات الفاعلة الإقليمية، إذا كانت تريد أن تضمن وتؤمّن رؤيتها النهائية لمنطقة مستقرة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى