برثا فون ساتْنِر: أَول سيدة تنال “نوبل للسلام”

كتاب سيمنسن “المرأَة التي وراء جائزة نوبل للسلام”

هنري زغيب*

بعد شهر من اليوم، في العاشر من كانون الأَول/ديسمبر، يوم تتسلَّم “جائزةَ نوبل للسلام” الصحافيةُ الفيليپينية/الأَميركية ماريا ريسَّا (تتقاسمها هذه السنة مع الصحافي الروسي ديمتري موراتوڤ)، تكون الجائزةُ تحتفل بالذكرى 116 لنيل أَول امرأَة هذه الجائزة: برثا ڤـون ساتْنِر سنة 1905.

لأَنها امرأَة!

يُجمع الفائزون الأَربعةُ الأُوَل بالجائزة أَن برثا كانت هي الأَولى أَن تكون الأُولى لنيلها منذ انطلاقها سنة 1901. غير أَن اللجنة لم تجد في وصية أَلفرد نوبل (1833- 1896) أَيَّ إِشارة أَن تنال الجائزة امرأَة. لذا كتمَت برثا خيبتَها وانتظرَت أَربع سنوات مريرة كي تنقذ خيبَتَهَا اللجنةُ فتعلن فوز برثا بالجائزة سنة 1905 لتتسلَّمها في أُوسلو سنة 1906.

وأَنقذ خيبَتَهَا مجددًا موتُها قبل أُسبوع من اغتيال أَرشيدوق النمسا فرنسوا فردينان في سارايــيڤو (28 حزيران/يونيو 1914) ليُشعلَ ذاك الاغتيالُ شرارةَ الحرب العالمية الأُولى لأَربع سنوات مدمِّرة (1914-1918)، فكان غيابُ برثا خلاصًا لها من خيبة قاسية بنشوب الحرب وسُقُوط السلام الذي ناضلت من أَجله. سوى أَنها لم تَغرق في النسيان، وهي باقيةٌ رائدةَ حركة السلام في القرن التاسع عشر، وظهرَت عنها مؤَلَّفاتٍ عدة، أَحدثُها سنة 2012 كتاب الباحثة آنّا سيمِنْسِن “المرأَة التي وراءَ جائزة نوبل للسلام”، وفيه تفاصيلُ من سيرة برثا ومسيرتها الشاقَّة في سبيل السلام، وبقائِها 20 سنة على مراسلة مع أَلفرد نوبل (96 رسالة) وغالبًا ما ذكرَت في رسائلها أَهمية إِنشائه جائزةً للسلام، هو الذي كان يسعى إِلى إِيجاد بديل عن الحروب ومآسيها.

مشاركتُها في “مؤْتمر لاهاي للسلام” (1915)

هي

ولدَت برثا كِنْسْكي في پراغ (9حزيران/يونيو 1843) ودرسَت الموسيقى كي تمتهنَ الأُوپرا. وبانتقالها إِلى ڤيينا للعمل (1873) تعرَّفَت بالبارون أَرثر ڤون سَاتْنِر (يصغرها بسبع سنوات) وتزوجَتْه. لكن أُسرته البورجوازية اعترضَت على هذا الزواج فانتقل العريسان إِلى پاريس سنة 1875 وعملَت برثا سكرتيرة أَلفرد نوبل (“أَحد أَغنى أَغنياء عصره” بفضل اكتشافه الديناميت)، ثم غادرَت مع زوجها سنة 1876 إِلى القوقاز تعمل مُدرِّسةً ومراسِلةً صحافية. وفي جورجيا شهدَت ويلاتٍ قاسية ومآسِيَ فاجعة من الحرب الروسية التركية، رسَّخَت في بالها فكرة العمل من أَجل السلام منذ عودتها النهائية إِلى ڤيينا سنة 1885، فشاركَت في أَنشطة وحركات دولية للسلام.

سنة 1889 أَصدرت (باسم مستعار “لأَحدهم”) كتابها “عصر الآلة” وفيه إِيمانها بالتطور التكنولوجي والاقتصادي لتخفيف أَسباب حروب لا تقتل البشر فقط بل تُسَمِّمُ التطور الاجتماعي والثقافي.

وفي السنة ذاتها أَصدرَت كتابها الأَشهر “أَخرِسوا أَسلحتَكم” فحَمَل لها شهرة عالمية وتَمَّت ترجمتُه إِلى لُغات عدة. وهو بصيغة روايةٍ عن سيدة تدعى مرتا دمَّرَت حياتَها الحرب: قُتل زوجُها الأَول في معركة سولفيرينو (لومبارديا-إِيطاليا) سنة 1859، وزوجُها الثاني عاش حربين شرستَين (1864 و1866) لكنه قُتِل برصاصة طائشة سنة 1870.

مذكراتها عن النضال في سبيل السلام

نضالها لفكرة السلام

ساهمَت برثا في العمل على نشْر فكرة السلام، فشاركَت في مؤْتمرات دولية للسلام وحاضرَت وخطبت كثيرًا، وأَسسَت سنة 1891 “الجمعية النمساوية لأَصدقاء السلام” (باقية حتى اليوم). وسنة 1892 بدأَت تنشر دوريةً شهرية بعنوان كتابها “أَخرِسوا أَسلحتَكم” فراجت بالرغم من تحفُّظ المجتمع النمساوي المحافظ فترتئذٍ، الرافضِ عمل المرأَة في السياسة.

خلال لقائها نوبل في سويسرا سنة 1892، تحدَّثا بأَمر الجائزة، وكان فرحُها اغتباطًا حين وصلَتْها سنة 1893 رسالةٌ من أَلفرد نوبل يخبرها فيها عن اقتناعه بإِنشائه جائزة للسلام. وفعلًا، ورَدَ لاحقًا في وصيَّته أَن “تُمْنَح أَفضلَ مَن يعمل على تفعيل الأُخُوَّة بين الأُمم وعلى تنظيم مؤْتمرات للسلام”، بقرار لجنة من خمسة أَعضاء ينتخبهم الپرلمان النروجي، وتُسَلَّمُ في أُوسلو (الأَربع الباقية تُسَلَّم في ستوكهولم).

كتابُها الأَشهر: “أَخرِسوا أَسلحتكم”

كثيفًا كان تَحَرُّكُ برثا في سبيل قضية السلام. منه سنة 1899مشاركتُها في “مؤْتمر لاهاي للسلام” (وكانت فيه المرأَةَ المدعُوَّةَ الوحيدة)، ومشاركَتُها سنة 1904 في “مؤْتمر بوسطن للسلام”، وفي ختامه استقبلها الرئيس روزڤلت في البيت الأَبيض. ثم عادت ثانيةً إِلى الولايات المتحدة سنة 1912 خطيبةَ “مؤْتمر السلام” في جامعة جونز هوپكنز (بالتيمور-ميريلند).

ورُغم إِصابتها بالسرطان، شاركت سنة 1913 في “مؤْتمر لاهاي الدُوَلي للسلام”، وساهمَت في التحضير لـ”المؤْتمر الدُوَلي الحادي والعشرين للسلام” الْكان مقرَّرًا عقْدُه في ڤيينا (آب/أُغسطس 1914). لكنَّ الحرب اندلعَت فأُلْغيَ المؤْتمر، ودُمِّرت أُوروپا، وقضَت الحرب على كل محاولة للحركات السلمية. ولم تَعرف أُوروپا السلام والأَمن إِلَّا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ما أَدَّى لاحقًا إِلى نيلِ الاتحاد الأُوروبي جائزةَ السلام سنة 2012 بعد ستة عقود من العمل على تقدُّم السلام والتفاهم بين الدول، وهو ما كانت برثا عملَت عليه بمثابرة مضْنية، لكنها توفِّيَت (ڤيينا – 21 حزيران/يونيو 1914) دون أَن تشهَد ذاك السلام.

تكتب مذكِّراتها في أَواخر حياتها

الجائزة أَخيرًا

ما إِلَّا سنة 1905 حتى نالت برثا جائزة السلام على “عملها الجادّ وجهدها الطويل وتكريس حياتها لقضية السلام والحركات السلْمية”، فكانت أَول امرأَة تنالها (الثانية جاءت بعدها بربع قرن: الأَميركية جين آدامز – 1931).

في خطاب قبولها الجائزة (18 نيسان/أَبريل 1906) شدَّدَت على أَن “العسكريتاريا مَآلُها السقوط والفشل” وأَن “السلام يصارع بقسوة وضنى من أَجل البقاء”. وأَضافت: “إِننا، بفهم عميقٍ وتطبيق حرٍّ قوانينَ الطبيعة وقواها المادية والخُلُقية، يمكن أَن نخلُق آليات ومؤَسسات اجتماعية قادرة على جعل حياتنا أَسهلَ وأَكثر نبلًا وغنًى”. وخاطبَت الحضور: “يوم قُمنا، زَوجي وأَنا، بزيارة أَلفرد نوبل في بِرن سنة 1892 وحضَرنا معًا مؤْتمر للسلام، قال لي حرفيًّا: “إِذا علمْتُ عن تطوُّر يحصل في مسار حركة السلام، وتيقَّنْتُ من إِجراءات عملية فاعلة، أَنا مستعدٌّ أَن أُساهم في التمويل.” نعم، أَيها السيدات والسادة، هكذا تعهَّد ذاك السكنديناڤي الذي أَدين له بفرصة الوقوف اليوم أَمامكم”.

وغابت برثا لتبقى حاضرةً في التاريخ أَولَ امرأَة استحقَّت، قبل 116 سنة، جائزة السلام في عالَمٍ ما زال يسعى حتى اليوم إِلى بلوغ الـحدّ الأَدنى من نعمة السلام.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى