حرمانُ الريف واستمرارية النظام في إيران

منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، لم تُعطِ الحكومات المتعاقبة في طهران الإهتمام الكافي للريف وأهله، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر والعوز والهجرة والحرمان، وبالتالي إلى غضب الشارع.

الحرمان الريفي: لا ماء ولا كهرباء…

إريك لوب*

خلال اليوم الوطني للقرى والبدو في إيران في 6 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، قام الرئيس إبراهيم رئيسي بزيارة محافظة “كهكیلویه وبویر أحمد”  حيث تحدث خلالها عن مكافحة الحرمان في الريف. في ذلك اليوم، قام وزير الزراعة، سيد جواد ساداتي نجاد، بالشيء نفسه في منطقة ريفية وبدوية في محافظة مركزي (أو المركزية) التي ابتُليت بالجفاف. من المرجح أن رئيسي اختار “كهكيلويه وبوير أحمد” ليس فقط لأنها عانت من تفاوتات واضحة بين المناطق الحضرية والريفية وضربها زلزال بقوة 5.6 درجات في 17 شباط (فبراير) الفائت، ولكن أيضاً لأنها كانت المكان الذي حصل فيه في الانتخابات الرئاسية على أدنى عدد في الأصوات.

في حين أن الزيارات والخطب الرسمية في المحافظات والقرى في ذلك اليوم تُعتَبرُ ممارسة عادية ومعتادة، فإن قضية الحرمان الريفي أصبحت محورية في جدول أعمال رئيسي المحلّي. بالتزامن مع زيارته وخطابه في “كهكيلويه وبوير أحمد”، أمر رئيسي نائبه الأول، محمد مخبر دزفولي، بتشكيلِ مجموعةِ عملٍ من المسؤولين السياسيين وخبراء التنمية لدراسة القضية بشكل شامل، وربما إحياء منظمة التنمية الريفية البائدة، “جهاد البناء”، خلال 20 يوماً. ويُذكَر أنه في العام 1979، تأسست “جهاد البناء” كمنظمة ثورية، وبدأت تسليم المشاريع والخدمات للمحافظات والقرى في مجالات البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية والزراعة والصناعة. خلال الحرب العراقية-الإيرانية، قدمت الدعم اللوجستي للقوات الإيرانية على الجبهة. وفي العام 1983، أصبحت “جهاد البناء” وزارة حكومية قبل الاندماج مع وزارة الزراعة وتوقفها عن الوجود بشكل مستقل في العام 2001.

من الناحية السياسية، أعطى رئيسي الأولوية لمسألة الحرمان الريفي لثلاثة أسباب. أوّلاً، فعل ذلك لإرضاء راعيه الأساسي، المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. في العام 2019، ذكرت تقارير عدة أن خامنئي طلب من الحكومة السابقة إعطاء الأولوية للحرمان الريفي وإحياء “جهاد البناء”. ثانياً، يستخدم رئيسي هذه القضية لتأمين فترة ولاية ثانية والحفاظ على الدعم الشعبي بعد فوزه في الانتخابات مع نسبة مشاركة منخفضة تاريخياً للناخبين وتلقّي موافقة عامة عالية على استجابة حكومته لوباء كوفيد-19. ثالثاً، يتماشى تركيز رئيسي على الحرمان الريفي مع الحملة واستراتيجية الاتصال والتواصل للمحافظين. منذ أن فقدوا السيطرة على الحكومة في العام 2013، سعوا إلى تمييز أنفسهم عن الإصلاحيين من خلال انتقادهم للتركيز المفرط على الحريات الاجتماعية والثقافية، وتلبية احتياجات الأثرياء الإيرانيين، وإهمال المظالم الاقتصادية للمضطهدين والمحرومين – وهي عبارات طنّانة شعبوية في الثورة الإيرانية والخطاب الديني.

لا يقتصر تركيز رئيسي على الحرمان الريفي على تبعات وتداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية فحسب، بل ينطوي أيضاً على آثار متعلقة بالأمن بما في ذلك استدامة النظام وبقائه. وقد أثارت تصريحاته وأفعاله حول هذه القضية نقاشاً حاداً بين النخب والخبراء الذين يهتمون كثيراً بتخفيف الحرمان الريفي بقدر اهتمامهم بتحسين الحكم الوطني.

الأمن الغذائي والأمن القومي

ترسّخ الحرمان الريفي في إيران وصار خطيراً حيث تفاقم باطراد. وفقاً للخبير الاقتصادي جواد صالحي أصفهاني، انخفضت مستويات المعيشة القائمة على الإنفاق الحقيقي للفرد بين العامين 2007 و2020 بنسبة 39٪ في المناطق الريفية مُقارنةً بـ26٪ في المناطق الحضرية و11٪ في طهران. بين العامين 2019 و2020 ، إرتفع معدل الفقر في الريف من 22٪ إلى 25٪ وكان أعلى بكثير من المعدل الحضري الذي يقل عن 10٪. وقد أدّت مستويات المعيشة المُنخفضة هذه ومعدلات الفقر المرتفعة إلى تسريع الهجرة الريفية ونزوح السكان.

جادل المسؤولون والمعلّقون المحافظون بأن إعطاء الأولوية للحرمان الريفي وإحياء “جهاد البناء” ضروريان لأن الهجرة الريفية ونزوح السكان يقوّضان الإنتاج الزراعي وتربية الحيوانات والأمن الغذائي في إيران. في حين أن هذه الحجة قد تبدو منطقية على السطح، فإن العلاقة بين الهجرة الريفية والإنتاج الزراعي في البلدان النامية ليست مباشرة أو أحادية الاتجاه وكانت موضوع دراسات متعدّدة. وجدت إحدى هذه الدراسات عن إيران، وإن كانت تحتوي على بيانات قديمة من 1956-1996، أنه لتقليل الهجرة الريفية بنسبة 1٪ ، كان لا بدّ من زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 23٪ تقريباً. لهذا السبب، شدّد الخبراء والنخب على الحاجة إلى الحدّ من الهجرة الريفية من خلال التنويع الاقتصادي في قطاعاتٍ مثل السياحة والتكنولوجيا. خلال زيارته إلى محافظة المركزية (مركزي)، وعد الساداتي نجاد بإعاناتٍ وقروضٍ ومدخلاتٍ للمزارعين والرعاة، بدون اقتراح طرقٍ ملموسة لتنويع اقتصاد المحافظة أو النظر في الكيفية التي قد تؤدي بها إجراءاته المقترحة إلى زيادة عجز الموازنة الإيرانية واستنزاف مواردها المائية.

إلى جانب تعزيز الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، ربما ينظر رئيسي وخامنئي إلى مكافحة الحرمان الريفي كوسيلةٍ لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي وبقاء النظام. منذ العام 1979، انخفض عدد سكان الريف من حوالي 53٪ إلى 25٪ من إجمالي السكان. في هذه العملية، هاجر شباب الريف وسكان آخرون إلى أحياء فقيرة مُكتظّة ومترامية الأطراف ومستوطنات عشوائية وبلدات أكواخ حول المدن بحثاً عن فرص عمل رسمية وغير رسمية. أظهر باحثون، مثل آصف بيات وعلي كاديفار، أنه، على عكس مظاهرات الطبقة الوسطى الحضرية للحركة الخضراء لعام 2009، كانت موجات الاحتجاج والعنف التي حدثت منذ العام 2017 مدفوعة بالمتعلّمين والعاطلين من العمل والإحباط من شباب الطبقة المتوسطة الدنيا والفقيرة وغيرهم من سكان الأحياء العشوائية الحضرية والمستوطنات ومدن الأكواخ. من دون ذكر الموضوع الحسّاس سياسياً للاحتجاجات وأعمال الشغب، أكد رئيسي وساداتي نجاد وغيرهما من المسؤولين والمُعلّقين المحافظين على الحاجة إلى التخفيف من الهجرة الريفية والتهميش الحضري. دعا بعض النقاد إلى القيام بذلك من خلال خلق فرص العمل، والتنويع الاقتصادي، والتدريب المهني أو الفني.

بالنسبة إلى رئيسي وخامنئي، فإن الحد من الحرمان الريفي ليس ضرورياً فقط لمنع الاحتجاجات الشعبية، ولكن أيضاً لتهدئة المحافظات العرقية على طول الأطراف. مع انتشار الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد بين العامين 2017 و2018، شهدت إيران سلسلة من الهجمات الإرهابية الكبيرة والشديدة على أراضيها. خلال هذه الفترة، هاجم تنظيم “الدولة الإسلامية” ضريح آية الله روح الله الخميني والبرلمان الإيراني في طهران واستعراضاً عسكرياً في الأهواز بين العامين 2017 و2018. وبينما أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن الهجمات، زُعِمَ أن متواطئين فيها هم إيرانيون من محافظات عرقية حدودية ذات مؤشّرات اجتماعية واقتصادية وتنموية منخفضة وتعرف ارتفاع التفاوتات بين المناطق الحضرية والريفية. في حين غذّت أشكالٌ مختلفة من التمييز المظالم في هذه المحافظات، ظهرت رواية في أعقاب الهجمات في طهران حول العلاقة بين التنمية والأمن. أكدت هذه الرواية جهود الرئيس السابق، حسن روحاني، والحرس الثوري الإسلامي لإنشاء وتوسيع برامج التوظيف والتنمية في هذه المحافظات في العام 2016. بناءً على طلب خامنئي وعلى الرغم من انتقادات رئيسي لسلفه، فقد شكل التركيز على الحرمان الريفي استمراراً لهذه السياسة.

الإزدواجية المؤسّسية والنقاش داخل النخبة

على الرغم من وجود توافق في الآراء بين النخب والخبراء بشأن الحاجة الملحة إلى تخفيف الحرمان الريفي، لا تزال هناك خلافات بينهم بشأن كيفية تحقيق هذا الهدف. تقع هذه الاختلافات في صميم ليس فقط السياسة الريفية، ولكن أيضاً في الحكم الوطني في نظامٍ استبدادي انتخابي بسلطاتٍ مُتشعّبة وتكرارٍ مؤسّسي. عبر الطيف السياسي، يُدرك الخبراء والنخب أن إحدى أكبر العقبات التي تعترض مكافحة الحرمان الريفي تتمثّل في الافتقار إلى التنسيق والتكامل بين ما لا يقل عن 20 وكالة ومنظّمة حكومية مسؤولة عن معالجة القضية بطريقة ما. بعضها يخضع لسلطة المرشد الأعلى بينما يخضع البعض الآخر لسلطة الرئيس. لتوضيح هذه النقطة وكما أشرنا أعلاه، تم إنشاء برامج التوظيف والتنمية الريفية بشكل منفصل بين العامين 2016 و2021 من قبل روحاني من خلال البيروقراطية والبرلمان، من جانب، ومن قبل خامنئي من خلال كيانات شبه حكومية مثل الحرس الثوري الإيراني ومؤسسة بركات/ تنفيذ أمر الإمام الخميني (إيكو)، من جانب آخر. يمكن القول إن هذا التكرار المؤسسي في الوقت الحالي أقل أهمية بسبب قرب رئيسي واحترامه لخامنئي باعتباره تلميذه الموثوق به وخليفته المحتمل. ومع ذلك، حتى في هذا السيناريو، وكما في الماضي، لا يمكن استبعاد التوترات داخل السلطة التنفيذية والأقاليم تماماً.

أثار اقتراح رئيسي لمعالجة الحرمان الريفي من خلال إحياء “جهاد البناء” نقاشاً حاداً حول السياسة الريفية والحَوكَمة الوطنية، كما أثار ثلاثة ردود. أولاً، جادل بعض المسؤولين الحكوميين وخبراء التنمية والأعضاء السابقين في المنظمة بضرورة إعادة إنشائها داخل وزارة الزراعة أو مؤسسة حكومية أخرى. بهذه الصفة، يمكن ل”جهاد البناء” أن تُشرِفَ ظاهرياً على جميع الكيانات المشاركة في التنمية الريفية وتكون بمثابة وصيٍّ واحد للمناطق الريفية والبدوية. ثانياً، أصرَّ مسؤولون وخبراء وأعضاءٌ آخرون على أن المنظمة يجب أن تظل خارج نظام دولة متضخّم ومُفكَّك وفاسد. من وجهة نظرهم، كمنظمة غير حكومية يمكن ل”جهاد البناء” أن تعمل بشكل أكثر فاعلية كوسيط بين الحكومة الإيرانية والمجتمع الريفي، وستكون في وضع أفضل لتقييم أولويات الأخير والاستفادة من قدراته. ثالثاً، وأخيراً، عارضت مجموعة أخرى من هؤلاء الأفراد بشدة اقتراح الرئيس. فهم يُفضّلون الحفاظ على سمعة منظمة تحظى بالتبجيل عموماً لالتزامها الثوري والديني، والإيثار، والتضحية، فضلاً عن أدائها الإيجابي وإنجازاتها التنموية وفي أوقات الحرب – حتى لو كانت سمعتها قد صُنِعَت بعناية وكان الواقع أكثر تعقيداً. كما في الماضي، وبطريقة من أعلى إلى أسفل، فإن أصوات االقرويين والبدو الأساسية في هذه القضية غائبة بشكل ملحوظ عن هذا النقاش.

بالنسبة إلى رئيسي، فإن مخاطر اقتراحه على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في إيران ومستقبل البلاد كبيرة للغاية. في بعض المحافظات والقرى، أدّى سوء الإدارة الحكومية إلى تفاقم تغيّر المناخ وإطالة أمد الجفاف، وتسببت بدورها في نقص المياه والكهرباء، وإعاقة الإنتاج الزراعي، وتسريع الهجرة الريفية، واإثارة اضطرابات شعبية، كما يتّضح من الظروف القاسية والأحداث المثيرة للجدل في خوزستان التي وقعت في الصيف الماضي. مع كونها أصلاً من العوامل المساهمة في الاحتجاجات وأعمال الشغب التي حدثت منذ العام 2017، فإن أي إخفاقات حقيقية ومتصوَّرة وتوقّعات غير مُحقَّقة تُحيط بخطط وسياسات التنمية الريفية للحكومة تخاطر بإعادة إشعال انتفاضة جماعية وقمع الدولة. ومع ذلك، بدون إصلاح منهجي وتحسين الحكم، من الصعب فهم وإدراك كيف يمكن تجنّب مثل هذه النتائج المأسوية.

  • إريك لوب هو أستاذ مشارك في قسم السياسة والعلاقات الدولية في جامعة فلوريدا الدولية. وهو مؤلف كتاب “جهاد إعادة الإعمار في إيران: التنمية الريفية وتوطيد النظام بعد العام 1979 (مطبعة جامعة كامبريدج، 2020). الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الخاصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى