مَساراتُ ثلاثةُ نِزاعاتٍ في الشرق الأوسط

الدكتور ناصيف حتّي*

مع نهايةِ العام تبدو مساراتُ نزاعاتٍ ثلاثة وكيفية تطوّرها، ولو اختلفت درجةُ الحِدّة وعناصرُ كلِّ نزاعٍ بين هذه النزاعات المؤثّرة كلّ منها في الآخر بدرجاتٍ مُتمايزة، أنها ستَحكُمُ الأجندة الفعلية للنظامِ الإقليمي في الشرق الاوسط في العام المقبل. ستُحَدِّدُ أولويّاته الحقيقية وأنماطَ العلاقات والتفاعلات في الإقليم ومع الخارج الدولي.

الأوّل هو مسارُ المفاوضات للعودة الى الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الدولية الستّ المعروف ب”خطة العمل الشاملة المُشتركة” الذي تمّ التوصل إليه في تموز (يوليو) ٢٠١٥، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في أيار (مايو) ٢٠١٨ نتيجةً للرفضِ الكلّي للرئيس الاميركي آنذاك، دوتالد ترامب، للاتفاق في مُنطلقاته وأبعاده. الرئيس جو بايدن الذي يريد العودة إلى الاتفاق، ولكن مع “معالجة ثغراته”، يشترط رفع العقوبات بشكلٍ تدريجي عن إيران، رابطًا ذلك بسلوكية طهران بشأنِ الاتفاق وتحديدًا سدّ ما يُعتَبَر ثغراتٍ تُحاول الجمهورية الإسلامية استغلالها للإفلاتِ مما يعتبره قيودًا ضرورية لإنجاح الإتفاق.

من جهّتها، تصرُّ إيران على رفعِ كافةِ العقوبات وتوفيرِ ضمانةٍ أميركية بعدم الانسحاب من الإتفاق مُستَقبَلًا، كما حصل مع إدارة ترامب، وهو ما لا يُمكن للإدارة الأميركية، كما تقول، قبوله لأسبابٍ قانونية وسياسية.

تصعيدٌ مُتبادَل يعتبره بعض المراقبين أنه جُزءٌ من لُعبةِ المُفاوضات لتحصيلِ صفقةٍ أفضل قبل إعادةِ إحياءِ الاتفاق، الذي تُريده كافة الأطراف المُشارِكة رُغمَ المطالب والمواقف المختلفة. يُثيرُ البعض المخاوف من أن إيران مضت ولو سرًّا في تخصيب اليورانيوم إلى أعلى من نسبة العشرين في المئة التي اعترفت بها بدون أن تُحدِّدَ كمّية اليورانيوم المُخصَّب لهذه الدرجة التي تمتلكها. وهناك تقارير تقول إن إيران وصلت الى تخصيب نسبة ستين في المئة، وإنه صار من السهل الوصول الى نسبة التسعين في المئة التي تَضَع مَن يمتلكها على عتبةِ إنتاجِ السلاح النووي في فترة قد تتراوح بين ستة أشهر إلى عام. ويُعتَبَرُ ذلك بمثابةِ خطٍّ أحمر للولايات المتحدة في ظلِّ ازديادِ التصريحاتِ الإسرائيلية المُهَدِّدة بالعمل العسكري ضدّ إيران لمنعها من الوصول الى “العتبة النووية”، علمًا أن تقارير عديدة تتحدّث عن أعمالٍ تخريبية عسكرية إسرائيلية لردع طهران من الوصولِ إلى بابِ النادي النووي.

الواقع أن هناك حالةَ سباقٍ بين العودة الى المفاوضات وإعادة إحياء الاتفاق النووي من جهة، وبين الذهاب نحو المجهول من خلال تعثّر المفاوضات من جهةٍ أُخرى، وهو ما لا يريده أيٌّ من الأطرافِ المعنية رُغمَ لعبة “عضّ الأصابع” القائمة. الإتفاق دونه الكثير من الصعوبات، لكن إحياءه ليس مُستَحيلًا باعتبار أن الأطرافَ المعنية ترى في مصلحتها الاستراتيجية، ولو لأسبابٍ مُختلفة بين طرَفَي المعادلة الأساسيين (الاطراف الغربية وإيران)، التوصّل إلى إعادة الحياة إلى الإتفاق مع تعزيزه، ولو كلٌّ من هذه الأطراف يرى هذا التعزيز بشروطٍ مُختلفة .

المَسارُ السياسي الثاني يتعلّق بالعلاقات الخليجية-الإيرانية بشكلٍ خاص، والذي شهد تقدّمًا طفيفًا كما ظهر عبر بعضِ التصريحات. ولكن لا يُمكِنُ البناء على ذلك بَعد بقوّة. لقد تطوّر الأمر من خلال اتصالاتٍ، بعضُها على مستوى عالٍ بين الأطراف المَعنية، وبعضُها الآخر كان بشكلِ مُباحثاتٍ استكشافية وعلى مستويات “فنية” أو عبر أطرافٍ أُخرى. هذا المسار يسمحُ أوّلًا في خفضِ التوتّر، كما يحملُ إمكانية إحداثِ اختراقٍ إذا ما تمّ التوصّل إلى اعتمادِ مجموعةِ قواعدٍ وسلوكياتٍ “دولتية” مُعَيَّنة معروفة عادةً في العلاقات بين الدول لتنظيم وادارة هذه العلاقات. يؤدي ذلك، إذا ما حصل، إلى بَلوَرَةٍ آليّةٍ لاحتواءِ الخلافات، وبناءِ التفاهمات بغية تطبيع العلاقات بين الطرفين، وهو لمصلحة أمن كل هذه الأطراف، ولمصلحة الأمن والاستقرار في الشرق الاوسط .

المَسارُ الثالث يتعلّق بالعودة العربية (تحديدًا عدد متزايد من الدول العربية) بسرعاتٍ وصِيَغٍ وأشكالٍ مُختلفة إلى سوريا. يأتي ذلك تحت عنوان إعادة سوريا الى الجامعة العربية. ويقول البعض إن ذلك مُمكِنٌ في القمّة العربية المقبلة المتوقَّع عقدها في آذار (مارس) 2022. فيما يرى آخرون أن الحديثَ عن العودة ما زالَ مُبكِرًا ويجب أن تسبقه خطواتٌ أُخرى، من دون أن يعني ذلك عدم الاستمرار في التطبيع التدريجي وفق حساباتِ كلٍّ من هذه الدول. لكن يتفق جميع هؤلاء أن المطلوبَ هو ألّا يبقى العرب غائبين، رُغمَ غياب الموقف العربي الواحد، عن لعبة الصراعات والتفاهمات الجارية في سوريا وحول مستقبلها نظرًا إلى أهمّية موقعها الجيوستراتيجي في “قلب” المنطقة.

هذه المَساراتُ الثلاثة، في ديناميتها وتفاعلاتها مع بعضها البعض، ستَحكُمُ الأجندة الإقليمية في العام المقبل في ما يتعلق بالأولوِيّات الفعلية للأطراف الناشطة والمؤثّرة في علاقاتها المُباشرة، كما في النقاطِ الساخنة في الإقليم الشرق أوسطي.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتحدّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى