رِسالَةُ “أميرة” وَصَلَت!

عبد الرازق أحمد الشاعر*

لا يختارُ حرٌّ نُطفتَه ولا مَسقَطَ رأسِهِ ولا لونَ عينيه، كما لا يُستشارُ سجين في سماكة القضبان ورداءة الهواء وغلظة السجّان. لكن الأحلامَ وحدها تستطيع الانتصار على لزوجة النُطَف وضيق الأماكن وبُعدِ المسافات. الأحلامُ فقط تستطيع التسلّل عبر الأسلاكِ المُتشابكة وتجاوز الأسوار العالية والقفز فوق حدود الواقع مهما كانت تعاسته. والفنّ هو الجنّي الذي يستطيع إخراج حمّامات الخيال من قبّعةِ الواقعِ السوداء، ورشّ البسمات فوق الوجوه العابسة مهما كان بؤسها. لكن فلسطين التي تأبى إلّا أن تقلب السحر على الساحر كعادتها، رفضت أن تكون مشروعَ رَحمٍ مُستأجَر لأيِّ نطفةٍ غريبة حتى وإن صارت “أميرة” تتعاطف مع الأرض وأهلها.

“أميرة” مخاض رؤية حاول من خلالها المخرج محمد دياب أن يُصوِّرَ واقعَ البؤس الذي يحياه المُعتقَلون والسجناء الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال. وهو ما دفع بعضهم للتحايل على قيود الأَسر بإرسال نُطَفٍ مُحَرَّرة إلى أرحام زوجاتهم لإنجاب جيل الثورة والثأر، وكان نوّار أحد هؤلاء المُعتَقَلين. لكنه سيكتشف بعد مرور ثمانية عشر عامًا أنه عقيمٌ وأن “أميرة” التي كانت في رَيَعان فتنتها آنئذٍ ليست ابنته، بل ابنة السجّان الإسرائيلي الذي استبدل نُطفته “الحرّة” بأُخرى “مُحتَلّة” ليُدمّر مستقبله كما دمّرَ حاضره.

لم تُهدِّئ حماسة “أميرة” (تارا عبود) لقضية رحمها المُحتَل من غضبة الشارع الأردني أو الفلسطيني، ولم تستمل وجوه النجوم العرب المشهود لهم بالوطنية والنزاهة من أمثال صبا مبارك وعلى سليمان عقول المُشاهدين الفلسطينيين أو المُتعاطِفين معهم. ولم تَعبُث المَشاهدُ التي تُصوِّرُ قسوة الاحتلال وبؤس المعتقلين بمشاعر الثوار الذين اعتبروا الفيلم إهانة للمُعتَقَلين وذويهم وطالبوا الهيئة الأردنية للأفلام بسحب ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار، وهو بالفعل ما حدث.

فلسطين غير مُستَعِدّة لتقبّل نُطَفٍ غير مُحَرَّرة حتى وإن كانت في جمال “أميرة” وطيبة قلبها. وهذا الكائنُ “المسخ” محكوم بالرفض وإن بالغَ المُمثلون في الترويج له أو تجميله. وعلى الساعين إلى مزج زيت المحتل بماء أبناء الأرض أن يكفّوا عن محاولاتهم العابثة، ففي بيت المقدس وأكنافه رجالٌ علّمتهم معاهدات الاستسلام أن يقرَأوا النصوص جيدًا قبل أن يُصفّقوا لها، وأن لا يكتفوا بقراءة السطور قبل التوقيع والبصمة.

ماذا لو تبدّلت النُطَف؟ هكذا يقول المنطق. أليسَ من حقّ جميلة أن تُمارِسَ لَهوَها البريء فوق تُراب وطنٍ لم تعرف غيره؟ وأن تكون ابنةً للسجين والسجّان من دونِ أن تَفقُدَ حقّها الوجودي في حياةٍ لم تَخترها وواقعٍ لا تَملكُ أن ترفضَه؟ هكذا يقول الفيلم. وماذا لو وُضِعَت نُطفَةُ مُحتلٍّ في رحمِ مُغتَصِبٍ فكانت ثمرة الخطيئة “أميرة” أحبّها نوّار الذي يفقد عجزه وبؤسه وعقمه؟ هكذا فهم المشاهد الفلسطيني الرسالة.

تمّ عرض فيلم “أميرة” بنجاحٍ في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية مثل مهرجان البندقية (إيطاليا)، ومهرجان الجونة (مصر) ومهرجان قرطاج (تونس)، ومهرجان كرامة (عمّان)، كما فاز بجائزتين دوليتين في البندقية. لكن ذلك لم يشفع له عند أولياء الدم، أو إن صحّ التعبير أولياء النُطَف، وهم أَولى بالحُكمِ من النقّاد من غير أصحاب القضية أو الفنانين الذين صاروا قاب قوسين أو أدنى من اتهامٍ صريحٍ بخيانة القضية وأهلها، والترويج لأفكارٍ مُنحَرِفة تدعو إلى التعايش بين الجلّاد والضحية وتَقَبُّلِ مَنْي المُغتَصِب على أنه واقعٌ لا مناص منه.

الرفضُ حجرٌ آخر يرفعه أصحاب الأرض في وجه الاحتلال في زمنٍ صارت المقاومةُ فيه خطيئةً والتلذّذُ بالاغتصاب فنًّا وتقبّلُ النُطَف ديبلوماسية وواقعية. وفي وقتٍ قلَّ فيه المُدافِعون والمُناصِرون، وتخاذَلَ فيه الظهير العربي والإسلامي، يرفضُ الفلسطينيون إلقاء الحجر من أياديهم ليستقبلوا السجن والقمع والموت في ثباتٍ كما استقبلوه أول مرة. ولا يملك الواحد منّا إلّا أن ينحني إجلالًا لهذا الشعب الذي قاومَ الاحتلال والخذلان بروحٍ لا تعرف الهزيمة ولا تقبل النُطَف الوافدة مهما زيّنتها الأقلام والمؤتمرات والأفلام المشبوهة.

لعلّ الفيلم لم يهدف إلى إيصالِ أيٍّ من تلك الرسائل التي وصلت لللمُتابعين من أولياء النُطَف، وقد يكون عملًا بريئًا يَهدِفُ إلى تبشيعِ جرائم الاحتلال وإظهارِ دمامته، وإبراز الاعتقالات غير العادلة والممارسات غير الإنسانية التي يتعرّض لها المعتقلون الفلسطينيون في سجون الاحتلال، لكن استمالة القلوب نحو “أميرة” التي هي ثمرة لنُطفةِ سجّانٍ مارَسَ قمعه مرتين في حقّ مُعتَقَلٍ لا حول له ولا مستقبل، وانتهك حرماته مرتين حين اعتدى على أرضه وانتهك رحم زوجته لهو أمر يدعو للتساؤل والمُساءلة. لهذا، أهيب بكلِّ صاحبِ قلمٍ أن يغمس قلمه في قلبه مرتين قبل أن يكتبَ عن قضيةٍ دفع الآخرون دماءهم لأجلها، لأنّ مَن سَمع ليس كمَن رأى وعايش، وأهل فلسطين أدرى من الجميع بشعابها.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى