حتى آخر لبناني

راشد فايد*

ليس استعصاءُ عَودَةِ مجلس الوزراء إلى الإجتماع سوى تأكيدٍ إضافيٍّ على أنّ لبنان لا يُحكَمُ لا بالدستور ولا بالقوانين، بل بالقدرة على الإرغام، وهذه حال مَن يَحمل السلاح خارج سلطة الدولة وبالرغم منها، وهو ما نشهده منذ خروجِ الوصاية السورية وحلول الهَيمَنة الفارسية، مُقنّعةً بـ”حزب الله”، الذي يسترهن البلاد والعباد بالتكافل والتضامن مع “حركة أمل” في قيادة رأس الشرعية التشريعية نبيه بري رئيس مجلس النواب، وبذلك يمكن لما لا يُؤخَذُ بسطوةِ السلاح أن يُؤخَذَ بانتحالِ سلطاتٍ لا يأتي بها التشريع بل بِدَعٌ كالميثاقية ونظرية القوي في طائفته، التي تشاركت مع فائض قوة السلاح لتأتي بميشال عون رئيسًا للجمهورية بعد تعطيل سنتين ونصف.

اليوم، كما قبل التسوية الرئاسية الرخيصة، تجمد الحياة العامة تحت ضغط أهل السلاح، ويستمتع أصحاب السطوة بتهاوي الدولة، ومؤسّساتها وبتجويع اللبنانيين وخواء متاجرهم، وإسقاط مشاريعهم، وإجهاض آمالهم: فلا مجلس وزراء، طالما يتمسّك الثنائي الشيعي بما يدّعيه حقًّا له، وهو إقالة قاضي التحقيق في مجزرة مرفإ بيروت، طارق البيطار، بينما ساكن بعبدا يتغطّى بذلك مُراهِنًا على تمديدٍ لولايته يأتيه بالمنِّ والسلوى للصهر “المُعجزة”.

ما يحمله الثلاثي آنف الذكر ليس سوى إفراغ البلد من كلِّ مَن لا ينصاع لأطماعهم، ولو تضاربت في ما بينها، فالحصادُ مُشتَرَك، وهو المزيد من إفقار لبنان ورميه في ظلال الهيمنة الايرانية، والخروج على الدستور ومؤسّسات الدولة، وها هو نائب الأمين العام للحزب إيّاه، الشيخ نعيم قاسم، يُطالِبُ اللبنانيين رافضي هيمنة جماعته، بأن يتركوا البلد، بكل بساطة ووضوح، كأنما يستنتجُ العِبَر من التجربة الصهيونية في فلسطين المحتلة، وما ارتكبته من مجازر لإفراغ فلسطين من شعبها: يكفي تتبّع المَسار السياسي للحزب منذ 2005. يومها انصاع الحزب للحلف الرباعي (سيّىء الذكر) حين كان قلقًا على وضعه من قوّة الإجتياح الوطني، ثم ما لبث أن انقلب عليه وشنّ سلسلة اغتيالات في صفوف قيادات “ثورة الأرز”، وحين وقف اللبنانيون جميعًا بجانبه في وجه الإجتياح الإسرائيلي، في حرب تموز/يوليو 2006 استثمر الإلتفاف الوطني ليسقط سلطة الدولة على المطار، وعلى الإتصالات ويجتاح بيروت والجبل ليُغيِّر في الديموغرافية ويفرض رهبته. قبله لم يتردّد المفتي أحمد قبلان في خطبة عيد  الفطر سنة 2020 حين قال: أنا بالفم الملآن أقول لا للطائف.

يستطيع قارئ هذه الوقائع أن يتفهّم لِمَ لا يلتئم مجلس الوزراء منذ تهديدات الوزير محمد وسام المرتضى، ولا يتم التجاوب مع إلحاح المجتمع الدولي والعربي، بالجملة والمفرّق، للقيام بالإصلاحات البنيوية المطلوبة، ولماذا يستمر التلاعب بسعر صرف الدولار، ولا ينتشر تجار الدولار الصغار سوى في مناطق مُعيّنة تحتضن البيئة إياها، بينما المعابر البرية مُشرَّعة لسلطة الأمر الواقع، والبحرية والجوية قيد العلاج على ذمّة حكومة نجيب ميقاتي.

لا يَطمَئِنُّ اللبنانيون إلى مؤشّراتِ التفاؤل التي يوحي بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وغيره، وهم يرون الحزب المقانع (مقاوم+ممانع) يصر على الإساءة للعالم العربي مُستَهدِفًا تقويض الحرص الخليجي على إعطاء لبنان فرصةً للتعافي. فعلى الرغم من أن ايران تفتح أبوابها له وتُقدّمُ نفسها زعيمةَ مواجهة “الشيطان الأكبر”، إلّا أنها حرصت على استمرار استخدام لبنان منصّة لزعزعة أنظمة الخليج، أو هذا ما تطمح له، فعقدت مؤتمرًا في بيروت لما يُسمّى معارضة بحرينية، كأنه رسالة إلى الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أن بياناتكما لا تعنينا، ولو أفنى الجوع اللبنانيين على آخرهم.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى