الصَفقَةُ في سوريا لا تزال مُمكِنةٌ إذا كفّت واشنطن عن تَجاهُلِ الصِراع

فيما ينصبُّ إهتمام الإدارة الأميركية على إعادة إحياء الإتفاق النووي مع إيران، فهي تتجاهل ما يجري في سوريا على الرغم من أن هناك فرصة لعقد صفقة تُعيد السلام إلى تلك البلاد يمكن أن تستغلّها واشنطن راهنًا.

الرئيس بشار الأسد: رُغم كل المظاهر الدعائية وضعه لا يُحسَد عليه!

 

جيمس جيفري*

نظرًا إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه يُركِّزان على الملف النووي الإيراني، فإن الحربَ في سوريا لا تزال جرحًا مُتقيّحًا في قلب الشرق الأوسط. على الرغم من أن الإدارة الحالية لم تَقُم بأيِّ خروجٍ دراماتيكي عن نهج الإدارات السابقة، فإن قرارها بإلغاء أولوية الصراع يأتي في وقتٍ سيِّئٍ للغاية. إن فُرَصَ إيجادِ حلٍّ للأزمة السورية آخذة في الظهور الآن – ويجب على الولايات المتحدة تكريس الطاقة الديبلوماسية اللازمة لاغتنامها. إن مفاتيح النجاح بعد سنوات من الفشل لا تشمل فقط المشاركة عالية المستوى ولكن التقييم الواقعي لما يُمكن تحقيقه في أيِّ صفقة.

إن مخاطرَ إبقاء سوريا في صفّ الإهتمامات الخلفية كبيرة. الصراعُ هو أصلًا حطام قطار استراتيجي: إنتصارُ نظامِ الرئيس بشار الأسد سيُرسل رسالةً إلى الحكّامِ المُستَبدّين في جميع أنحاء العالم بأن القتلَ الجماعي هو تكتيكٌ قابلُ للتطبيق للاحتفاظ بالسلطة ويُشير إلى الصعود الإقليمي لعناصر التمكين الروسية والإيرانية للأسد. لقد ولّد هذا أيضًا تهديدات جيوسياسية، من صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”)، إلى نشر الصواريخ الإيرانية الدقيقة التي تستهدف إسرائيل، إلى التدفّقات الهائلة للاجئين التي تُهدّدُ بزعزعة استقرار الدول المجاورة وأوروبا. وبالنسبة إلى السوريين أنفسهم، فقد أدّت الحرب الأهلية التي استمرت عقدًا من الزمن إلى وقوع إصابات مُروّعة، وتشريد نصف السكان من ديارهم، وترك معظم المواطنين مُعدَمين. لذا، إذا تُرِكَت هذه الديناميكيات من دون معالجة، فإنها ستُهدّد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط لسنواتٍ مقبلة.

اجتذبت الحرب السورية أيضًا الجيوش الأميركية والإسرائيلية والتركية، ولا يزال خطر الاشتباكات بينها وبين القوات الإيرانية والروسية والسورية حقيقيًا للغاية. وتنظر واشنطن إلى جَيبِ “قوات سوريا الديموقراطية” في شمال شرق سوريا على أنه حليفٌ مُهمّ ضد “داعش”، لكن أنقرة تعتبر المجموعة الكردية تهديدًا إرهابيًا. هناك استفزازان أخيران – إنتهاك الأسد في تموز/ يوليو 2017 لوقف إطلاق النار في الجنوب الغربي الذي تم التفاوض عليه بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهجوم من قبل مقاتلين مدعومين من إيران في تشرين الأول/أكتوبر ضد القوات الأميركية في قاعدة التنف في جنوب سوريا – وقعا بدون ردٍّ أميركي ملحوظ ويمكن هذا أن يُشجّعَ الأسد أو الإيرانيين على التصعيد في المناطق التي تحرسها القوات التركية أو الأميركية.

أشار كبار مسؤولي إدارة بايدن مرارًا وتكرارًا إلى أنهم غير مُهتَمّين ببذل جُهدٍ كبير لحلّ الصراع السوري. مع تغيّر الوضع وتشكيل تسوية مُحتَملة، يجب عليهم إعادة تقييم هذا القرار. على الرغم من أن اهتمام الولايات المتحدة بالنسبة إلى إيران تُهيمن عليه مفاوضات البرنامج النووي الحاسمة بدلاً من الإجراءات الإقليمية لطهران، فبمجرد أن يكون لدى الإدارة مزيد من الوضوح بشأن الموقف من تلك المحادثات، يجب عليها الانخراط بجدية في سوريا. إن مخاطر تجاهل الصراع، والفوائد المُحتَملة للتوصّل إلى اتفاق، كبيرة جدًا بحيث لا تسمح بإهدار الفرصة.

عقد صفقة

يجب على الولايات المتحدة أن تقودَ أيّ جُهدٍ ديبلوماسي مُتجدّد للتوصّل إلى حلٍّ للصراع السوري. على الرغم من أن أيَّ اتفاقٍ يجب أن يكون مُتّسقًا مع الدور الرسمي للأمم المتحدة، إلّا أن واشنطن وحدها هي التي يمكنها التنسيق مع العديد من أعضاء التحالف المناهض للأسد. والمُحاور الوحيد القابل للتطبيق بالنسبة إلى الولايات المتحدة في هذه المفاوضات هو روسيا. أولئك الذين حاولوا إبرام الصفقات مباشرة مع الأسد منذ العام 2011 أصيبوا بخيبةِ أملٍ مُستمرّة، وعادةً ما ترفض إيران المناقشات حول أفعالها في الدول المجاورة مع دولٍ خارج المنطقة. لا تملك موسكو سيطرة كاملة على الأسد ويجب أن تتنافس على النفوذ مع إيران، لكنها تظلّ الشريك الأكبر في التحالف الروسي-السوري-الإيراني. كما أن لدى موسكو أيضًا طموحات محدودة أكثر من دمشق أو طهران، مما يجعلها أكثر قابلية لحلٍّ تفاوضي للصراع.

يجب أن تسعى إدارة بايدن إلى خفض التصعيد خطوة خطوة من كلا الجانبين. قد يكون هذا مُشابهًا للاستراتيجية التي اعتمدتها الإدارتان الأميركيتان السابقتان، لكن القضايا المُحَدّدة التي يجب تحديد أولوياتها ستعتمد على تفضيلات إدارة بايدن وتفضيلات شركائها والجانب الآخر. من المحتمل أن تكون على رأس القائمة التنازلات السياسية من قبل دمشق لضمان عودة آمنة للاجئين، بما في ذلك إعادة التوطين التي تتم مراقبتها دوليًا؛ أحكام أمنية ورقابية مُماثلة لإعادة دمج قوات المعارضة وقوات سوريا الديموقراطية؛ ضمانات أمنية للحدود الجنوبية لتركيا؛ والإزالة الدائمة للأسلحة الاستراتيجية الإيرانية، لا سيما صواريخها الدقيقة من الأراضي السورية. (الانسحاب الإيراني الكامل غير واقعي).

في المقابل، من المرجّح أن تضغط روسيا على الجيوش الأميركية والإسرائيلية والتركية للانسحاب من سوريا. ومن المتوقّع أن تطلب موسكو من أميركا أيضًا التعاون في مكافحة الإرهاب في سوريا ضد “داعش”، الذي يبدو أن الأسد غير قادر على هزيمته، إلى جانب تخفيف العقوبات وعودة اللاجئين من تركيا والأردن ولبنان إلى بلداتهم ومدنهم. قد تأمل روسيا، ربما بشكل غير واقعي، أن تؤدّي هذه الخطوات إلى إطلاق العنان للاستثمار الأجنبي في سوريا — وبالتالي تحرير موسكو من محاولة دعم اقتصاد البلاد المنهار. أخيرًا، سيتعيّن على قرارٍ جديد من مجلس الأمن الدولي أن يؤكد رسميًا أي صفقة ويفرض رقابة على التزامات كل جانب. والنتيجة النهائية ستكون عودة سوريا كدولة “طبيعية” وعضو كامل في جامعة الدول العربية.

قد تكون موسكو أكثر استعدادًا لاتفاقٍ على هذا المنوال مما تُقدّره إدارة بايدن. يشير التاريخ إلى أن الولايات المتحدة، جنبًا إلى جنب مع شركائها، يُمكنها ممارسة الضغط الذي يؤثر في حسابات روسيا الاستراتيجية في سوريا. لتعزيز جهود الأمم المتحدة، وضعت إدارتا ترامب وأوباما، إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية، نظام الأسد تحت ضغط اقتصادي وديبلوماسي. مارست إدارة ترامب في نهاية المطاف الضغط العسكري لاستكمال العمل الاقتصادي والديبلوماسي: فقد شنّت غارات جوية أوقفت هجمات الأسد الكيماوية الفتاكة، وحافظت على القوات الأميركية في شمال شرق وجنوب سوريا، ودعمت التدخلات العسكرية الإسرائيلية والتركية في البلاد. بحلول أواخر العام 2018، أدت تلك الخطوات إلى حالة الجمود السائدة اليوم.

ثم دفعت إدارة ترامب الروس إلى حلٍّ وسط يقوم بشكلٍ عام على إنهاء الضغط الدولي، ولا سيما العقوبات، وقبول الأسد مقابل تنازلات في القضايا الجيوستراتيجية. وشملت هذه، كما لوحظ، إزالة الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية، والتعاون مع العملية السياسية للأمم المتحدة للمصالحة مع قوى المعارضة واللاجئين، وإنهاء برامج الأسلحة الكيميائية.

كان هذا الاقتراح جذّابًا بدرجة كافية لبوتين لدعوة وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو إلى سوتشي في أيار (مايو) 2019 لمراجعته. إختار بوتين في النهاية عدم عقد الصفقة في ذلك الوقت. على الأرجح، كان يعتقد أنه يمكنه أن يُحقّق نصرًا عسكريًا صريحًا، والذي لن يحقق أهدافه الأساسية في سوريا فحسب، بل سيؤسس لجعل موسكو أيضًا لاعبًا إقليميًا رئيسًا. ومن المؤكد أن هذا الرأي شجّعته محاولات ترامب المتكررة لسحب القوات الأميركية من البلاد. حاولت موسكو باستمرار تقسيم التحالف المناهض للأسد، وضغطت على الأتراك، والإسرائيليين، والأكراد حلفاء أميركا لعقد صفقات منفصلة مع الأسد. كما أن تواصل الدول العربية مع دمشق قد شجّع الروس أيضًا.

آفاقُ السلام

لكن اليوم، فقد تلاشت الآمال الروسية في تحقيق نصرٍ مباشر للأسد. في مواجهة تصلّب النظام السوري، يحتفظ الأتراك والإسرائيليون والأكراد بمواقعهم العسكرية في سوريا. إن تواصل بعض الدول العربية مع الأسد أمرٌ مُقلق ولكن حتى الآن لم يؤدِّ إلى عودة الأسد إلى جامعة الدول العربية. أكّدت إدارة بايدن الآن معظم عناصر الاستراتيجية السابقة: الحفاظ على وجود القوات الأميركية، مع بعض التعديلات، ونظام العقوبات؛ وحذّرت جميع الأطراف من تحدّي وقف إطلاق النار مع القوات التركية والمعارضة الكردية؛ دعم العمل الجوي الإسرائيلي ضد إيران؛ التعاون مع قوات سوريا الديموقراطية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبشكلٍ غير مباشر ضد دمشق؛ تحميل نظام الأسد المسؤولية من خلال الجهود الديبلوماسية وجمع المعلومات لدعم تحقيقات الأمم المتحدة والعمليات القضائية الأوروبية ضد المسؤولين السوريين؛ وتأييد الجهود السياسية للأمم المتحدة.

في ظل هذا الوضع فإن خيارات موسكو محدودة. إنها تعلم أن الأسد لم ينتصر في الصراع وليست لديه خيارات واضحة لفعل ذلك. تُسيطر الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا على ما يقرب من 30 في المئة من الأراضي السورية، بما فيها معظم احتياطات النفط في البلاد وجُزءٌ كبير من أراضيها الصالحة للزراعة. لا يزال نصف السكان الذين بقوا لاجئين أو نازحين داخليًا يخشون العودة إلى الأراضي التي يسيطر عليها الأسد، وقد قيّدت القوات الجوية الإسرائيلية انتشار الصواريخ الإيرانية. على الرغم من أن المخاطر والتكاليف التي تتحملها موسكو محدودة، إلّا أنها ليست بسيطة. وتشمل هذه زيادة تدهور الاقتصاد المتذبذب للأسد، والاحتكاك الداخلي للنظام، والتصعيد غير المقصود مع القوات الإسرائيلية أو الأميركية أو التركية المتفوّقة. في الواقع، حتى نهاية إدارة ترامب، طرح كبار المسؤولين الروس صفقات مُحتَملة مع الولايات المتحدة كان من الممكن أن تُنهي الصراع.

علاوة على ذلك، فإن حلفاء واشنطن الإقليميين أصبحوا الآن أكثر اتساقًا. أدّت اتفاقات أبراهام إلى تعميق العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربي، وخفّف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل كبير خلافاته مع شركاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، وتم إصلاح الخلاف بين قطر ومجلس التعاون الخليجي. إن قادة الدول الإقليمية الأكثر أهمية يحثّون الولايات المتحدة على الاضطلاع بدورٍ أكثر بروزًا. حتى الجهود الفاشلة لتحقيق انفراج بشأن سوريا من شأنها أن تعزز الدعم الإقليمي لموقف واشنطن المتراجع، مما يحافظ على حالة الجمود التي تحرم إيران وروسيا من تحقيق نصرٍ استراتيجي.

للتأكيد، إن أي مبادرة ديبلوماسية كبيرة بشأن سوريا ليست بعد من أولويات الإدارة الحالية. لكن القيام بها هو أقل خطورة من السماح للصراع – وكل ما يصاحبه من مأساة إنسانية ومخاطر أمنية – بالاستمرار إلى أجل غير مسمى. على الرغم من أن الاتفاق لن يكون مثاليًا، فإن إنهاء الحرب في سوريا سيُعزّز بشكلٍ كبير من قيمة واشنطن كشريكٍ أمني في الشرق الأوسط وأبعد منه.

  • جيمس جيفري هو رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون. هو ديبلوماسي سابق عمل في سبع إدارات أميركية، كان آخرها ممثلًا خاصًا للانخراط في سوريا ومبعوثًا خاصًا للتحالف الدولي لهزيمة “داعش”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى