اليمن: كيف انقلبت المعركة؟

محمًد قوّاص*

بدت ساذجة إطلالة الرئيس الأميركي جو بايدن في الأيام الأولى لتسلّم ولايته على المسألة اليمنية. وبدا في ما قرّره بخصوص هذا البلد نزقاً ركيكاً لا يليق بالموقف الذي يجب أن تتّخذه دولة كبرى، سواء من حيث التعجّل في الرجوع عن قرار إدارة سلفه دونالد ترامب بوضع جماعة الحوثي على لوائح الإرهاب، أم من حيث استسهال الكيدية تجاه التحالف العربي كرمى لعيون الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة.

والقضية لا تتعلق فقط بـ”إرهابية” الحوثيين وفق ما أدرجته الإدارة السابقة. فحتى هذا التطوّر أتى مُتأخّراً ولم يُعلن عنه إلّا قبل عشرة أيام من مغادرة ترامب للبيت الأبيض، بما جعل من هذا القرار أيضاً شكلياً مُصطنعاً. لكن الأمر يتعلق بالرؤية الحائرة التي تُقارب بها واشنطن الحرب في اليمن منذ إدارة باراك أوباما، بدون أن تُظهر إدارة ترامب انخراطاً حقيقياً يبتعد عن مناورات المُسايرة للحلفاء التي لم تبلغ حدود الجزم والحسم في هذا الملف.

غير أن بايدن، ومن موقع المُنتقد للتحالف العربي، نقل موقف بلاده من حيّز الغموض غير البنّاء إلى حقبة “التورّط” في الوعد بإنهاء هذه الحرب وتكليف “تيم ليندركينغ” مبعوثاً خاصاً لتحقيق ذلك. والحال أن هذا التمرين دفع واشنطن إلى داخل الميدان اليمني والاصطدام بحقائقه التي لطالما اجتهدت حكومات اليمن التابعة للشرعية كما منابر التحالف العربي في شرحها وإماطة اللثام عن وقائعها. وكان على الولايات المتحدة أن تعترف، خلال أشهر فقط، وبرعاية ليندركينغ، بطبيعة جماعة الحوثي وارتباطها العضوي والاستراتيجي بأجندة الحاكم في طهران.

الحوثيون أنفسهم، ومن ورائهم إيران، أدركوا عقم محاولتهم أمام إدارة بايدن في تقديم حرب اليمن بصفتها عدوان الخارج على الداخل. أدركوا أيضا أن تجارة المظلومية وحقوق الإنسان لم تعد تجد لها زبائن في أسواق الكونغرس ومؤسسات السلطة التنفيذية من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية مروراً بوزارة الدفاع. وبدا أن تقارير مؤسسات الأمن تتكدّس على مكاتب أصحاب القرار في واشنطن مُحذّرة من استمرار السياسة الساذجة التي دشّن بها بايدن إطلالته على قضايا الشرق الأوسط. والواضح أن فشل الحوثيين في استدراجِ تحوّلٍ أميركي لصالحهم، يُفسّر قيامهم أخيراً باقتحام مجمع السفارة الأميركية المُغلقة في صنعاء واحتجاز عدد من العاملين اليمنيين قبل أن يتم الإفراج عن معظمهم.

بالمقابل أخذت السعودية وحلفاؤها في اليمن والمنطقة عِلماً بالمُستَجد الذي كان متوقَّعاً مع ولوج بايدن عتبة البيت الأبيض. والأرجح أن الرياض لم تتعامل مع المستجد بصفته عداء بنيوياً، وإن أخذ هذا الشكل، بل انخراطاً أميركياً لطالما كان مطلوباً. ولئن تباهى بايدن بالتوعّد بإنهاء الحرب، فإن الرياض تقدّمت عليه لاحقاً حين أعلنت عن مبادرة مُتكاملة تنخرط داخلها على نحو عملياتي لإنهاء هذه الحرب.

قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في آذار (مارس) الماضي إن المبادرة تتضمّن وقفاً شاملاً لإطلاق النار تحت مراقبة الأمم المتحدة، وإيداع الضرائب والإيرادات الجمركية لسفن المشتقّات النفطية من ميناء الحُديدة في الحساب المشترك في البنك المركزي اليمني في الحُديدة وفق اتفاق ستوكهولم. وتشمل المبادرة أيضاً فتح مطار صنعاء الدولي وبدء المشاورات بين الأطراف اليمنية للتوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة اليمنية برعاية الأمم المتحدة بناءً على مرجعيات قرار مجلس الأمن الدولي 2216 والمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني اليمني الشامل. رفض الحوثيون المبادرة.

أكثر من ذلك. استجابت السعودية في نيسان (أبريل) لوساطة رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي لإقامة حوار بين الرياض وطهران في بغداد. ولم يكن خافياً أن ملف اليمن هو الأكثر سخونة في سلّم النزاعات بين البلدين وأن التقدّم في هذا الملف هو مفتاح أي انفراج في العلاقات السعودية-الإيرانية. وفيما حرص الطرفان على عدم الإفصاح عن فحوى هذا الحوار ومضامينه، إلّا أن ما نعرفه هو رواية إيرانية سعيدة بالحوار وتتحدّث عن “التقدّم الإيجابي” الذي يحققه، ورواية سعودية ظلّت تُكرّر، على الرغم من خوض أربع جولات من هذا الحوار، أن الحوار ما زال في مراحل استكشافية.

على ذلك يبدو واضحاً أن صولات واشنطن الديبلوماسية وجولات الحوار الإيراني-السعودي لم تسفر عن أيِّ تطوّر من شأنه وضع القطار على سكّة الحل في اليمن. لا بل على العكس من ذلك زادت وتيرة الصواريخ الباليستية والمُسيّرات التي تستهدف الأراضي السعودية، واشتدّت موجات الهجمات العسكرية التي يشنّها الحوثيون على مأرب، بحيث بات سقوطها بالنسبة إليهم أولوية وشرطاً لإنجاح مفاوضات الظل في مسقط، وبات بالنسبة إلى إيران إنجازاً وجب تحقيقه قبل الذهاب إلى فيينا ويستحق كل هذا التلكّؤ في تفعيل المفاوضات حول الاتفاق النووي.

وفق تلك القراءة المتأنية بالإمكان استنتاج التحوّلات اللافتة التي شهدها المشهد العسكري الذي رسمته التحركات الجديدة التي قلبت المعركة العسكرية في وقت قياسي في اليمن. تحدثت تقارير في التاسع من الشهر الجاري عن إعادة تموضع ملتبس للقوات السعودية في عدن. ثم بعد ثلاثة أيام شاب انسحاب القوات المشتركة من محيط الحديدة غموضاً مُباغتاً مُقلقاً سرعان ما أعلن التحالف العربي أنه جزءٌ من تكتيكاته الجديدة. فانسحاب تلك القوات من المناطق المحيطة بالحديدة شكّل صدمة صاعقة لم تكن سارة لخصوم الحوثيين قبل أن يظهر لاحقاً أن الأمر يندرج ضمن خطّةٍ لإعادة توزيع القوات واستغلال كافة الإمكانات لفتح جبهات عدة كان أبرزها ما تحقق على الساحل الغربي ومناطق أخرى لا سيما في مأرب.

ولئن تُمثّل القوات التي أعادت تموضعها مزاجاً سياسياً مختلفاً عن ذلك الذي يُمثّله تيار الرئيس عبد ربه منصور هادي وجهدت اتفاقات الرياض لحسن تدبيره، فإن تَواكُبَ التحرّكات العسكرية مع تواجد عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي ووفد مرافق له في الرياض، كشف عن تحوّلٍ باتجاه وحدة الموقف الميداني اليمني الداخلي في مواجهة الحوثيين من جهة، كما عن وحدة كاملة داخل التحالف العربي في مقاربة المرحلة وظروفها وشروطها.

والظاهر أن تقاطعاً دولياً إقليمياً يمنياً تَوَفّرَ في هذه اللحظة للعبور نحو انعطافة ترقى إلى المستوى الاستراتيجي للوصول إلى مآلات حميدة لوقف الحرب في اليمن. ولئن تتوسّع عمليات التحالف العربي (وكأنها تتحرّر من قيودٍ دولية سابقة) ويقلب اليمنيون المُوَحَّدون حول الشرعية الستاتيكو الذي كان يفرضه الحوثيون المستفيدون من التسامح الدولي، فإن تلك التحوّلات الميدانية ما زالت في أيامها الأولى، وما زال مُبكراً استشراف الخطوات الميدانية والدولية المقبلة داخل الملف اليمني، وما زال مُبكراً توقّع رد فعل الحوثيين وإيران على التحوّلات الميدانية والديبلوماسية التي تربك حسابات طهران وسلامة نفوذها لدى أذرعها في اليمن.

الحرب كرّ وفرّ وهي أداة من أدوات السياسة. وفيما يتبدّل الوضع على الجبهات، فليس بالضرورة أن يؤدّي ذلك إلى حسم الصراع بالنار، بل أن في ديناميات العسكر في اليمن ما يستتبع مناورات ترفع من مستوى انتاجية المبعوثين الدوليين وتدفع بحوار طهران الرياض إلى مرحلة تخرجه من عنق المراوحة والاستكشاف.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى