منظمة “فرسان مالطا”، هل هي ذراعٌ سياسية أم ذراعٌ خيرية للفاتيكان؟

رُغم تاريخها الطويل في العمل الخيري، بقيت منظمة مالطا بعيدة من الأضواء إلى أن برزت في مزاعم مصرية وفي الخلاف الذي وقع بينها وبين الفاتيكان في العام 2017 عندما طلب البابا فرنسيس من “المعلم الأكبر” ماثيو فيستنغ الإستقالة من منصبه. ولكن ما هي هذه المنظمة؟ وبالتالي ما هي أهدافها؟   

البابا فرنسيس: أعاد المنظمة إلى سلطة الفاتيكان.

السفير يوسف صدقة*

“منظمة فرسان مالطا” أو “نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي من رودس ومالطا”، هي منظمة كاثوليكية علمانية ذات طبيعة عسكرية تحمل مبادئ الشهامة والنبالة. وهي تضم حالياً نحو 12,500 فارس و80,000 متطوع دائم من مختلف الأديان والمذاهب، وهيئة طبية تشمل 25,000 شخص من أطباء وممرضين ومُسعفين، يشكّلون عماد نشاطاتها الإنسانية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم في أكثر من 120 دولة، رأسها حتى 2017 “المعلّم الأكبر” البريطاني “ماثيو فيستنغ” (Mathieu Vesting). وهي تتمتع بشخصية مزدوجة: فهي منظمة دينية للفرسان (Chevaliers) من جهة، ومن جهة أخرى تعمل على تكريس الايمان المسيحي، وخدمة الكرسي الرسولي (الفاتيكان) ، كما ان المهمة الرئيسة للمنظمة منذ تأسيسها تتمثّل في خدمة المرضى وأعمال البرّ والإحسان.

اقتصر الانضمام الى منظمة فرسان مالطا في الماضي، على المنتمين الى الأُسَر الأرستوقراطية النبيلة في اوروبا، ولكنها منذ بداية القرن العشرين انفتحت لتضمّ مواطنين من الكاثوليك العاديين يعترفون بمبادئها وشرعيتها.

يرأس المنظمة  “الأمير/المعلم الأكبر”. يُصدَّق على الانتخاب وفق مرسوم صادر عن الفاتيكان، وتُعتبَر مدينة روما المقرّ الرئيس للمنظمة حيث يحظى المقر بالحصانة الديبلوماسية الكاملة.

وتتمتّع منظمة فرسان مالطا بشخصيةٍ دولية وفق القانون الدولي، وترتبط بعلاقة وثيقة مع سكرتارية دولة الفاتيكان. كما إنها تُقيم علاقات ديبلوماسية مع عدد كبير من الدول. فممثلو فرسان مالطا في الدول هم سفراء أو وزراء مُفوَّضون. وهي تتمثّل أيضاً في المنظمات الدولية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: منظمة الصحة العالمية واليونسكو. هذا وقد حافظت المنظمة ذات السيادة منذ تأسيسها على استقلاليتها إزاء الدول الاخرى، حيث لم تعد سيادتها منذ العام 1870 مُرتَبطة بحيازة أراضٍ تُمارس السيادة عليها بعد نزوحها القسري عن جزيرة مالطا في العام 1789 عندما احتلّها نابليون بونابرت. وقد نزحت الى المدن التي كانت تحت سيطرة البابا من العام 1790 الى العام 1870 تاريخ انجاز الوحدة الايطالية بقيادة الجنرال جوزيبي غاريبالدي، الذي انتزع الأراضي البابوية لصالح ضمّ جميع الاراضي الى المملكة الإيطالية المُوَحَّدة.

على صعيد آخر، فإن الجانبين السيادي والديني مرتبطان بشكلٍ أساس، وهذا ما يمنح فرسان مالطا البُعد العابر للدول، وما يؤهلها بالتالي لتنفيذ اعمالها الخيرية على الصعيد الدولي.

والواقع أن هذين الجانبين بالذات كانا أساس الإشكال الذي وقع أخيراً بين المنظمة والفاتيكان.

الأزمة والإصلاح الدستوري

في العام 2017 حدث خلاف بين الفاتيكان ومنظمة “فرسان مالطا” بسببٍ يتعلق بالسيادة. وقال متحدث باسم المؤسسة الكاثوليكية في حينه إن البابا طلب من المُعلّم الأكبر ماثيو فيستنغ (67 عاماً) التنحّي في لقاءٍ عُقِدَ بينهما.

وكان فيستنغ دخل في خلاف مع الفاتيكان منذ إقالة أحد كبار الفرسان في المنظمة، وهو المستشار الأكبر ألبريشت فرايهر فون بوزيلاجر في كانون الأول (ديسمبر) 2016،  بسبب سماحه باستخدام الواقي الذكري في مشروع طبي للفقراء، الذي لا تسمح الكنيسة باستخدامه كوسيلة لتنظيم الإنجاب.

وهكذا شهدت المنظمة أزمة قيادة بدأت في كانون الأول (ديسمبر) 2016، عندما احتج على إقالته من منصب المستشار الكبير من قبل المعلم الأكبر ماثيو فيستينغ. في كانون الثاني (يناير) 2017، أمر البابا فرانسيس بإعادة فون بوزيلاجر إلى منصبه وطلب من فيستينغ الاستقالة. كما عين البابا رئيس الأساقفة جيوفاني بيتشيو كممثله الشخصي للمنظمة – مهمّشاً بذلك دور الكاردينال الراعي ريموند بورك – حتى انتخاب معلم أكبر جديد. غير أن البعض اعتبر أن تولي البابا زمام السيطرة على الأمر يعتبر خروجاً عن التقاليد واستقلال المنظمة.

في أيار (مايو) 2017، عيّنت المنظمة ماورو بيرتيرو غوتيريز، عضو بوليفي في مجلسها الأعلى، لقيادة عملية الإصلاح الدستوري. وفي أيار (مايو) 2018، عندما تم انتخاب معلم أكبر جديد، مدّد البابا فرانسيس ولاية جيوفاني بيتشيو إلى أجل غير مسمّى. في حزيران (يونيو) 2017، في خروج عن التقاليد، ارتدت قيادة المنظمة ملابس غير رسمية بدلاً من ارتداء الزي الرسمي الكامل لجمهورها البابوي السنوي. عندما اجتمع المجمع العام للمنظمة في أيار (مايو) 2019، كما يحدث كل خمس سنوات، كانت من بين المشاركين نساء لأول مرة، ثلاثٌ من بين 62 مشاركاً.

في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، عين البابا فرانسيس سيلفانو توماسي ليحل محل جيوفاني بيتشيو كمندوب خاص له في المنظمة، مُكرّراً منحه مسؤوليات هذا المنصب كممثله الوحيد.

نشاط فرسان مالطا

يقوم النشاط الرئيس لفرسان مالطا على مساعدة المستشفيات، إنشاء المراكز الصحّية في أوروبا، آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، مساعدة مرضى البرص والسرطان، مساعدة المرضى في زمن الحروب والأزمات، التدخّل في الحالات الطارئة لمساعدة المتضررين من الهزّات الأرضية، مساعدة المصابين في الأوبئة، مساعدة اللاجئين والمعوزين وذلك من طريق تقديم الوجبات الغذائية للمدارس والفقراء، مساعدة الحجاج إلى الأراضي المُقدّسة وإلى مزارَي سيدة لورد في فرنسا وفاطيما في البرتغال، مساعدة الحجاج المرضى وتأمين التنقّل لهم في المراكز الدينية.

وقد أثارت نشاطاتها في بعض الأحيان بعض الإشكالات كان أبرزها في العام 2014 في القاهرة، حيث لديها سفارة هناك افتُتحت في الثمانينات.

وهذا الإشكال وقع عندما زَعَمَ مُحاميان مصريان أن منظمة فرسان مالطا، التي تتمتع “سفارتها” بالحماية الديبلوماسية، ضالعة في أحداث الشغب واستخدام سيارتين لها لدهس المتظاهرين، حيث تبين للحكومة المصرية في ما بعد بأنها أخبار غير صحيحة.

تاريخ تأسيس المنظمة

يعود تاريخ إنشاء الجماعة الدينية “فرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي” الى العام 1084 في الأراضي المقدسة. وقد قام تجارٌ من جمهورية “أمالفي” الايطالية البحرية، بالطلب من الخليفة الفاطمي في مصر، أبو تميم معد بن الظاهر المعروف بالمستنصر بالله، السماح بإنشاء دير وكنيسة ومستشفى تحت اسم القديس يوحنا المعمدان لمساعدة الحجاج الآتين الى القدس وبيت لحم والناصرة.

وكانت المنظمة تأسسست بشكل رسمي في العام 1099على يد المؤسس “المُبارَك جيرارد” (Blessed Gerard)، حيث جعل منها مؤسسة للعلمانيين ايضاً، بعدما كانت مؤسسة رهبانية وذلك بموجب المرسوم الصادر في 15/2/1113. اما خليفته الفارس “فرا ريموند دو بوي” (Fra Raymond du Puy)، فقد وضع القواعد الاساسية للجماعة خلال الفترة 1145 إلى 1153. أُجبِرَت المنظمة بعد تأسيس مملكة اورشليم الصليبيةعلى تأمين الحماية العسكرية للحجاج والمرضى، إضافةً الى نشاطها في الدفاع عن الإيمان الكاثوليكي. وقد كرّست منذ ذلك الوقت شعار الصليب الأبيض مع ثمانية أطراف مُستدَقة.

نقل فرسان مالطا مقرّهم الرئيس الى مدينة  ليماسول في قبرص، بعد سقوط عكا والأراضي المقدسة في العام 1291، ولدى وصولهم الى قبرص، أسسوا المستشفيات وأنشأوا اسطولاً بحرياً لحماية الحجاج الآتين الى الأراضي المقدسة. وقد نال فرسان مالطا في الجزيرة المساعدات من ممالك اوروبا المسيحية، إلّا أن الاضطرابات التي حصلت في الجزيرة أجبرت المنظمة على النزوح الى جزيرة رودوس في العام 1307، حيث أنشأوا فيها أسطولاً بحرياً مهماً خاض معارك بحرية مع الغزاة والقراصنة. وقد استمرّ فرسان مالطا في رودس حتى العام 1523 إلى حين غزو الجزيرة من قبل العثمانيين وطردهم منها.

بقيت منظمة فرسان مالطا بدون اراضٍ تحاول ممارسة الحصول على جزيرة أخرى الى العام 1530، حيث تمكّن المعلم الاكبر “فيليب دي فيلييه” (Philippe de Viliers) من الحصول على جزيرة مالطا، التي منحها له الامبراطور “كارل خنت” (Charles Quint) المعروف “بشارلكان” أو كارل الخامس، بناء على طلب البابا “كليمنت السابع” (Clement VII)، وقد اشترط الإمبراطور ان يتخذ الفرسان مواقف حيادية صارمة إزاء الصراعات بين الممالك المسيحية. قاوم الفرسان ببسالة بقيادة المعلم الاكبر “فرا جان دو لا فاليت” (Fra Jean de la Vallette) الحصار العثماني. وبعد إنهاء الحصار بنى الفرسان القلاع والكنائس في الجزيرة وأنشأوا فيها أهم مستشفى في اوروبا. وقد حافظ المنظمة خلال قرنين على أسطول بحري مهمّ للدفاع عن الجزيرة إزاء الغزوات العثمانية.

دافع أسطول المنظمة عن مالطا بقيادة الأميرال “ب. غيستينياني” (P.Guistiniani) ببسالة في مواجهة الاسطول العثماني بالتعاون مع رابطة الممالك المسيحية “سانتا ليغو” (Santa- ligo) والتي دعا إليها البابا بيوس الخامس. وقد ساهم هذا الأسطول في الانتصار على العثمانيين في معركة “لوبانت” (Lepante). وقد استمرّ وضع المنظمة مستقراً في الجزيرة حتى العام 1798، حيث احتلها نابليون بونابرت نظراً إلى موقعها الاستراتيجي . لم يقاوم فرسان مالطا جيش نابليون لأن ميثاق الفرسان يُحرّم القتال مع الممالك المسيحية. ويعتبر بعض المؤرخين ان عدم مقاومة نابليون كانت الخطيئة الكبرى لفرسان مالطا لأنهم تخلّوا عن أرضهم لصالح قائد فرنسي لا تربطه بالديانة المسيحية إلّا المصلحة والانتماء الشكلي. لم يحترم نابليون اتفاقية “أميان” (Amiens) والتي تؤكد الحقوق السيادية غير القابلة للتصرف لفرسان مالطا على جزيرة مالطا. إنسحبت المنظمة الى الأراضي التابعة للبابا قرب روما في المدن “مِسّينه” (Messine) ومنها إلى “كتانيه” (Catane) و”فيراري” (Ferrari) .

استقر فرسان مالطا في العام 1834 في مدينة روما. وقد اضطروا الى التخلي عن المهمات السياسية والعسكرية، فعادوا وتابعوا مهمتهم الأساسية  أي القيام بالأعمال الخيرية ومساعدة المرضى.

أجرت المنظمة تحديثاً في انظمتها خلال القرن العشرين، وقد تزامن ذلك مع انشاء الجمعيات الوطنية لفرسان مالطا في بعض الدول الاوروبية. هذا وقد تعاظم دورها في الحرب العالمية الاولى والثانية في مساعدة البرص والمرضى، عبر المستشفيات الميدانية في أرض المعارك.

الديبلوماسية الإنسانية

يبقى أن منظمة فرسان مالطا هي المؤسسة الرائدة على الصعيد الدولي في تبنّي الديبلوماسية الإنسانية، فهي  تقيم علاقة ديبلوماسية مع 110 دول وتتمتع بمقعد مراقب في الاتحاد الاوروبي وفي المنظمات الدولية.

فالعلاقات الديبلوماسية التي تقيمها المنظمة مع الدول تُساعد على إدماج برامجها الصحية مع أنظمة الدول الصحّية وتساعد على تقديم المعونات الطبية بأسرع الطرق ونظراً إلى موقع فرسان مالطا الحيادي وغير السياسي والمستقلّ فإنه يؤهلها القيام بدور وسيط في النزاعات الدولية.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى