مُحاوَلَةُ اغتيالِ الكاظمي: قاآني الغاضب!

محمّد قوّاص*

قبل اغتيالِ رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بأشهر، وفي سياق اجتماعات (فندق البريستول في بيروت) للتيارات المعارضة للوجود السوري في لبنان، أطلق وليد جنبلاط في كانون الأول (ديسمبر) 2004 تصريحه الشهير برفض الحوار مع سوريا من طريق ضابط استخبارات.

كان جنبلاط يغمز من قناة العميد (آنذاك) رستم غزالة، رئيس جهاز الأمن السوري في لبنان (قتل في ظروف غامضة في العام 2015 في سوريا)، الذي كان يتولّى الإشراف على وصاية دمشق على لبنان من مقرّه في عنجر في البقاع غير البعيدة من الحدود اللبنانية-السورية. كان تصعيدُ مواقف المُعارضة إلى هذا الحدّ نذيرَ مُواجهة صاخبة انتهت بانسحاب الجيش السوري من البلد في أعقاب الغضب الذي أحدثه اغتيال الحريري في شباط (فبراير) 2005.

لم تصل الأمور إلى هذا الحدّ في العراق، ولم تخرج شخصية سياسية عراقية تُندّد بواقع أن تكون علاقة طهران بالشأن العراقي مُناطة بالجنرال إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وفق الخطى نفسها التي رسمها سلفه الجنرال قاسم سليماني. وما زيارة قاآني التي تُوصف كالمُعتاد بأنها “غير المُعلنة” التي قام بها لبغداد إثر فشل محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، سوى تأكيد جديد للسطوة التي تملكها إيران على كثير من شؤون العراق، وإمساكها بالمسارات اليومية لعددٍ من المجموعات والفصائل المسلّحة التي ينضوي بعضها داخل “الحشد الشعبي”. لكن الرجل جاء هذه المرة مُحرَجاً (أو “غاضباً” مما حدث وفق التسريبات الإيرانية!!) مُتأبّطاً تسويات استرضائية أفرج عن بعضها بيان “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” (الذي يضم أيضاً الفصائل المُتَّهمة بارتكاب الجريمة)، فيما تروّج جلبة (وتبقى مجرد شائعات) عن تقديم ولاية جديدة للكاظمي في منصبه.

لم تُغيّر طهران من شكل علاقاتها بالعراق منذ سقوط النظام السابق في العام 2003. فالعراق هو امتدادٌ أمني وعسكري استراتيجي لإيران، يتم التعامل معه مثلما يتم التعامل مع أيِّ محافظة إيرانية. ولئن تحرص إيران على أن يكون الحُكمُ في بغداد مُوالياً أو غير مُعادٍ، إلّا أنها حريصة على تسليم إدارة هذه “الولاية” إلى ضابط أمن رفيع المستوى، تعود مرجعيته في النهاية إلى الحرس الثوري والولي الفقيه.

ولقائد فيلق القدس كتائب وجماعات عسكرية في العراق تُدين بالولاء الكامل للوليّ الفقيه. تأخذ هذه الفصائل العسكرية أوصافاً وهياكل سياسية، بعضها مُنخرِطٌ في مؤسّسات العراق البرلمانية والعسكرية والأمنية، وهي التي تسهر، باليد الضاربة، على صيانة النفوذ الإيراني ميدانياً ومواجهة أي محاولة للاعتراض على هذا النفوذ، سواء بالتصدّي، مثلاً، لـ”انتفاضة تشرين” واغتيال الناشطين واضطهادهم، أم باستهداف السفارة الأميركية والبعثات الأجنبية في بغداد، كما استهداف القواعد العسكرية التي تؤوي قوات تابعة للتحالف الدولي مثلاً آخر.

مُحاولة اغتيال الكاظمي خطيئة وجريمة قام بها أحد الفصائل التابعة لإيران. وتأتي التحقيقات حول طبيعة المُسيَّرات وما تحمله من مقذوفات، لتؤكد أنها من الطراز نفسه الذي سبق استخدامه في هجمات ضد أهدافٍ أميركية في العراق وتباهت “فصائل إيران” بالوقوف وراءها. كما أن السياق السياسي الذي سبق الحدث، من رفضٍ لنتائج الانتخابات واللجوء إلى الشارع للانقلاب على صناديق الاقتراع، كما التهديدات المباشرة التي وجهها قيس الخزعلي (الموالي لطهران)، جاءت توفّر خلفية منطقية تقوم بها هذه الجهات التي تُحمّل الكاظمي مسؤولية إجراء هذه الانتخابات وسعيه الدؤوب وبصعوبة الى إعلاء سلطة الدولة على سلوك الميليشيات.

في العراق مَن يصعب عليه تصديق أن “فصائل إيران” في العراق بإمكانها اتخاذ قرارٍ بتصفية رئيس وزراء البلد من دون أخذ الإذن أو صدور تعليمات من طهران. وسيصعب قبول بعض التحليلات، وبعضها ليس بعيداً من الدوائر الإيرانية، والتي تتبرّع برواية مفادها أن الجنرال قاآني لم يعد يسيطر على تلك الفصائل كما كان يفعل الجنرال سليماني قبله. وتهدف هذه الفتاوى إلى إلصاق تهمة محاولة الاغتيال بجماعات، وربما أفراد غير منضبطين (كما يتم الحديث) قاموا بفعلتهم، ويكاد يقال لأسباب شخصية، من دون العودة إلى المرجعيات القيادية في طهران.

والمُعادلة بسيطة، فإذا ما نجحت عملية الاغتيال فسيجري العزف على أوتار الحزن والشجب والاستنكار. وإذا ما فشلت، فسيجري إيجاد المتورّطين الأشرار والتبرّؤ منهم. وفي الحالتين سيخرج من يفتي بأن إيران أذكى من التورّط بإثمٍ سيأتي بالوبال عليها. وتُثيرُ رواية طهران ومُسارعة قاآني لزيارة بغداد والاجتماع مع الكاظمي اجتهاداً يُرادُ من ورائه القول إن إيران، التي استنكرت وأدانت الجريمة، لا يُمكن أن تتورّط في عمليةٍ مشبوهة هدفها إلصاق التهمة بـ”فصائل إيران”، وبالتالي بإيران الدولة والنظام (الرواية نفسها استخدمتها دمشق إثر اغتيال الحريري).

من شأن التصفية الجسدية لشخصية من الصفِّ الأول، وكما علّمنا التاريخ، أن تُفجِّرَ حرباً بين الدول وحتى أن تتمدّد لتصبح حرباً عالمية، كتلك الأولى التي تلت عملية اغتيال وليّ عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته في حزيران (يونيو) 1914 في سراييفو. لكن أمراً كهذا لم يعد وارداً هذه الأيام في الحسابات الإيرانية، ذلك أن عملية اغتيال الحريري، وفق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ارتكبها “عنصر” من “حزب الله” التابع لإيران، وحُكِمَ عليه غيابياً بصفته الشخصية من دون أي اتّهام للحزب الذي ينتمي إليه وللدولة التي تقف وراء هذا الحزب. وعليه، فإن أمر إزاحة الكاظمي لن يختلفَ عن عملية إزاحة الحريري في أن عالم اليوم، وفق خلل النظام الدولي الراهن، عاجزٌ عن التعامل مع مفترقات دراماتيكية بهذا المستوى.

في خبرتها الطويلة مع المجتمع الدولي، كانت طهران ستُجيد مقاربة أمر اغتيال الكاظمي لو نجح ذلك. أما وقد فشل الأمر، فإن طهران لا تعوزها الحجّة ولا تنقصها الوسيلة للتعامل مع الحدث الجلل بصفته “فتنة جديدة”، على حدّ تعبير الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني. ولن تتأخر جوقة المُمانعة من طهران إلى صنعاء عن عزف سمفونية واحدة عن مسؤولية الصهيونية وقوى الاستكبار والتيارات التكفيرية في رمي الحطب لإذكاء نار تلك الفتنة الهاطلة.

غير أن هذه المُكابرة لا يُمكن أن تخفي حقيقة أن هذا العراق قد تغيّر. قلبت “انتفاضة تشرين” مزاجه ضد طهران، ونفخت صناديق الاقتراع غضبه ضد إيران ونفوذها وفصائلها. سارعت كل عواصم الدنيا لإدانة محاولة الاغتيال ودعم بغداد والكاظمي بالذات. لم يتأخّر الجنرال كينث ماكينزي، قائد القيادة المركزية الأميركية، باتهام الفصائل التابعة لإيران بمحاولة ارتكاب الجريمة، بما قد يُطَوِّرُ كل الموقف الأميركي حيال “فصائل إيران” في العراق (أو ما وصفته واشنطن بـ”حق الرد”)، ويُعيدُ تعديل شروط مفاوضات فيينا المُقبلة وقواعدها.

يقول الكاظمي: “إننا نعرف مَن فعلَ ذلك”. تُدركُ إيران هذه المرة أنها فشلت في تنفيذ ما بات العالم يعرف أن أذرعها في العراق مسؤولة عنه. وقد تُدرك الجمهورية الإسلامية يوماً أن علاقاتها السويّة والندّية مع البلد الجار لا يُمكن أن تستمر في التعويل على ميليشيات يتفقدها ضابط أمن يأتيها في “زيارة غير مُعلنة” من الأبواب الخلفية لبغداد.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى