ماذا حلّ بكِ يا تونس بعد انتفاضة 2011؟ (5)

عبد اللطيف الفراتي*

ظنّت قيادات “النهضة” أن الأمر استقرّ لها، وأنها باتت مُتحكّمة بالوضع وبدأت سياسة ما سمي بالتمكين، وإن لم تتوقّف أبداً حتى 25 تموز (يوليو) 2021، وربما للأبد  في تقديرها، أو على الأقل لخمسين سنة مقبلة، بحيث يقع فرض تصوّر مجتمعي جديد، على أنقاض التصوّر المجتمعي القائم، اعتماداً على الشريعة ومقتضياتهاـ في قطيعة مع السائد، والذي انطلق منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر مع أحمد باي، الذي استوحى توجهاته من توجهات محمد علي باشا في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، مع  الأفكار التي جاء بها نابليون بونابرت خلال حملة محاولة احتلال مصر التي باءت بالفشل. ورُغم السياسة المالية والاقتصادية الخرقاء للملك أحمد باي، التي دفعت بالبلاد إلى الإفلاس، فإن تقدماً فكرياً وعلمياً قد دخل البلاد التونسية، واستمر مع فكر التنوير مع خير الدين باشا والجنرال حسين، وخليل بوحاجب مع التطعيم المصري عبر محمد عبده، والأميرة نازلي، وكتب قاسم أمين الذي سار على هديه بعد 30 سنة الطاهر الحداد،  قبل أن يأتي الحبيب بورقيبة بفكره الاصلاحي العميق بتطوير العلاقات الأسرية، وإذ استنبط نابليون أفكاراً اعتُبرت ثورية من التشريع المشرقي عند إقامته في مصر، فإن بورقيبة عاد إلى المنابع، من ذلك الفكر.

إعتقدت حركة “النهضة” أنها ستعود بالبلاد إلى ما كانت عليه في عصور الانحطاط، غير أنها جوبهت بصخرة صلدة من القوى الحيّة في المجتمع، وقد استقوى الاسلاميون في تونس بالتجربة المصرية التي حاول فرضها محمد مرسي، ولكن التمرّد الذي حصل في الميادين المصرية وجمع ملايين عدة من المصريين إنتهى بإسقاط مرسي  واختطاف الثورة الشعبية والتمرد الشعبي من طرف الجيش المصري.

في تونس كانت التجربة الأولى متمثلة في إرادة فرض الشريعة في الفصل الأول من الدستور، غير أن القوى الحيّة في المجتمع وقفت سداً حائلاً. وللواقع فإن رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر على تورّطه في تحالف غير طبيعي مع “النهضة”، وهو العلماني المُتحرّر، اتّخذ موقفاً قوياً، حيث قال لن يمرّ ذلك التوجّه إلّا على جثتي.

وخافت “النهضة” من انسحاب التكتل، فينفرط عقد التحالف وتسقط الحكومة، كما خافت أن يحدث في تونس ما حدث في مصر من تمرّد شعبي كاسح ، وتم اللجوء إلى حلٍّ وسط بالعودة إلى الفصل الأول من دستور 1959، الذي كان هو نفسه نتيحة حل وسط بين العلمانيين والزيتونيين. ثم جاءت فرصة ثانية أمام انسداد الآفاق، عندما عطّل بن جعفر اجتماعات المجلس التأسيسي، ما أدى، أمام تفاقم الأزمة ونجاح اعتصام الرحيل، وخروج مئات  الآلاف في مظاهرة 13 آب (أغسطس) 2013، إلى تراجعٍ تكتيكي ل”النهضة”، خصوصاً بعد سقوط 3 شهداء تحت حكم “النهضة”، واتهام عدد كبير من رجال الطبقة السياسية بأنهم وراء تلك الاغتيالات.

قامت “النهضة” بتراجعٍ تكتيكي، فقبلت بكثير من الأشياء، ولكنها أبقت على الأساس أي سياسة التمكين باحتلال المواقع، ومحاولة ناجحة إلى حد كبير في السيطرة على الأمن والقضاء.

إستمر ذلك على مدى عشر سنين، حتى في فترة “حكم ” الباجي قائد السبسي، بخاصة بعد أن تحالف رئيس الحكومة يوسف الشاهد مع راشد الغنوشي، في ظاهرة مشهودة بقلّة الوفاء، أما الباجي قائد السبسي وبالنظر إلى تقدّمه في العمر،  فقد فقد  قدرة المبادرة حتى وفاته قبل نهاية ولايته.

وضعت “النهضة” ليس فقط قدماً في الحكم، ولكن باتت حقيقة السلطة في يدها تبعاً لدستور يناسبها.

واستمر الوضع على تلك الحال طيلة قرابة سنتين من ولاية قيس سعيد.

( وإلى اللقاء في الحلقة السادسة المقبلة)

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومحلّل سياسي مخضرم تونسي. كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى