الحروب داخل الإسلام لم تنتهِ بعد

إذا استثمرت واشنطن وأصدقاؤها جُزءاً بسيطاً من الجهد الإبداعي والاستثمار الذي قدموه للأدوات القديمة التفاعلية، فسيجدون فُرَصاً بنّاءة للتأثير في مسار الحروب داخل الإسلام.

الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد: يُحاولان التكيّف مع عالم اليوم الحديث.

فيليب زيليكو*

في وقت سابق من هذا العام، أنتجت الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 سيلاً من التعليقات، تركّزت في الغالب على الولايات المتحدة وحول ما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب وإرثها. ولا شك أن العقدين اللذين أعقبا أحداث 11 أيلول (سبتمبر) يُمثّلان فصلاً مهماً في تاريخ العالم الحديث. لكنه فصلٌ لا يتعلق بشكل أساسي بالولايات المتحدة.

منذ العام 1979، أدّى الصراعُ، العنيف في كثيرٍ من الأحيان، حول كيفية التكيّف مع الحداثة إلى اضطرابِ العالم الإسلامي، من غرب إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا، واجتاح الجاليات المسلمة المغتربة، بخاصة تلك الموجودة في أوروبا. إن رؤية هذا الأمر على أنه “صراع حضارات” يضع الإسلام في مواجهة الغرب سيكون بمثابة سوءِ تقديرٍ عميق. ما يراه الأميركيون في الغالب هو تداعيات الحروب داخل الإسلام. تحمل هذه النضالات حول مستقبل الحضارة الإسلامية بعض التشابه مع حروب الإصلاح الديني والاجتماعي التي امتدت عبر العالم المسيحي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والصراعات الطويلة في القرنين التاسع عشر والعشرين حول كيفية تنظيم المجتمعات الصناعية الحديثة.

بشكل أساسي، كانت الولايات المتحدة دائماً دخيلة على هذه النضالات داخل العالم الإسلامي – ردّ فعل ومُتردّدة. يميل الأميركيون بطبيعة الحال إلى وضع أنفسهم وحكومتهم في قلب هذه القصص، ويصورون أنفسهم إما ضحايا أو جناة. لكن هذه اللابؤرية (astigmatism) يُشوّه المنظور ويُعيق تطوير المزيد من الاستراتيجيات البنّاءة، والتي يجب أن تنطوي على شراكات عالمية مُعقَّدة. في غضون ذلك، تغيّرت الجغرافيا السياسية للحروب داخل العالم الإسلامي. وكذلك الحال بالنسبة إلى التهديدات التي تتعرّض لها الولايات المتحدة، كما بالنسبة إلى النهج الذي يجب أن تتبعه واشنطن.

بداية الحروب داخل الإسلام

كان العام 1979 علامة فارقة في العالم الإسلامي. في إيران، أطاحت ثورة شعبية بالنظام الملكي/الإمبراطوري. تطوّرت الثورة في
ما بعد إلى حكم ديني إسلامي إستبدادي متشدّد لا يرحم. في أفغانستان، أدّت انتفاضة إسلامية عامة ضد الحكومة الاشتراكية، التي أطاحت الملكية في ذلك البلد في العام الذي سبق (1978)، إلى استيلاء الاتحاد السوفياتي على البلاد بشكل فعّال. تحركت باكستان المجاورة بشكل حاسم نحو حكم إسلامي. في المملكة العربية السعودية، احتل الثوار الإسلاميون الحرم المكي، أقدس مكان في العالم الإسلامي. قامت الدولة السعودية بقمع الثائرين بوحشية ولكن بعد ذلك، بالشراكة مع باكستان، عزّزت التزامها بالحكم الإسلامي من أجل احتواء المتطرفين في وسطها ومواجهة ادّعاء إيران الثوري بأنها القائد الحقيقي للعالم الإسلامي.

نشأت كل هذه الانفجارات الثلاثة داخل المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التي كانت تكافح للتكيّف مع العالم الحديث. في إيران وأفغانستان والمملكة العربية السعودية، جادل الثوار الإسلاميون بأنهم كانوا يثورون ضد طغيانٍ علماني (“غير إسلامي” أو “مُلحِد”) مصمم على تحديث البلاد من أعلى إلى أسفل، ما تسبّب في معاناةٍ كبيرة وإرباك طرق الحياة التقليدية. ودائماً، تضمّنت الحجّة الاتهام بأن الطغاة قد أُفسِدوا بطرقٍ أجنبية ونفوذ أجنبي. كان الأميركيون والروس وغيرهما من “الغربيين” هم الأوغاد المعتادين. وعد الإسلاميون بمحاربة الفساد، واستعادة الوئام الديني، والحفاظ على القانون والنظام على أساس الفقه الإسلامي. في الثورات التي قلبت العالم الأطلسي في العصور المُبكرة، كانت الحرية هي الأساس. في المقابل، في العالم الإسلامي، كان النداء الأكثر شيوعاً هو العدالة.

في إيران، الأكثر حداثة من بين البلدان الثلاثة، إنضمّ إلى الثوار حلفاءٌ مهمّون من التجار الحضريين والمهنيين والطلاب. لقد قضى طغيان الشاه على هذه القوى الليبرالية التقليدية. وبشكلٍ مأسوي، بمجرّد وصوله إلى السلطة، قام آية الله روح الله الخميني ورفاقه “الأوصياء” الثوريون بتطهير وسحق شركائهم السابقين في الثورة الإيرانية.

أشعلت ألسنة اللهب في العام 1979 حروباً كبرى على الفور. عزّز ديكتاتور العراق، صدام حسين، قبضته على السلطة في العام 1979، ثم في العام التالي، استغلّ الاضطرابات في إيران المجاورة لشنّ حرب كان يأمل في إضفاء الشرعية على حكمه وتوسيع نطاقه. روّج صدام لنفسه على أنه قلعة الإسلام السنّي ضد التهديد الشيعي لإيران، الذي كان يهدد حكمه، لأن العراق كان أيضاً دولة ذات غالبية شيعية. إستمرت الحرب العراقية-الإيرانية حتى العام 1988. في غضون ذلك، اندلعت الحرب السوفياتية في أفغانستان من العام 1980 حتى بداية العام 1989. أدت الحربان معاً إلى مقتل وتشريد الملايين.

على الرغم من أن الولايات المتحدة بدأت نشر المزيد من القوات البحرية في الخليج العربي، إلّا أنها كانت لاعباً هامشياً في هاتين الحربين. وبسبب انشغالها في الشرق الأوسط بصراعٍ صغيرٍ نسبياً وغير مُجدٍ في نهاية المطاف على لبنان – حيث كانت تشنّ إيران والمملكة العربية السعودية أيضاً حرباً بالوكالة – كان للولايات المتحدة دورٌ ضئيل في الحرب الإيرانية-العراقية، على الرغم من أنه تم جرّها قليلاً بالقرب من النهاية عندما امتدت الحرب إلى هجماتٍ على ناقلات النفط في الخليج العربي.

من جهتها، لعبت أميركا دوراً متواضعاً وانتهازياً في إمداد ودعم المقاومة ضد السوفيات في أفغانستان. غالباً ما كان تأثير المساعدات الأميركية مُبالَغاً فيه: حتى شحنات صواريخ ستينغر المضادة للطائرات لم يكن لها دورٌ كبيرٌ في قرارات الانسحاب التي اتّخذتها موسكو أصلاً. كانت باكستان هي القاعدة المُهيمنة للمقاومة المُناهضة للسوفيات، حيث كانت تُديرُ الدعم والإمدادات لها. ساهمت المملكة العربية السعودية بالكثير من الأموال. كما ساعدت على تمويل توسّعٍ هائلٍ في تعليم الإسلاميين، وبناء عشرات الآلاف من المدارس الإسلامية بين مجتمعات جديدة ضخمة من اللاجئين النازحين.

إنتهت هذه المرحلة من الحرب داخل العالم الإسلامي في العام 1991. تفكّك الإتحاد السوفياتي، ما أدّى بسرعة إلى الانهيار النهائي للنظام الذي تركه وراءه في أفغانستان. ديكتاتور العراق، صدام حسين، الذي أفلس بلاده بسبب حربه ضد إيران، تحوّل جنوباً لانتزاع الثروة النفطية من دول الخليج التي اعتبرها جشعة، جاحدة وناكرة للجميل. وأدّى غزو صدام للكويت في العام 1990 إلى توحّد العالم ضده، حيث هزمه تحالف عسكري بقيادة الولايات المتحدة ومباركة الأمم المتحدة. خلال تسعينات القرن الماضي، قامت واشنطن بتعزيز قواعدها العسكرية في المنطقة لكنها ركّزت على الحفاظ على الأمن في العراق المهزوم، واحتواء إيران، ومحاولة إحياء محادثات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية، ولم تتعامل حقاً مع القضايا الجوهرية التي تُحرّك الصراعات داخل المجتمعات الإسلامية حول كيفية التكيّف مع العالم المُعاصر المُعَولَم.

الحروب داخل الإسلام وصلت إلى أميركا

في هذه المرحلة، انقسمت الحركات السياسية الإسلامية السنّية إلى ثلاثة معسكرات أساسية. كان هناك مستبدون محافظون في السلطة في أماكن مثل الرياض وإسلام أباد، استطاعوا التوافق مع أصدقائهم الأكثر علمانية في القاهرة والجزائر. ثم كان هناك الإسلاميون الديموقراطيون، الذين كانوا ضد النفوذ الأجنبي، لصالح الشريعة الإسلامية، وغالباً ما كانوا يعارضون المحافظين في السلطة. لكنهم فضّلوا التغيير السلمي والديموقراطي وعارضوا الهجمات الإرهابية على المدنيين. كما فضّلوا عدم إدانة أو قتل إخوانهم المسلمين، من طائفة مختلفة، من خلال وصفهم بالمرتدّين. ثم كان هناك المتطرفون الإسلاميون العنيفون. كان بعضهم طائفياً أكثر من البعض الآخر، لكن جميعهم فضّلوا ثورة عنيفة ضد المحافظين في الداخل، الذين اتهموهم بأنهم قريبون جداً من الأجانب. لقد أرادوا شنّ حربٍ مُقدّسة حقيقية وليست مجازية ضد الكفار في الخارج والمرتدّين الأقرب في الوطن.

في هذه الفترة، خلال التسعينات الفائتة، قام أسامة بن لادن الإسلامي المغامر من خلفية يمنية سعودية، بإنشاء جماعة متطرفة عالمية تسمى “القاعدة”. ومعها تحوّلت ساحات المعارك في الحروب داخل الإسلام إلى قتالٍ وحشي في أفغانستان والجزائر والبوسنة ومصر وروسيا والصومال والسودان.

بحلول منتصف التسعينات  الفائتة، عندما كان تنظيم “القاعدة” محمياً من قبل حكومة إسلامية صديقة في السودان، قرّر أسامة بن لادن أنه يجب الإطاحة بحكام المملكة العربية السعودية. قدم “القاعدة” نسخاً حديثة من الحجج نفسها التي قدّمها المتمرّدون السعوديون الذين استولوا على المسجد الكبير في العام 1979. في العام 1996، تخلّت الجماعة عن السودان. يعتقد بن لادن أن الحكومتين السعودية و/ أو المصرية كانتا مسؤولتين عن محاولة واحدة على الأقل لقتله هناك. وجد قاعدة جديدة وسط فوضى أفغانستان التي مزّقتها الحرب، حيث قدم بعض قوات الصدمة وفرق القتلة لحركة طالبان الإسلامية، التي اكتسبت أخيراً ميزة في الحرب الأهلية التي اندلعت في أعقاب الانسحاب السوفياتي. في أفغانستان، تمكّن تنظيم “القاعدة” من جمع وتدريب وتقييم الآلاف من المجنّدين.

ما كان جديداً بالنسبة إلى القاعدة وبن لادن هو فكرة الجماعة أن “الأعداء القريبين” للإسلام – سواء في مصر أو إسرائيل أو المملكة العربية السعودية أو الصومال أو أي مكان آخر – يعتمدون جميعاً على الولايات المتحدة، وبالتالي يجب شنّ الجهاد ضد “العدو البعيد”: الأميركيون. أعلن تنظيم “القاعدة” رسمياً الحرب ضد أميركا في أوائل العام 1998. لكن الولايات المتحدة لم تُولِ اهتماماً كبيراً إلى أن استخدم عناصر “القاعدة”، في وقت لاحق من ذلك العام، شاحنات مفخخّة لتفجير سفارتين أميركيتين في شرق إفريقيا.

أولت واشنطن مزيداً من الاهتمام عندما استخدم عناصر “القاعدة”، في تشرين الأول (أكتوبر) 2000، زورقاً مُفخَّخاً لمهاجمة مدمّرة أميركية راسية في اليمن وإغراقها تقريباً. بحلول ذلك الوقت، كان تنظيم “القاعدة” أحرز بالفعل تقدماً في “عملية الطائرات” التي تهدف إلى تحويل الطائرات إلى صواريخ موجَّهة وإطلاقها ضد أهداف أميركية بارزة.

لم تفعل واشنطن شيئاً خاصاً لإثارة هذه الهجمات. إختار “القاعدة” عمداً نقل حروبه داخل الإسلام إلى الولايات المتحدة لأسبابه الخاصة. بعيداً من الوهم السطحي بأن الحكّام المستبدّين في العالم الإسلامي سوف ينهارون إذا تراجعت الولايات المتحدة الجريحة، كان دافع بن لادن الأعمق هو الرغبة في الارتقاء بنفسه وأعضاء مجموعته إلى شخصيات تاريخية عالمية. من خلال نسختهم الحديثة من “دعاية الفعل”، تصوروا أنفسهم على أنهم جبابرة عالميون يتعاملون مع القوة العظمى الكافرة. في وقتٍ لاحق، أدّى الخطاب الرسمي للولايات المتحدة الذي عامل بن لادن كشخصية على قدم المساواة مع أدولف هتلر وجوزيف ستالين إلى تضخيم صورته بشكل كبير مع “القاعدة”.

بسبب عدم ارتياحه لنشاط بن لادن المناهض للولايات المتحدة، منع المجلس الحاكم لطالبان تنظيم “القاعدة” من شنّ هجماتٍ خارجية من أفغانستان. تجاهل بن لادن ذلك، عارفاً ان لا شيء سينفّذ ضده، لأن “القاعدة” كانت على وشك القيام باغتيال ألدّ أعداء طالبان، الزعيم الأفغاني الطاجيكي أحمد شاه مسعود. لقد قتله نشطاء “القاعدة” قبل يومين من هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

كانت البيئة الأمنية الأميركية متساهلة في ذلك الوقت. يمكن للعملاء خطف الطائرات والتدرّب داخل الولايات المتحدة. أحدهم، وهو مواطن فرنسي من عائلة مغربية، تصرّف بحماقة شديدة أثناء التدريب في مدرسة طيران في مينيسوتا لدرجة أنه تم اعتقاله في آب (أغسطس) 2001. ولكن خارج مكتب مينيابوليس الميداني التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي، لم يُقدّر سوى عددٍ قليلٍ من السلطات الأميركية أهمية عنصر المخابرات الذي طرق مكاتبهم في الأسبوع التالي، بعنوان “متطرف إسلامي يتعلّم الطيران”.

الحروب داخل الإسلام تعود إلى دياره

إستخفّ بن لادن وطالبان بشكل جذري بتصميم الولايات المتحدة على تدمير أولئك الذين خطّطوا لهجمات 11 أيلول (سبتمبر). أدّى التدخل الأميركي في أفغانستان إلى تشتّت تنظيم “القاعدة”. بحلول العام 2003، انشقت المجموعة وهرب أعضاؤها. في باكستان وجدت بعض الغطاء لفترة من الوقت. كانت باكستان تأوي جماعات إسلامية عنيفة أخرى تُركّز على الهند.

لكن واشنطن شنّت بعد ذلك غزواً غير ضروري، تميّز بسوء الإدارة بشكلٍ كارثي، للعراق، ما أعطى تنظيم “القاعدة” والمتطرفين المدعومين من إيران قواعد جديدة للعمليات. كانت تجاوزات الولايات المتحدة في “حربها العالمية على الإرهاب”، وبشكل رئيس في سوء المعاملة الفظيعة للسجناء، هبة من السماء لدعاية “القاعدة”.

على الرغم من هذه الأخطاء الفادحة، استمرت الخطوط الأكثر أهمية في مكافحة الإرهاب الأميركية: غير مُبهِرة ومتواصلة ومُثمرة. ورُغم قلّة الانتباه إليها أو ملاحظتها في الولايات المتحدة، فقد شنّت المملكة العربية السعودية حربها الداخلية بنجاح ضد متمرديها في الداخل، ما أدّى إلى سقوط مئات الضحايا. بعد العام 2006، تراجعت قوة تنظيم “القاعدة”، واستقرّت الأوضاع في العراق في 2007-2008. قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بمطاردة ما تبقى من تنظيم “القاعدة” الأصلي. تم القبض على المخطط الرئيس وراء هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، خالد شيخ محمد، في باكستان في آذار (مارس) 2003. قامت الولايات المتحدة أخيراً بتعقّب بن لادن إلى مخبئه الباكستاني وقتله في غارة نُفِّذت بشكلٍ جيدٍ في أيار (مايو) 2011. على الرغم من أن العديد من الأميركيين كانوا يعتقدون بأن الباكستانيين هم الذين كانوا يحمون بن لادن، فإن الأوراق التي استولت عليها القوات الأميركية خلال الغارة تُشير إلى أن هذا الأمر لم يكن صحيحاً.

بعد سنواتٍ من التجربة والخطأ، بدأ الأميركيون ببطء يتعلّمون كيف يمكنهم، بوصفهم غرباء، مساعدة المسلمين الذين يرغبون في تهميش واحتواء المتطرفين في مجتمعاتهم. على الجانب العسكري، كان هذا يتضمّن عادةً أعداداً صغيرة نسبياً من الأميركيين الذين استفادوا من أصولٍ فريدة، مثل الاستخبارات التقنية، والنقل الجوي، والدعم اللوجستي، والمساعدة الطبية، والضربات الدقيقة. لم يلقَ الجانب المدني من هذه الجهود القدر عينه من الاهتمام أو الاستثمار، ولكن كان هناك عادة عدد قليل من الأميركيين والأوروبيين الذين يفهمون الظروف المحلية ويمكنهم أحياناً أن يلعبوا دوراً بنّاءً.

ومع ذلك، فإن التحدّي الأساسي المُتمثّل في تكييف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة مع العالم الحديث قد تم تأجيله فقط، ولم يتمّ حلّه. لم تجد هذه المجتمعات توازناً مُستداماً بين عادات الاستبداد والجوع الشعبي لمجتمعٍ أكثر عدلاً واحتياجات سكانها من الشباب والفقراء وغير المتعلمين. لم تشارك الولايات المتحدة بعد في هذه القضايا الجوهرية. على سبيل المثال، كان هناك بعض المساعدة في أفغانستان، وكان أفضلها يأتي غالباً من طريق البنك الدولي وغيره من خارج القنوات الحكومية الأميركية. وقياساً بالتعليم والكهرباء والصحة العامة، فقد تقدمت التنمية البشرية بسرعة.

لكن هذه التطورات لم تمتد كثيراً إلى الحوكمة أو الاقتصاد المُستدام أو الأمن. بالنسبة إلى أولئك الذين أمضوا وقتاً في أفغانستان في السنوات التي أعقبت هزيمة طالبان مباشرة، على الأقل حتى العام 2007، كان الموضوع الدائم هو عدم اهتمام الولايات المتحدة وإهمالها، وليس طموحاً مُبالغاً فيه. مع بعض الاستثناءات المثيرة للإعجاب، فإن التدخل الأميركي في أفغانستان أدى إلى تقويض الاستقرار أكثر من بنائه. في غضون ذلك، اضطلعت الحكومة الأفغانية بدور الشرير في المجتمع الأفغاني: المُفترس غير الإسلامي والفاسد والظالم الذي يهيمن عليه الأجانب.

بحلول العام 2011، كان التهديد العالمي المتطرف أقل بروزاً – لكن جميع الحروب عادت إلى الوطن. كانت هناك اضطرابات في تونس، وحرب أهلية في ليبيا، واحتجاجات أعقبتها حرب أهلية في سوريا. سرعان ما كان من الصعب تتبع جميع الحروب الأهلية التي مزقت المجتمعات الإسلامية.

ردُّ فعلٍ منذ البداية، كان دور الولايات المتحدة في انتشار الحروب داخل الإسلام غير مألوف وبلا هدف. مع مقتل بن لادن وتوقف “زيادة القوات” الأميركية في أفغانستان في أحسن الأحوال، بدأت واشنطن في التراجع. قرر الرئيس باراك أوباما بأن تدخّلَ الولايات المتحدة في العام 2011 في الحرب الأهلية الليبية، مع حلفائها الأوروبيين، لن يكون مُجدياً. لم ينتج عن الخطاب الأميركي الصاخب بشأن الحرب الأهلية السورية سوى القليل من الإجراءات. مع اتساع نطاق الحروب داخل العالم الإسلامي، انسحبت واشنطن منها. بين الأميركيين، كان خياراً شعبياً.

في السنوات التي تلت ذلك، نشأ تنظيم عالمي جديد من المتطرفين الإسلاميين، “الدولة الإسلامية” (أو داعش)، وحلّ محل “القاعدة” إلى حدٍّ كبير. إجتاح هذا التنظيم الجديد أجزاء كبيرة من شرق سوريا وشمال العراق ونظّم هجمات إرهابية مروعة في أوروبا. بعد حوالي عامٍ من الانجراف، وافق أوباما على مضض على مساعدة العراق والجماعات الكردية والسورية المحلية في التعامل مع ما يسمى بخلافة “الدولة الإسلامية”. في النهاية، أطاح التحالف ب”داعش”. لكن سوريا لا تزال برّية عنيفة.

الوضع الآن

خلال العقدين الماضيين، تطوّرت الجغرافيا السياسية الأساسية للحروب داخل العالم الإسلامي بشكل كبير. لقد نأت المملكة العربية السعودية بنفسها عن النموذج الإسلامي المتشدّد البحت. وهي الآن متحالفة مع قوة صاعدة، الإمارات العربية المتحدة، ومع مصر. ترى هذه الدول الثلاث الآن أن الصداقات مع الهند وإسرائيل أكثر ربحية وفائدة من الشراكات مع دول فاشلة مثل باكستان.

يحاول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، تجنّب مشاركة مصير الحاكم المدعوم من الولايات المتحدة والذي من المفارقات أنه يشبهه إلى حد كبير: شاه إيران. يتمتع بعض الغربيين بقدر كبير من التأثير على محمد بن سلمان وزملائه، لكن المسؤولين الأميركيين ليسوا من بينهم عادةً. يشتري القادة السعوديون والإماراتيون المساعدة التي يعتقدون أنهم بحاجة إليها. قد يكون الشركاء في “ماكينزي” (McKinsey) و”مجموعة بوسطن للإستشارات” (Boston Consulting Group) و”بوز ألِن هاملتون” (Booz Allen Hamilton) أكثر تأثيراً من أي مسؤول أميركي.

تطور موقع إيران الجيوسياسي أيضاً. لقد انضمت إلى التجمّع الناشئ المُناهض لأميركا الذي يضم الصين وروسيا في جوهره. باكستان وطالبان كلاهما عضوان تابعان لتلك الكونفيدرالية الفضفاضة. في حملاتها الأخيرة، قامت حركة طالبان بتنويع دعمها، حيث تلقت مساعدات مهمة من إيران وروسيا. هاتان الدولتان، مع الصين، مُلزمتان بلعب أدوار حيوية في مستقبل أفغانستان.

في غضون ذلك، برزت تركيا، المنغمسة في الحنين إلى المجد العثماني وتأرجحها بين الاستبداد والديموقراطية، كقطب ثالث للجذب في الحرب داخل الإسلام. وهي تدعم شركاءها المقاتلين في أذربيجان وسوريا وليبيا وتستعرض عضلاتها في صراعات جديدة على موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

إذا كان الأميركيون قلقين بشأن عودة المتطرفين الإسلاميين العنيفين الذين يستهدفون وطنهم، فإن أفغانستان ليست المكان الأكثر أهمية الذي يجب أن يراقبونه. الصراع على النفوذ هناك يضع طالبان في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، وهو قوة أقوى بكثير من أي بقايا تنظيم “القاعدة” الباقية في البلاد. إذا أرادت واشنطن الاستمرار في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، فسيتعيّن عليها أن تقف في الصف. إن تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان يُهدّد كل جيران أفغانستان، وهم يعرفون ذلك. إذا أراد الأميركيون القلقون التركيز على الأماكن التي قد يكون دورهم فيها أكثر أهمية، فإن أول مكان يجب البحث فيه هو إفريقيا. الثانية قد تكون سوريا وشمال العراق، ثم شبه الجزيرة العربية.

التكيّف مع الشراكات الجديدة

منذ العام 1979، اندلعت الحروب داخل الإسلام حول كيف يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تتكيّف بنجاح مع العالم الحديث. بقدر ما قد يفضل الأميركيون فحص أنفسهم، فهذه ليست قصّة تتمحور حول الولايات المتحدة.

كثيراً ما كان الأوروبيون، أكثر من الأميركيين، هم من يتبرعون لمواجهة الاضطرابات في العالم الإسلامي، وخصوصاً في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وأفريقيا. ولكن، للمضي قدماً، يجب على القادة الأميركيين والأوروبيين والآسيويين التفكير في المجتمعات الإسلامية المهمة التي قد تميل في كلا الاتجاهين، نحو تشجيع النجاح أو الفشل المعنوي. لن يكون من الصعب عليهم الخروج بقائمة بالأماكن الموجودة في الميزان. إندونيسيا، على سبيل المثال، يجب أن تكون قريبة من قمة اللائحة.

قد يقوم هؤلاء القادة بعد ذلك بتحليل دقيق لما يمكن أن يفعلوه عملياً وواقعياً، إن وجد، في أيٍّ من هذه الحالات، حتى على الهامش، والذي قد يُحدِث فرقاً حاسماً. مجموعة أدواتهم الحالية ليست مناسبة للغرض. وكما لاحظ المحلِّلان المُخضرمَان، مايكل شوركين وأنيليس برنارد، أخيراً: “إن الحاجة إلى تحسين الحوكمة والتقليل من التركيز على مساعدة قوات الأمن هما أمران مقبولان على نطاق واسع بين خبراء الإرهاب. . . إلى حدّ كونهما حقيقة بديهية. ومع ذلك، فإن التعامل مع هذه المشكلات هو بالضبط ما تسيء إليه حكومة الولايات المتحدة، مما يساعد على تفسير سبب ارتياحها بشكل أكبر للتخلف عن العمليات “الحركية” التي تهدف إلى قتل الإرهابيين، أو المساعدة الأمنية بشكل عام، أو كتابة الشيكات لبرامج المساعدة حسنة النية التي تم تصميمها لتعزيز الحوكمة أو التنمية الاقتصادية ولكن من الواضح أنه لم يكن لها تأثير دائم”.

إذا استثمرت واشنطن وأصدقاؤها جزءاً بسيطاً من الجهد الإبداعي والاستثمار الذي قدموه للأدوات القديمة التفاعلية، فسيجدون فُرَصاً بنّاءة للتأثير في مسار الحروب داخل الإسلام. القضايا الكبرى في هذا العصر – الأمن البيولوجي، وتغيّر المناخ، والحَوكمة الرقمية السيبرانية، وعدم المساواة الاقتصادية – تمتد عبر العديد من البلدان، بما في ذلك دول العالم الإسلامي. إذا كانت الولايات المتحدة تريد مساعدة العالم الإسلامي على الخروج من عقود من الصراع الحضاري، فعليها أن تُركّز بدرجة أقل على الملاحقة التفاعلية للمتطرفين العنيفين الذين يشنون صراعاً رجعياً وخيالياً من أجل النقاء الديني. يمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تكون أكثر فاعلية إذا تمكّنت بشكل استباقي من مساعدة هؤلاء المسلمين الذين يحلّون مشاكلهم والذين يحاولون، بضمير حي، التغلّب على تحديات الأجيال الكبيرة التي تواجه مجتمعاتهم.

  • فيليب زيليكو هو أستاذ كرسي “وايت بوركيت ميللر” للتاريخ في جامعة فيرجينيا. وهو ديبلوماسي محترف سابق، شغل منصب مستشار وزارة الخارجية الأميركية من 2005 إلى 2007. في وقت سابق، كان المدير التنفيذي للجنة 11 أيلول (سبتمبر).
  • يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى