الانتخاباتُ المُتَسَرِّعة في ليبيا لن تَجلِبَ السلام

هَوَسُ الأمم المتحدة بإجراءِ انتخاباتٍ رئاسيةٍ وعامةٍ في ليبيا يَجعَلُ الصِراعَ وعَدَمَ الاستقرارِ أكثر احتمالًا في الجماهيرية السابقة.

مؤتمر باريس حول ليبيا: ركّز على الانتخابات كحلٍّ لأزمة البلاد.

سمير بنّيس*

على الرغم من كلِّ الحديثِ المُسكِرِ عن الزخمِ الجديد، وسط توقّعاتٍ كبيرة، لانتخاباتِ كانون الأول (ديسمبر) الجاري، فإن المؤتَمَرَ الدولي حول ليبيا الذي عُقِدَ في باريس في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت كان خَيبَةَ أملٍ كبيرة.

كان مؤتمرُ باريس الأخير واحدًا من سلسلةِ أحداثٍ دولية نصف “مخبوزة” ولكن ضخمة حول المُستَنقعِ الليبي، حيث عُقِدَ بعد ثلاثةِ أسابيعٍ فقط من “المؤتمر الدولي” الآخر حول ليبيا في طرابلس في 21 تشرين الأول (أكتوبر). لم يَنتُج عن أيٍّ من هذين المؤتمرَين أيّ شيءٍ ملموسٍ يُمكنُ أن يُوفّرَ إحساسًا موثوقًا بالأمل في أن ليبيا على وشك الوصول إلى إنهاء حالة عدم الاستقرار التي طال أمدها. وبالإضافة إلى تجديد الدعوات التي يتم تجاهلها عادة لانسحاب القوات الأجنبية والمُرتزقة، أكّد كلا المؤتمرَين على ضرورة إجراءِ انتخاباتٍ رئاسية وبرلمانية في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021.

بدلًا من السعي إلى مُعالجةِ المواقف غير القابلة للتوفيق لمُختلفِ أصحابِ المصلحة الليبيين والقضايا العالقة التي تُهدّد بتفكيك العملية السياسية الحالية وإغراق البلاد في فترة أخرى من الفوضى، كان تجمّعُ باريس مُجرّدَ ديبلوماسيةٍ سطحيّةٍ تَهدفُ إلى تأكيدِ مكانةِ فرنسا كلاعبٍ رئيس في مستقبل ليبيا.

من اللافت أن حدثًا بهذه الأهمية تجنّب التطرّق إلى الموضوع الأهم –وبالتحديد، ترشّح سيف الإسلام القذافي، والجنرال المُنشَق خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لمنصب رئيس الجمهورية– يتصوّر على أنّهُ يستطيع إرساء الأساس لانتقال ليبيا إلى الديموقراطية.

لقد أتاحَ مؤتمر باريس نافذةً على أحد العواملِ الرئيسة التي قوَّضت منذ فترة طويلة الديبلوماسية مُتعدّدة الأطراف التي تقودها الأمم المتحدة: الاعتقادُ الراسِخُ بأن إجراء الانتخابات هو الدواء الشافي وهدفٌ في حدِّ ذاته، بدل أن يكون وسيلة لتهيئةِ الظروفِ المُلائمة لتحقيقِ انتقالٍ سَلِسٍ ومُنظّم.

الدعواتُ اللافتة، ولكن الجوفاء، لإجراء انتخاباتٍ صارت هي السبب الأساس لتدخّل المجتمع الدولي غير الفعّال على نحو متزايد كلّما واجه حالات عدم استقرار سياسي. هذه هي الحال في ليبيا، حيث تُعتَبرُ الانتخاباتُ هي الحلّ – بغضِّ النظر عما إذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية والقانونية موجودة لضمانِ انتقالٍ مُستَقر. وبالتالي، لم يكن مُفاجئًا أن نرى المُشاركين في مؤتمر باريس يُركّزون أكثر على حثّ الليبيين على الالتزام بالجدول الزمني الذي حدّدته الأمم المتحدة في شباط (فبراير)، بينما يتجاهلون العقباتِ القانونية والدستورية التي تقِفُ في طريق إجراءِ انتخاباتٍ حرّة ونزيهة حقًّا.

لم يتمّ فِعل أيّ شيءٍ لمُعالجةِ العَداء العميق الجذور بين غرب وشرق ليبيا. أضف إلى ذلك الجَدَل الدائر حول صالح الذي كان أصدر كرئيسٍ لمجلس النواب من جانب واحد قانون الانتخابات بمرسوم. ولم يحظَ هذا القانون بموافقة مجلس النواب ولا بموافقة المجلس الأعلى للدولة، وهذا يتعارض مع أحكام الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015. كما أنه يسمح لشاغلي المناصب العسكرية والمدنية بالتنحّي أثناء ترشّحهم للمنصب مع إمكانية العودة إلى مناصبهم في حالة خسارتهم.

وهذا الوضع يزيد من احتمالية إعادة ما حصل في انتخابات ما بعد 2014 في حالة خسارة صالح وحفتر. منذ انتخابات حزيران (يونيو) 2014، وقف هذان الشخصان في طريق جميع الجهود الدولية الرامية إلى توجيه ليبيا نحو الاستقرار والسلام مع قيام حفتر بانقلابٍ عسكري ضد الحكومات القائمة، ورفض صالح الامتثال للاتفاق السياسي الليبي الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة في العام 2015 والذي كان وقّع عليه بنفسه.

وحفتر مُتَّهَمٌ بارتكابِ جرائم حرب ويواجه تُهَمًا قانونية في محكمة أميركية. وتعرّض صالح لعقوباتٍ من قِبَلِ كلٍّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعرقلة مسيرة ليبيا نحو الاستقرار والديموقراطية.

يجب على الأمم المتحدة أن تسأل: ما الهدف من عقد العديد من المؤتمرات الدولية إذا لم يتم تنفيذ نتائجها بالكامل؟ ما هي المِصداقيّة المُتبقّية للمنظّمة الدولية إذا سمحت للأطرافِ السيّئة المُشاركة في العملية التي خُرِّبَت وعُطِّلَت أصلًا من قبلها، وإذا ظلّت قرارات مجلس الأمن الدولي، حتى تلك التي تمّ تبنّيها بموجب الفصل السابع، حبرًا على ورق؟

الجوابُ بسيطٌ للغاية: مع عَدَمِ وجودِ عملٍ قويٍّ لوضعِ حدٍّ وقيودٍ لأيدي وتدخّل هذه الشخصيات الإشكالية، فإن الدعوات إلى “انتخاباتٍ حرّة وديموقراطية” في الأجواء السائدة في ليبيا ستؤدّي ببساطة إلى تمهيدِ الطريق لفترةٍ طويلة أخرى من عدم الاستقرار والفوضى التي تعقب الانتخابات. بدلًا من جعلِ إجراءِ الانتخاباتِ جوهر مهمّة صنع السلام في ليبيا، ينبغي للأمم المتحدة والقوى الكبرى أن تتحلّى بالشجاعة والقيادة لتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.

كان ينبغي أن يبدأ نقاشٌ جادٌ وواقعي حول مُستقبل ليبيا بالتأكّد من أن جميع الدول الأجنبية ووكلائها يلتزمون بكلٍّ من بنود اتفاق تشرين الأول (أكتوبر) 2020 لوقف إطلاق النار وقرارَي مجلس الأمن الدولي 2570 و2571 المُعتمدَين في نيسان (إبريل) من هذا العام.

دعا القرار 2571 جميع الأطراف إلى الامتثال لاتفاقِ وقفِ إطلاق النار و”انسحاب جميع القوّات الأجنبية والمُرتزقة فورًا ومن دون مزيد من التأخير”. يجب أن يسيرَ ضمان الامتثال لهذا القرار جنبًا إلى جنب مع ضمان الامتثال الكامل لجميع الأطراف لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا.

نظرًا إلى أن الأمم المتحدة فشلت في فرضِ شروطِها على الجهّات الفاعلة الداخلية واللاعبين الإقليميين الذين رحّبوا بقراراتها ثم تجاهلوها بسهولة، يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التدخّل وفرض عقوبات معوقة وقاسية على الجهّات الليبية مع التهديد بتعليق تعاونهما العسكري والأمني ​​مع اللاعبين الخارجيين.

ولكن، للقيام بذلك، يجب على بروكسل أن تُرتّب وضعها الخاص عندما يتعلّق الأمر بدعم اللاعبين الليبيين الذين يُعانون من مشاكل. المُنافسة داخل حلف شمال الأطلسي وداخل أوروبا، كما يتّضح من انخراط فرنسا وإيطاليا على جبهاتٍ مُتعارِضة ومُتنافِسة في الصراع، تعني أن الغرب لا يُمكنه مُطالبة القوى الأجنبية الأخرى بالخروج من ليبيا بينما يلعب بعض أعضائه دورًا مركزيًا في إطالة أمد النزاع.

مشكلةٌ أخرى في مؤتمر باريس هي تورّط فرنسا في المستنقع الليبي. على الرغم من إعلان دعمها للحكومة المؤقتة وجهود صنع السلام التي تبذلها الأمم المتحدة، تتمتّع الحكومة الفرنسية بسجلٍّ حافلٍ في تزويد حفتر بالأسلحة والاستخبارات والتدريب. بصفتها طرفًا مُهتمًا له تاريخ من الدعم المالي واللوجستي لأحد الأطراف الفاعلة، ففقط من خلال إنهاء انتهاكها لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، يمكن لفرنسا وبحق لها الظهور كوسيطِ سلامٍ حقيقي في ليبيا.

لم يعد العمل كالمعتاد خيارًا. سيكون من الوهم الاعتقاد بأن الانتقالَ السَلِس إلى الديموقراطية من خلال “انتخاباتٍ شفّافة ونزيهة” أمرٌ مُمكِنٌ بينما لا يزال 20,000 من القوات الأجنبية والمُرتزقة يجوبون البلاد.

دولةٌ لا تزال تُكافِحُ مع وجود القوات الأجنبية، حيث لا يستطيع رئيس الوزراء المؤقت السفر من غرب البلاد إلى شرقها لأن أحد أصحاب المصلحة -حفتر- يتمتّع بدعمِ مرتزقة من روسيا والسودان وسوريا وتشاد، لا يمكن اعتبارها دولة ذات سيادة. فقط عندما يُجبَر المرتزقة والقوات الأجنبية على المغادرة، يمكن لليبيا استعادة سيادتها والأمل في التعافي من حربِها المُنهِكة التي استمرّت لعقدٍ من الزمان.

إن إزالة المُرتزقة الأجانب من شأنه أن يقطع شوطًا طويلًا في حرمان حفتر وحلفائه من نفوذٍ حاسم، ولن يترك لهما أيّ خيار سوى الالتزام بتسوية سياسية. وهذا يُمكنُ أن يُمهِّدَ الطريق نحو ما يُشبه المصالحة بين الشرق والغرب، وهو شرطٌ أساسي لضمان عدم عودة البلاد إلى الصراع المُسلّح.

يجب أن يسير تحقيق المصالحة جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة لحلِّ العديد من القضايا الشائكة. وسيشمل ذلك تقاسم السلطة بعد الانتخابات، وتخصيص الموارد بين أجزاءٍ مختلفة من البلاد، وإخضاع الجيش لسيطرة الحكومة المؤقتة، والاتفاق الشامل على معايير وآليات التعيين في المناصب القيادية في المؤسسات الحكومية وفقًا للمادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي.

كانت لدى الأمم المتحدة سابقًا فرصةٌ واقعية لتحقيقِ تقدّمٍ ملموس. لكنها فشلت في البناء على الزخم الذي أوجدته سلسلة الاجتماعات التي عقدها ممثلو مجلس النواب ومقرّه طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس في الخريف الماضي. أسفرت هذه الاجتماعات عن اتفاقٍ تاريخي بشأن عملية التعيين للمؤسّسات السبع، بما فيها محافظ البنك المركزي. وبدلاً من ضمان تنفيذ هذه الترتيبات، ألقت الأمم المتحدة المهووسة بالعملية بثقلها وراء إجراء الانتخابات بدون العمل على تهيئة الظروف المُناسبة لمثل هذا التصويت.

إن اندفاع الأمم المتحدة للوصول إلى فوزٍ سياسي يبعث على شعورها بالرضا وإطلاق عملية جديدة بغضِّ النظر عن المشهد السياسي المُستقطِب والمُثير للانقسام السائد في ليبيا، قد أدّى إلى وضعٍ حيث، قبل أسبوعين من الانتخابات المُقرّرة، لا تزال هناك سحابة كثيفة من عدم اليقين تحوم فوقه. نتيجة لذلك، تتجه ليبيا أكثر نحو فترةٍ أخرى من الصراع المُسلّح والانقسام.

إلى جانبِ العواقب الكارثية التي قد يُخلّفها هذا السيناريو على رفاهية الشعب الليبي ومعيشتهم وعلى قابلية بقاء ليبيا كدولةٍ مُستقلّة وذات سيادة، فإن إطالة أمد الصراع سيُوفّر أرضًا خصبة لتنظيم “الدولة الإسلامية” والجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة. قد تكون لذلك عواقب بعيدة المدى على دول المنطقة، فضلاً عن المصالح الأمنية والاقتصادية لكلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

إن ليبيا المُحاصرة وغير المُستقرّة لن تُفيد إلّا موسكو. يُشير سلوك روسيا وميلها إلى اللعب مع السلطات الليبية الشرقية والغربية ووضعها ضد بعضها البعض، إلى أن مصالحها تكمن في إطالة أمد الصراع أكثر من حلّه. ظهر هذا في كانون الثاني (يناير) 2019 عندما لم تبذل روسيا أيّ جُهدٍ للضغط على حفتر لتوقيع اتفاقٍ مع حكومة الوفاق الوطني السابقة بعد استضافتها القمة الروسية-التركية.

في حين قدّمت روسيا الدعم العسكري لحفتر من خلال مجموعة فاغنر، فإنها لم تُراهن بشكلٍ كامل على قدرته على السيطرة على ليبيا ولم تزوّده بقوة عسكرية حاسمة لضمان النصر. وبدلاً من ذلك، سعت إلى ضمان أن يكون للموالين لمعمر القذافي رأيٌ في مستقبل ليبيا. وقد نجحت روسيا في نهاية المطاف في ضمان مشاركة الموالين في منتدى الحوار السياسي الليبي.

بينما تكافح الأمم المتحدة من أجل الإبحار في العملية السياسية المُعقّدة في ليبيا وتُواجه احتمالية فترة جديدة من الاضطرابات والانقسام، يجب عليها الاعتراف بخطيئتها الأصلية: الاندفاع إلى الانتخابات مع التغاضي عن جميع التعقيدات والفروق الدقيقة للصراع.

  • سمير بنيس هو محلل سياسي مُقيم في واشنطن مُتخصّص في الشؤون العربية والسياسة الخارجية للمغرب. وهو المؤسس المشارك ل”أخبار المغرب العالمية”. صدرت مؤلفاته باللغات الإنكليزية والإسبانية والفرنسية والعربية. يمكن متابعته عبر تويتر على:@SamirBennis.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى