هل يُخطئ بوتين في التقدير؟

تلوحُ في الأفق أكبر تكلفة مُحتملة لموسكو في أوكرانيا إذا غزتها، فقد حسّنت كييف جيشها وعزّزته بشكل كبير، وعلى الرغم من أنها قد لا تكون قادرة على هزيمة التوغّل الروسي، إلّا أنها ستجعل الغزاة يدفعون ثمنًا باهظًا.

القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا: هل يخاطر بوتين بافتعال حرب جديدة مع أوكرانيا؟

ستيفن بيفر*

تُواجه أوروبا حاليًا أزماتٍ عدّة تستغلّها أو تُحرّض عليها روسيا. وتنتشر التكهنات بشأن ما يأمل فلاديمير بوتين في تحقيقه. يجب أن يحرص على عدم المبالغة في استخدام قبضته.

وصلت إحدى الأزمات إلى ذروتها خلال الشهرين الماضيين حيث ارتفعت تكلفة الغاز الطبيعي في أوروبا بشكل كبير. في حين انخفض السعر من الذروة في تشرين الأول (أكتوبر)، فهو يحوم الآن حوالي أربعة أضعاف ما كان عليه في بداية العام. لم تتسبّب روسيا في هذه الأزمة – إذ أن جذورها تكمن في عوامل مثل ارتفاع الطلب بشكل غير طبيعي على الطاقة وانخفاض إنتاج الغاز في أوروبا– لكن من المؤكد أن موسكو استغلّت الموقف.

يؤكد الكرملين أن مبيعات الغاز إلى أوروبا “قضية تجارية بحتة”. ومع ذلك، يتوقّع الكثيرون من شركة غازبروم الروسية أن تزيد من صادراتها من الغاز، حيث قد تجتذبها الأسعار المتزايدة بشكلٍ كبير. لكن تدفقات الغاز ما زالت أقل بكثير مما كانت عليه في تشرين الأول (أكتوبر)، وقد أفاد نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك بأن تدفقات الغاز يمكن أن تزداد إذا بدأ تشغيل خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يمرّ تحت بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا. وهذا الكلام يتجاهل حقيقة أن روسيا لديها أصلًا قدرة كبيرة عبر خطوط الأنابيب لنقل الغاز الإضافي إلى أوروبا … إذا أرادت ذلك.

الأزمة الثانية صنعها الديكتاتور البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على طول الحدود مع بولندا، عندما حاولت حكومته إجبار المهاجرين واللاجئين الاقتصاديين من الشرق الأوسط على عبور تلك الحدود. لوكاشينكو تحت الضغط وغير سعيد لأن الاتحاد الأوروبي لا يعترف به كرئيس، وقد فرض عقوبات على بلاده في الوقت الذي شنّت مينسك إجراءات صارمة ضد المعارضة المحلية، بما فيها إجبار طائرة ركّاب مدنية على الهبوط لاعتقال أحد الركاب (صحافي مُعارض) في أيار (مايو) الفائت.

من المحتمل أن يكون هذا الإستخدام البغيض للمهاجرين كسلاح من بنات أفكار لوكاشينكو. مع ذلك، دعمت موسكو موقف مينسك. عندما عززت بولندا شرطة حدودها بجنودٍ من الجيش النظامي، حلّقت القوات الجوية الروسية بقاذفات نووية فوق بيلاروسيا ردًا.

تنبع الأزمة الثالثة مباشرة من قيام موسكو بوضعِ قوّاتٍ عسكرية بالقرب من حدود أوكرانيا، ما يثير تساؤلات حول هجوم روسي محتمل. وكان الجيش الروسي نفّذ حشدًا مُماثلًا في الربيع الفائت، لكن لم ينتج عنه شيء. ومع ذلك، ساءت العلاقات بين كييف وموسكو. في تموز (يوليو)، نشر بوتين مقالاً من 6,000 كلمة ينفي فيه حق أوكرانيا في الوجود كدولة مستقلة. في تشرين الأول (أكتوبر)، أكد الرئيس السابق ديميتري ميدفيديف أنه “من غير المجدي” التفاوض مع كييف.

بينما تنفي موسكو سوء النيّة، فقد حذّر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين والأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” ينس ستولتنبيرغ روسيا علنًا من استخدام القوّة ضد أوكرانيا. كما صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا مستعدة “للدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا” واستعدّت بريطانيا لإرسال 600 جندي إلى البلاد.

كل هذا يحدث في الوقت الذي يُشدّد الكرملين “براغيه” القمعية في الداخل. تحرّك مكتب المدعي العام الروسي في الأسبوع الماضي لإغلاق مركز “ميموريال” لحقوق الإنسان، وهو كيان حقوق الإنسان الأكثر شهرة في روسيا، وقد تم تأسيسه والسماح له بالعمل في العهد السوفياتي.

كل هذه الأزمات وضعت ضغوطاً على أوروبا والغرب، كما كان المقصود بلا شك. لكن بوتين والكرملين في كل حالة يواجهان خطرًا حقيقيًا يتمثّل في سوء التقدير والمبالغة في تقدير أفعالهما ومدى قوة البلاد لمواجهة الضغوط الدولية.

عندما اجتاحت موجة مبكرة من المهاجرين أوروبا ابتداءً من العام 2015، إنقسمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول ما يجب القيام به. قبلت ألمانيا بشكل بطولي مليون شخص، في حين أن بولندا لم تقبل أي شخص تقريبًا، وألقى زعيم الحزب الحاكم فيها باللوم على برلين في هذا التدفّق. هذه المرة، يبدو أن موقف أعضاء الاتحاد الأوروبي هو واحد. عرضت الحكومة الألمانية إرسال حرس الحدود الألمان ووضعهم تحت القيادة البولندية لإدارة الوضع على الحدود مع بيلاروسيا. بدأ الاتحاد الأوروبي في إعداد قائمة عقوبات جديدة لتطبيقها على مينسك. وكلما زاد تأثيرها، زاد لجوء لوكاشينكو إلى موسكو للحصول على المساعدة المالية – وهو أمر لا ينبغي أن يجذب بوتين كثيرًا.

تتمتع روسيا على مدار الثلاثين عامًا الماضية بتاريخٍ حافل في استخدام سلاح الطاقة ضد دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، مثل أوكرانيا وجورجيا، ودول أخرى في ما كان يُطلق عليها ذات مرة “أوروبا الشرقية”. ومع ذلك، سعت موسكو إلى الحفاظ على سمعتها كمورّد موثوق للطاقة لدولٍ مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا وهولندا. يضع الوضع الحالي هذه السمعة موضع شك، وربما بدأت العواصم الأوروبية تُدرِكُ الضعف الناجم عن الاعتماد على الطاقة الروسية. في ألمانيا، حيث سيدخل حزب الخضر الصديق للبيئة الحكومة الجديدة، يُمكن أن يؤدي ذلك إلى انتقالٍ وتحوّلٍ أسرع بعيدًا من الطاقة الأحفورية. كما يعلم بوتين ويعرف جيدًا، فإن النفط والغاز هما أكثر صادرات روسيا ربحًا. هل من مصلحة روسيا تشجيع أوروبا على تكثيف بحثها عن مصادر بديلة وتسريع ابتعادها عن الطاقة الكربونية؟

أما بالنسبة إلى أوكرانيا، فإن الهجوم العسكري الروسي من شأنه أن يؤدّي إلى سلسلة من التكاليف. بدأ المسؤولون الأميركيون والأوروبيون بالفعل وضع قائمة بالعقوبات الجديدة المُحتَملة ضد موسكو. بعد قمة بوتين مع الرئيس جو بايدن، تمت استعادة العديد من قنوات الاتصال الأميركية-الروسية، وأفاد كلا الجانبين بتبادلاتٍ بنّاءة في حوارهما بشأن الاستقرار الاستراتيجي. لا شيء يقتل تلك الخطوات الإيجابية الصغيرة أسرع من هجومٍ روسي. تلوح في الأفق أكبر تكلفة مُحتملة لموسكو في أوكرانيا؛ فقد حسّنت كييف جيشها وعزّزته بشكل كبير، وعلى الرغم من أنها قد لا تكون قادرة على هزيمة التوغّل الروسي، إلّا أنها ستجعل الغزاة يدفعون ثمنًا باهظًا. إن المزيد من العقوبات، والتجميد الشديد للعلاقات على كل المستويات مع واشنطن والغرب، وعودة الجنود الروس إلى الوطن في أكياس جثث لا يبدو في مصلحة موسكو.

يمكن أن تتطوّر كلٌّ من هذه الأزمات بطرقٍ مُعادية لمصالح روسيا – وبوتين، على الأقل كما يُنظر إلى هذه المصالح من الغرب. لكن بوتين لا يتبع المنطق الغربي. كما لوحظ في مقال حديث، فهو لا يتّخذ دائمًا قرارات عقلانية ويميل أحيانًا إلى التصرّف عاطفيًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا. (في الواقع، إن عدوانية الكرملين خلال السنوات السبع الماضية فعلت أكثر من أيّ شيء آخر لإبعاد أوكرانيا عن روسيا وتقريبها من الغرب).

قد يؤدي تعميق هذه الأزمات إلى نتائج سلبية لروسيا إذا أخطأ بوتين في التقدير. ومع ذلك، لا ينبغي للغرب أن يستبعد بشكل مفرط إمكانية قيامه بذلك.

  • ستيفن بيفر هو زميل كبير غير مقيم في مبادرة الحد من التسلح وعدم الانتشار، ومركز الأمن والاستخبارات في القرن الحادي والعشرين، ومركز الولايات المتحدة وأوروبا في معهد بروكينغز، وزميل ويليام جيه بيري في مركز الأمن والتعاون الدولي في جامعة ستانفورد. يمكن متابعته عبر تويتر على: @steven_pifer
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى