ماذا حلَّ بكِ يا تونس بعد انتفاضة 2011؟ (4)

عبد اللطيف الفراتي*

تشكّلت حكومةٌ ثُلاثيّة الأضلاع من “حزب النهضة” و”حزب المؤتمر”، الذي يرأسه المنصف المرزوقي، و”حزب التكتّل”، الذي يرأسه مصطفى بن جعفر. وكان الحزبان أكّدا أنّهما لن يدخلا في تحالف مع “حزب النهضة”، الذي أسقط من التشكيلة  الحزب الذي أحرز المرتبة الثانية في عدد المقاعد أي “العريضة الشعبية”، وذلك بحكم العداوة المُستحكَمة بين الغنوشي والهاشمي الحامدي، وهي عداوة تقليدية من “النهضة” تجاه كل من يكون في صفوفه وينفصل عنه.

ومما يُذكَر أن  حصة تلفزيونية جمعت الرجلين في قناة “الجزيرة” القطرية، وطيلة الحصة كان راشد الغنووشي يدير ظهره للحامدي.

وكان سبق للغنوشي أن استعمل الأسلوب نفسه معي شخصياً، غداة الانتخابات المُزوَّرة لربيع 1989. ققد كنت  كتبتُ اقتتاحية يوم الانتخابات في جريدة “الصباح” التي كنتُ أيامها رئيس تحريرها، باتفاقٍ مع صاحب الجريدة الحبيب شيخ روحه وهيئة التحرير، أعلنتُ فيها صراحةً دعوة للناخبين أن يمتنعوا عن التصويت لحركة “النهضة” لخلطها الدين بالسياسة. في اليوم الموالي جاءنا للجريدة ما كان يسميه الحبيب شيخ روحه  كما السائد، الشيخ، بصحبة عبد الفتاح مورو. في الإجتماع تصدّر الحبيب شيخ روحه المجلس، وجلس مورو إلى يمينه، و”الشيخ” كما كان يسمّيه إلى يساره وكنتُ بجانبه. فأدار ظهره عني مُقاطعاً، وانطلق في مرافعة مُستغرِباً موقف الجريدة، مُلمّحاً إلى أنه موقفٌ شخصي من طرفي، ولم أذكّره بما قاله عنّي في رسالةٍ بخطّ اليد منه لي  بعد خروجه من السجن في سنة 1984 ما زلت أحتفظ بها، مؤرخة في 10 ذي الحجة 1404 الموافق 5 أيلول/سبتمبر 1984:
“وما كان لنا أن ننسى مواقف الصدق التي وقفتها أخانا عبد اللطيف، فبمثلها تعرف معادن الرجال وبمثلها تتبوّأ (هكذ ) تونسنا العزيزة مقام الريادة في العدل والحرية والكرامة ضمن عالم العروبة والإسلام والمعمور كافة، بارك الله. بارك الله جهدكم وزادكم سداداً وتوفيقاً.
والسلام عليكم.
أخوكم : راشد الغنوشي

وقد ترك لي الحبيب شيخ روحه المبادرة بالردّ. وفعلاً قلت له، إن ذلك هو موقف الجريدة، وهي حريصة على حق الإسلاميين في التواجد على الساحة، بقدر ما لا تراهم في الحكم.

قال: لم يسبق لجريدة في العالم أن اتخذت موقفاً، مُماثلاً ضد حزبٍ مُعيَّن، فأوردتُ له تجربتين، أولاهما عندما وقفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، وهي  الليبرالية الاتجاه عادة، موقفاً لفائدة الرئيس جون كيتيدي الديموقراطي سنة 1962، ثم عندما اتخذت جريدة “لوموند” الفرنسية التي أسّسها هيربرت بيوف ميرى بناءً على طلب من الجنرال شارل ديغول في العام 1981موقفاً ضد المرشح اليميني جاك شيراك مؤيدةً المرشح اليساري فرنسوا ميتران.

خلال الحديث لم ينبس عبد الفتاح مورو بكلمة، ما جعلني أستنتج أنه لم يكن موافقاً على الزيارة لمقر “دار الصباح”، ولا مُوافقاً على سلوك راشد الغنوشي. ولكن ماذا يستطيع المرء أن يفعل أمام الانضباط الحزبي، الذي كثيراً ما يجعل المرء في حالة تأييد لما لا يمكن أن يؤيده في قرارة نفسه، لذلك لم يسبق  لي أن انخرطت في حزبٍ ولا أنوي الانخراط في المستقبل.

تشكّلت الحكومة، ونال “حزب النهضة” فيها كل المناصب السيادية التي شملت وزارات العدل والداخلية والخارجية، إضافةً إلى رئاسة الحكومة التي تولّاها حمادي الجبالي الذي اعتقدُت دائماً وما زلت أعتقد أنه من الجناح المتحرر. وكنا “نتغدّى” معاً من حين إلى آخر في مطعم فندق الميزون دوري قبل المحنة الثانية للإسلاميين ووضعه في السجن لمدة سنوات طويلة.

وتمّت ترضية الحزبين المُشاركين في الائتلاف بإعطاء رئاسة الجمهورية للمرزوقي، بعدما وعدت بها النهضة الباجي قائد السبسي، وكم من الوعود التي تم النكوص بها من “النهضة”، ورئاسة البرلمان لمصطفى بن جعفر الذي كان أشد مقاومة من المرزوقي، ولكن كليهما أعطيا عذرية غير مستحقة ل”النهضة”.

تشكّلت حكومة بدون كفاءات فعلية، فقد تحدّث الجبالي عن الخلافة السادسة كما كان السبب المباشر في تسليم البغدادي المحمودي إلى جلّاديه في طرابلس بعكس كل الأعراف والتقاليد الانسانية في حماية اللاجئين السياسيين. وقال رفيق عبد السلام : “لقد تمّ انتشال كذا من الجثث في حالة وفاة (؟) ثم ” اسطنبول عاصمة تركيا “، فيما ترك العريض غالباً بتواطؤِ “أبو عياض” يفلت من بين يدي السلطة. وقال عن واقعة محاولة اختراق السفارة الأميركية “كنا ننتظرهم من الأمام فجاؤوا من الخلف”.

ظهر سريعاً أن “حزب النهضة” جاء للحكم بمنطق الغنيمة، فقد تم انفاق 5 مليارات دينار كانت ذخراً للأجيال المقبلة، وتم استخدام عشرات ألوف النهضاويين في الوظيفة العمومية، ما أثقل موازنة الدولة وأدخل عليها اختلالاً مُزمناً متواصلاً منذ 10 سنين وحتى اليوم.

ولعلّ النقطة المُضيئة الوحيدة هي تعيين حسين الديماسي رجل الاقتصاد المتمرّس في وزارة المالية. وقد كان يدعو للقيام بإصلاحات عميقة يسمح بها الظرف بعد ثورة، ولكنه استقال بعد 6 أشهر فقط من منصبه،عندما تأكد من السياسات المالية الخرقاء، ولا نية في إصلاح الوضع، بل استعمال جهاز الدولة كغنيمة لتوزيع الأموال على الأتباع والأنصار.

وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة.

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلل سياسي تونسي مخضرم. كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى