حَذارِ …حَذارِ من حلِّ حزب “النهضة”!

عبد اللطيف الفراتي*

بعد تشجيعٍ في غيرِ محلّه خلال السبعينات الفائتة لوقف الزحف اليساري الماركسي، لم تكن السلطات القائمة في المنطقة آنذاك تُدرك بأنها تلعب بالنار عندما قامت بتشجيع الجماعات الإسلامية لمواجهة الماركسيين. وعندما تفطنت للأمر كان الوقت فات، وانهالت الفأس على الرأس.

وظهر واضحًا للسلطة أن خطر الإسلاميين عليها أكبر بكثير من خطر اليساريين الماركسيين. فمن جهة يمثل الأخيرون طبقة من الشباب غير فاعلة في أعماق المجتمع مقابل الغلبة الواضحة للشعور الديني المُتجذّر في المجتمع، ولم يكن الماركسيون وصلوا في تلك الفترة إلى حد النضالية والتضحية القصوى، فيما اللاحق هو نمو النضالية الاسلامية المنتشرة عروقها في المجتمع، بخاصة بعد هزيمة 1967، التي لم تكن هزيمة مصرية – سورية – أردنية بقدر ما كانت هزيمة للقومية العربية، التي بدت وكأنها ليست الجواب الملائم للاستعمار وربيبته إسرائيل، حيث انتشرت بعدها مقولة “الإسلام هو الحل”.

وفيما كانت “الطلائع” العربية، تحاول فهم سبب ما حلّ بها من هزيمة، كانت جهات معينة من المُتديّنين ترفع صوتها بالقول إن الخروج عن الدين هو سبب الهزيمة. إذ عوض التضرّع إلى الله وتلاوة القرآن، احتلت أناشيد “وطنية” كل مساحة الإذاعات وشاشات التلفزيون، ولم يكن ثمن ذلك سوى هزيمة مُنكرة، نتيجة التنكر للسند الحقيقي أيّ الدين.

من هنا تحرّكت “ماكينة” ضخمة في أنحاء كثيرة من العالم العربي، ومنها تونس، إتقاءً لهذا الوافد الجديد المُتمثّل، في النضال المُتدَيّن. وبعد أن نال راشد الغنوشي شكر مدير الحزب الدستوري محمد الصياح، على ما قدّمه من سند لذلك الحزب في رسالة وردت عليه في ذلك الحين ممهورة بطابع الحزب الاشتراكي الدستوري، أصبح راشد الغنوشي مُلاحَقًا ، وتم زجه ورفاقه في السجن  وصدرت أحكام ثقيلة بالحبس ضدهم.

وقامت مجموعة من المثقفين والحقوقيين، وكنتُ شخصيًا واحدًا منهم، بالإضافة إلى الدكتور حمودة بن سلامة الأمين العام لرابطة حقوق الإنسان، بتحرّكات واسعة، ليس فقط لإطلاق سراح جماعة ما كان يسمى بالإتجاه الإسلامي بل بتمكينهم من حقّ التعبير عن أنفسهم. وإذ كانت أسباب ذلك التحرّك مختلفة، فقد تمحورت حول محورين أو ثلاثة:

  • الحقّ في حرية التنظيم وحرية التعبير؛
  • مُناهضة الملاحقة بسبب اختلاف الرأي؛
  • عدم إعطاء الفرصة لتقوية وزيادة هذا الاتجاه عبر جعل أصحابه ضحايا، وكل الدراسات الاجتماعية تدل على أن الجماهير تتماهى مع ضحايا التعسّف وتتحوّل إلى مؤيدة لها .

ومن هنا نصل إلى لبّ الموضوع، وهو ما يدور في هذه الأيام بشأن احتمالات حل حزب “حركة النهضة”، لمخالفاتٍ قد يكون ارتكبها، ولعلّه ارتكبها فعلًا.

من هنا أيضًا نُنبه وعن تجربة ونقول حَذارِ من هذه الخطوة. ينبغي تجنّب اللجوء إلى هذا الحلّ، وبخاصة، خارج الأحكام القضائية بكل أطوارها.

ونحن نزعم أن القوّة الكامنة اليوم للحزب الدستوري الحر، الذي تفيد كل عمليات سبر الآراء التي يطّلع عليها الناس بحكم تشرها، أو التي لم يطلعوا عليها بحكم صدورها عن جهات خارجية، تتابع عن كثب ما يجري في بلادنا ب”أبوابها  المفتوحة ولنقل كذلك المُختَرقة”، إذن التي يطلع عليها الناس، تفيد بأنها أي هذه الحركة تتصدّر قائمة المؤهلين للفوز بأي انتخابات تشريعية أو محلية مقبلة، ولعلّ عبير موسي، لا تكتفي بزعامتها لخطابها المقنع، بل باعتبارها سليلة حزب بلغ من العمر قرنًا كاملًا وتمّ حلّه بغير وجه حق كما  ينبغي أن يحصل … ويحصل فعلًا في البلدان المُتخلّفة، وانكفأت زعاماته على نفسها، ولم تحاول حتى مجرد محاولة الدفاع عن حزبها، علمًا إني لم أكن يومًا من المنخرطين فيه، ولا  من أنصاره،  بل نالني منه ومن قياداته الأذى والتضييق.

إن الذين يدعون اليوم إلى حل “النهضة”، إنما يحفرون قبورهم بأيديهم، فهذه الحركة الإسلامية ليست فقط تنظيمًا أو هياكل، بل هي فكر وإيديولوجيا دينية باقية، تتفق أو تختلف مع توجهاتها، ما دام في البلاد مسلمون. قد تتقهقر شعبيًا وقد تفوز في انتخابات أو تنهزم ولكنها باقية كفكرٍ وكإيديولوجيا دينية، مطلوب منها أن تُساير الواقع، وأن تفصل بالحجم الكافي بين ما هو سياسي، وما هو عقائدي ديني.

وكما فازت “النهضة” بانتخابات 2011، بنسبة كانت تعطيها أغلبية نيابية لو تم اتباع نموذج انتخابي آخر، فإن حشرها في الزاوية عبر حلها لن يكون له من أثرٍ إلّا زيادة قوّتها.

ربما من الواجب مُعاقبة المسؤولين في “النهضة” عن الانحرافات التي أتتها، وهي التي كان الاعتقاد سائدًا لديها أنها ستبقى مسيطرة على السلطة إلى الأبد، وأنه لن يجرؤ أحد على زحزحتها. ولكن الفكرة الإخوانية لن تُمحى وستبقى قائمة، ربما كأقلية، وربما وهذا احتمال ضعيف كأغلبية ، ولكن  بعد تطهير نفسها فكرًا وزعامات لتُساير ما تدعيه بأنها تحمل توجها ديموقراطيًا.

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى