السعودية – إيران: سوء تفاهم!

محمّد قوّاص*

عَقَدَت المملكة العربية السعودية وإيران أربعُ جولاتِ حِوارٍ في بغداد برعايةٍ عراقية تولّى رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تدبيرها. آخر تلك الجولات في أيلول (سبتمبر) الماضي كانت الأولى في عهد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وعلى الرُغمِ من دور الوساطة الذي لعبه الكاظمي، إلّا أنه ما كان لينجح في مسعاه لولا تبدّل رؤية البلدين في مُقاربةِ علاقاتهما وكيفية إدارة الصراع، ولو في الشكل، بينهما.

والثابِتُ في مبدأ هذا الحوار هو أنه مُنضَبِطٌ في الظاهر يستند الى قليلٍ من المعلومات إذا لم نقل غيابها، سواء حول جدول الأعمال أم حول طبيعة الملفّات التي يناقشها الطرفان. وربما في هذا الكتمان وعدم تسريبِ أيّ أجواء إلى الصحافة، المحلّية والدولية، ما يُظهر توقًا إلى إنضاج المباحثات علّها يوماً ما، وفي ظروفِ ما تُنتِجُ من تفاهمات، تُنهي حالة القطيعة بينهما.

لكن الثابت أيضاً أن هذا الحوار ما زال شكليًّا لم يستطع أن يتقدّم، أو أنه لا يُريد أن يتقدّم. وما يصدر عن طهران يكشفُ مغزى بسط طاولة حوار مع السعودية، وما يصدر من الرياض يكشف في المقابل خواء ذلك المغزى وبُطلانه. يتحدث ديبلوماسيو إيران عن “حوارٍ بنّاءٍ يُحقّق تقدّمًا إيجابيًّا”، فيما المنابر السعودية الديبلوماسية تؤكّد أن جولات الحوار “استكشافية”، وتكاد تقول إنها ستبقى كذلك إلى ما شاء الله.

لا تريد إيران، حتى الآن، من هذا الحوار أن يُثمِرَ اتفاقاً حول مسائل معروفة جداً في نزاعها القائم منذ سنوات (حتى لا نقول منذ قيام الجمهورية الإسلامية) مع السعودية. تهدف إيران من الحوار الى استخدامه أداةً جديدةً من أدواتها السياسية في مواجهةِ العالم كما في سياساتها لدى الرأي العام الداخلي. يهمّ طهران أن تُثبِتَ للإيرانيين كما للعواصم الكبرى، لا سيما تلك التي تُفاوضها في فيينا، أنها ليست معزولة في المنطقة وأن الحوارَ مع السعودية، كما تَطَوُّرِ علاقاتها أخيراً مع دولة الإمارات، دليلان على ذلك. أما ما يثمره هذا الحوار فأمرٌ ليس عاجلًا.

في المقابل، تغيّر موقف السعودية في التعامل مع “الحالة” الإيرانية. لم يعد لدى الرياض أيّ “فيتو” ضدّ أيّ تواصل مع طهران، وباتت تعتبر أن الوصل بأشكال مختلفة لا ينفي عن إيران طبيعتها العدوانية ولا يُغيّر من تقييم السعودية للدور المُزعزع للاستقرار الذي تلعبه طهران في المنطقة وضد السعودية والخليج خصوصاً. ولا يبدو، حتى الآن، أن التواصل والحوار يُخففان حالة التوتّر ومن أذى أذرع طهران (لا سيما في اليمن)، لكن المباحثات، وإن لم تُثمِر، لا تُفاقِم الأورام بل قد تفتح آفاقًا لعلاجاتٍ صعبة لكنها مُحتملة قد يعوّل عليها.

ما بين “التقدّم الإيجابي” و”الجولات الاستكشافية” بونٌ شاسعٌ يؤكّد ولا ينفي مسافاتِ التباعد في مواقف البلدين. وفيما انشغل المراقبون باجتماعِ خبراءٍ أمنيين من البلدين في العاصمة الأردنية، قبل أيام، واعتبروه تحوّلًا لافتًا، يُظهر حدث عَمّان الجديد أن مفاعيل التفاهم ما زالت بعيدة. استضاف “المعهد العربي لدراسات الأمن” في الأردن، خلال ثلاثة أيام، حوارًا بين “الخبراء” لمناقشة قضايا الأمن بينهما، لكن الأمر قُدِّمَ بصفته حدثاً غير رسمي، حضره خبراء “بصفتهم الشخصية”، الأمر الذي أزال عن المناسبة أيّ وعاء رسمي يكون مُكمّلًا أو مُتكاملًا مع حوارات بغداد.

تُعبّرُ طهران عن غبطةٍ بالحوار والتواصل مع الجوار، لكنها تَعتَبِرُ، مع ذلك، الخلافَ مع هذا الجوار تفصيلًا يجري التعامل معه. يُبشّرنا رئيس الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، الإثنين الفائت، بأنه قد عُقِدَت “لقاءاتٌ مع المسؤولين الإماراتيين والسعوديين، وتم رفع سوء التفاهم بيننا إلى حدٍّ ما”. وسواء في عَمّان أم في بغداد، فإن لقاء السعوديين والإيرانيين هو حدثٌ طوّرت تقييمه منابر إيران من “التقدّم البنّاء” إلى إزالة “سوء التفاهم”. وعلى هذا فإن انهيار العلاقات السعودية – الإيرانية، والاعتداء على الممثليات الديبلوماسية السعودية في إيران، وقطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، كما تَعَرُّض الأراضي السعودية لصواريخ ومُسيّرات إيرانية الصنع أيّاً كان مصدر إطلاقها، هي في عرف طهران مُجرّد “سوء تفاهم” يجري تبديده.

وفي تتفيه الخلاف السعودي – الإيراني وفق الخطاب الإيراني ما يفضح تمامًا الرؤية الفوقية الاستعلائية التي تُعامل بها إيران دول الخليج. تتعامل طهران في حوارها العتيد مع الرياض بصفته هامشًا، فيما مفاوضاتها مع العالم في فيينا هي الأساس. لا بل تتقصّد طهران جعل هذا الحوار شكليًا، يُراوح مكانه، ولا يُحقّق أي إنجاز في أيِّ ملف، بانتظار ما قد تنتجه غرف الضجيح حول البرنامج النووي. فإذا ما خرج المتفاوضون في العاصمة النمسوية بثمارٍ ما، فذلك سيرفع من حجم الفوقية الإيرانية في الحوار مع السعودية ويقوّي أوراق طهران داخله، وإذا أخفق التفاوض مع واشنطن وشركائها داخل مجموعة الـ (5+1)، فذلك يُبقي طاولة بغداد واجهة شكلية تغرف منها إيران بشعبوية من دون أن تقدِّم للسعودية ما ترفض تقديمه للعالم أجمع.

وفيما تتمسّك كل المنابر في الرياض بتعبير وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بوصف حوار البلدين بـ”الاستكشافي”، فإن مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، وضع في تصريحات له الإثنين الفائت، نقاطًا كثيرة على حروف “الاستكشاف”. قال إن المحادثات لم تُحقّق أيّ نتائج مهمّة. أوحى أنها لم تُناقش “القضايا الجوهرية التي تتعلّق بسلوك الحكومة الإيرانية في المنطقة”. ذهب أكثر من ذلك مُتّهِمًا إيران بعدم الجدّية، مُعلِنًا: “لسنا مُهتمّين بالمحادثات من أجل المحادثات”.

والحال أن الخلافَ مع السعودية بالذات، وحتى إشعارٍ آخر، هو حاجة للطبيعة العقائدية لنظامِ الولي الفقيه في إيران. إشكاليةُ علاقة إيران مع السعودية هي بنيوية مُلتصقة بقماشة النظام ودينامياته على نحوٍ عَجِزَ رؤساءٌ مثل محمد خاتمي وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني عن فكّ عقدها والتحايل على قواعدها. وعلى هذا فإن تفاهمَ إيران مع المجتمع الدولي، على منوالِ الاتفاق النووي الذي أُبرم في العام 2015، جائزٌ ومشروعٌ ومَطلوبٌ ويَخدُمُ بقاءَ النظامِ وديمومته، فيما العداء للسعودية قاعدةٌ ثابتة لم تهتَزّ منذ الأيام الأولى لحكم آية الله روح الله الخميني، وأن زوالَ ذلك الثابت يحتاج إلى مُتحوّلٍ يُطاول القواعد الفقهية التي يقوم عليها نظام الولي الفقيه.

لا حاجة في طهران لأيِّ تحوّلٍ يُصحِّحُ العلاقة مع السعودية ويُزيلُ ما لا يتعدّى كونه… سوء تفاهم!

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى