جنازةُ الدولةِ في نعشٍ أَجْوَف

هنري زغيب*

الذين تابعوا مساءَ الثلثاء الماضي (30 تشرين الثاني/نوڤمبر) دخول نعش جوزفين بيكر إِلى الپانتيون – وهو مبنى أَضرحة يضم رفات كبارٍ في تاريخ فْرنسا، وعلى جبين مدخله محفورةٌ عبارة “الأُمَّة وفيَّةٌ لعظمائها” – لا بُد أَنهم لاحظوا الأُبّهة الفائقة في الاحتفال، منذ سار على السجاد الأَحمر موكبُ الجنود حاملين النعش مجلَّلًا بالعلَم الفْرنسي، دخلوا البهوَ الكبير حيث ينتظر كبار الدولة، يتقدَّمهم رئيس الجمهورية الذي قبل إِلقاء كلمته انحنى أَمام النعش، وقال في كلمته البليغة كعادته: “فْرنسَاي أَنا هي جوزفين”، إِيماءً إِلى دَور المغنية السمراء الملتزمة في مقاومة الاحتلال حتى باتت “أَيقونة الحرية في فْرنسا”. فبعد 46 سنةً على وفاتها، كرَّمتْها فرنسا بإِدخالها إِلى هذا الصرح الفخم المسمَّى “معبد الجمهورية العلْماني” وهو الضريح الجَماعي العريق الذي، منذ الثورة الفْرنسية، بات شهادة وفاءٍ لِـمن عمَّروا تاريخ الأُمة الفْرنسية.

سوى أَن دخول جوزفين بيكر (1906 – 1975) كان مختلفًا عن أَيِّ دخولٍ آخر: ذلك أَن النعش المحمول كان فارغًا، وما سيكون في الجناح 13 من الپانتيون إِنما ضريح أَجْوَف يضم أَربع حفنات تراب من الأَربع المدن الغالية على جوزفين بيكر: مدينتها الأُم سانت لويس (ولاية ميزوري الأَميركية)، پاريس التي شَهَرَتْها، قصر ميلاند التاريخي الفْرنسي مقرُّ جمعيَّتها “قوس قزح”، وموناكو حيث عاشت سنواتها الأَخيرة وفيها ماتت ودُفنت. أَما أَن يبقى ضريحُها أَجوفَ في الپانتيون، فرغبةُ أَولادها العشْرة أَن يظل رفاتها في ضريح موناكو ولا ينقل إِلى پاريس. هكذا إِذًا: كلُّ هذه الأُبَّهة الفخمة، احتفالٌ رمزيٌّ بنعش فارغٍ  يحمله جنود إِلى ضريح سيبقى أَجْوفَ إِلَّا من أَربع حفنات تراب.

جئتُ اليوم على ذكر ذلك، لأَني هكذا أَرى الدولة عندنا: مؤَسساتها فارغة، أَجهزتها فارغة، عناصرها البشرية غائبة، فاعليَّتُها غائبة، ومع ذلك يحمل السياسيون نعشَها الفارغ ويسيرون في مأْتمها ليدفنوها في ضريح أَجْوَف.

أَقول “الدولة” ولا أَقول “الوطن” لأَن هذه الدولة هي دولتُهم التي جعلوها على صورتهم القبيحة. أَما الوطن فأَعظَم منهم جميعًا ويَنْبُذَهُم جميعًا.

قلتُ إِن الدولة “فارغة” والأَصحُّ أَن أَقول “مفرَّغة” مجوَّفَة من جسدها. وقلت إِن مؤَسساتها “غائبة” والأَصح أَن أَقول إِنها “مغَيَّبَة” من فاعليتها، بسبب حكَّام جوَّفُوها فأَفرغوها من نبْضها بحشْرهم فيها أَزلامًا ومحاسيبَ بدون كفاءَة ولا استحقاق، وغيَّبوها عن النبْض بسبب تضخُّمٍ في رُتَبٍ ورواتبَ جوَّفَت ميزانية الدولة باحتساب معاشاتٍ لفائضِ آلافٍ من موظَّفين أَزلام لا يعملون ولا يُنتجون، فكان ما كان، وازدادَ التضخُّم حتى ذبحوا الليرة على عتبة قصورهم ومسحوا بها أَيديهم من دمها.

تجويف… تخويف… تجويع… ثلاثية الفساد الأَرعن!!

هي هذه الصورة الفاجعة التي طالعَتْني وأَنا أَتابع احتفال الپانتيون: هناك جنازة بنعْش فارغ لجثمان غائب لكنه بأَثَره قويُّ الحضور، وهنا جنازة يسير فيها سياسيون حاملين نعشَ دولةٍ همُ اغتالوها إِذ جوَّفُوها من شرايينها ليُغَذُّوا شرايـيـنهم، وخَلْخَلوا مقاعدها كي يُثبِّتوا مقاعدهم مدى الحياة، وداسوا على أَكداس ليرتها كي يسيروا على جثتها إِلى تكديس أَموالهم في الخارج. ومع ذلك هُم في وسْط هذه الجنازة، لا يتردَّدون عن وقاحة التصاريح والبكاء والنواح وتقاذُف التُهم من واحدهم إِلى الآخر، حتى بلغَت وقاحتهم أَن يُلقوا المسؤُولية على الشعب المسحوق بعُهْرهم الكافر.

غير أَن الشعب المسحوق سينتفض قريبًا، بقسْوة وفُجَاءَة يومَ الانتخاب، وسيرى لبنان مشهدًا آخَر لجنازةٍ أُخرى، إِنما هذه المرة لا بنعشٍ فارغ، ولا إِلى ضريح أَجوف.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى