أما من فتاةٍ لهذا الوطن…؟!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح*

في قول فرنسيٍّ مأثور “ما أصعب الهروب من سجن لا جدران فيه!!”، هل أبالغ في القول أن اللبنانيين جميعهم – باستنثاء أركان المنظومة الحاكمة والمُنتفعين منها- يعيشون في سجنٍ مُماثل؟ كيف لا، واللبناني يئنُّ ويتوجّع كل يوم، لا بل كل ساعة تحت وطأة المصالح الشخصية والفئوية للفريق الحاكم وعلى رأسه “حزب الله”، ومن المتاجرة بالطائفية والمذهبية، ومن التضخّم والغلاء واليأس والقنوط وفقدان الأمل بأي مستقبل زاهر. ويتألّم أيضاً من استرهان لبنان لمصالح طهران بواسطة “حزب الله”. يبدو أن الرئيس الراحل إميل إدِّه كان محقّاً حين قال: “فلنترك الفرنسيين عندنا يُعلّموننا كيف نكون شعباً يستطيع بناء دولة وإلّا فنحن ذاهبون للاقتتال كل عشرين سنة فنصنع من لبنان ميدان حروب الغير!”، إنّه من المُحزن أننا أصبحنا نترحّم على حكم الأجانب! لم يعد هاجس اللبناني الوصول إلى ما وصلت إليه التكنولوجيا، بل… الحصول على الكهرباء والبنزين والدواء؟ كيف لا، نعيش في سجنٍ كبير، وقد أضحت أيام المواطن، كل أيامه، شبيهة ببعضها البعض … بغياب أيّة بارقة أمل؟ يحدث كل ما سبق، في ظل عهدٍ وُصِف بالخطأ بالعهد القوي، فكيف اذا كان العهد ضعيفاً؟

في قولٍ لرئيس الحكومة السابق سليم الحص: “رئيس الجمهورية ديكتاتوري أوّل عامين، وديموقراطي ثاني عامين.. وما حدا بيسمعلوا آخر عامين!”. الكلام الناري واللهجة الحادّة والتي افتقدت إلى اللياقة لوزير الثقافة محمد مرتضى أثناء جلسة مجلس الوزراء، ذكّرتني بقول الحص. استقوى مُرتضى، مع الأسف على الرئيس والذي بدلاً من أن يطلب منه الانسحاب من الجلسة أوقف الجلسة وغادر القاعة. سقى الله زمناً حين كانت اللياقة والتمسّك بأصول التعامل عنواناً للسلوك السياسي! اختلف الوزيران إميل البيطار وغسان تويني في حكومة الرئيس صائب سلام في العام 1970 مع الرئيس سليمان فرنجية، فاكتفى كلّ منهما بتقديم استقالته. وعلى سيرة الراحل الكبير غسان تويني والكلام اللائق، لا يزال راسخاً في ذهني ما توجّه به تويني في خطابه لأحد اقطاب السياسة اللبنانية الراحل كمال جنبلاط في حفل تكريمه في العام 1971 بمناسبة منحه وسام لينين قائلاً: ” يا حليفي تارّةً ويا خصمي تارّةً اخرى… ويا صديقي دائماً!”. أوووه ما أحلى الكلام الحلو. رزق الله! لا مناص إلّا التوجّه بأطيب الكلام لرئيس الجمهورية فهو رئيس البلاد ورئيس كل الوزراء. لكن إن صحّت ما يتردّد من أخبار بأن فخامته يحيل أكثر من ملف إلى صهره جبران باسيل فهذا لا يليق بموقع الرئاسة الذي نحترم ونجلّ.

العلوم السياسية تتضمّن فرضيّة (Hypothesis) عوامل ثابتة وعوامل متحركة (fixed and variable factors) في المسار السياسي لأيّة دولة، وأن مؤشر الاستقرار الداخلي للدولة يكمن في جملة ما يكمن في استمرارية العوامل الثابتة. هذا لا يعني، تغييب عامل او عوامل مُتحرّكة تبرز إلى السطح بين الفينة والأخرى كتولّي حزب معارض السلطة بعد فوزه في الانتخابات، بشكل غير متوقّع أو انقلاب عسكري كما جرى أخيراً في السودان إلخ… إلخ. مناسبة التذكير بما سبق أنه يبدو أن قدرَ بلاد الأرز ان تظل دائماً وبصورة متواصلة، خصوصاً في زمن العهد الحالي، أسيرة عوامل ليس فقط متحرّكة بل… متفجّرة! فبعد تعطيل تشكيل الحكومة لمدة 13 شهراً برئاسة الرئيس سعد الحريري، وبعد 43 يوماً من المماطلة سُعدنا أخيراً بتشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وأخذنا علماً أن الغطاء الإقليمي والدولي لم يعد فقط محصوراً بانتخاب رئيس الجمهورية – وهذا حالنا منذ الاستقلال ولحينه- بل أيضاً … لتشكيل حكومة! بِئسَ هذا الزمن حين نقرأ ونسمع أن اتصالاً بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون ووالإيراني ابراهيم رئيسي أثمر تشكيل حكومة!

إذاً ما أن استبشرنا خيراً بتأليف حكومة ميقاتي: وضع خطة الإنقاذ المالي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي إضافةً إلى خطط ومساعٍ لعودة الكهرباء، بروز اهتمام عربي ودولي للبنان من خلال زيارات مسؤولين معنيين إلى بيروت، التحضير للانتخابات النيابية، السعي إلى إقرار البطاقة التموينية إلخ… حتى فوجئنا بعامل مُتحرّك لا بل متفجّر: أحداث الطيونة وعين الرمانة المشؤومة والتي مع الأسف الشديد أيقظت التناحر والاستقطاب الطائفي البغيض، وبدأ الاستقطاب الطائفي لتشكيل تغطية تهدف إلى حجب التحقيق في انفجار المرفإ. وكنتُ قد كتبتُ سابقاً في “النهار” منذ أكثر من عام، أن التحقيق في انفجار المرفإ لن يؤدّي إلى أيّة نتيجة، ذلك ان كلاسيكيّات الفساد في لبنان تعني أن الفضيحة تبدأ كبيرة وكبيرة جدّاً ثم يُعمَل على طمسها، بدليل أن الفضائح التي سمعنا بها منذ الاستقلال ولحينه تمّت لفلفتها على عكس ما يحدث في البلدان الديموقراطية حيث تبدأ الفضيحة بخبر صغير في إحدى الصحف  ألى ان تكبر وتكبر وتُتخَذ الإجراءات القانونية بحق المعنيين. لكن، وما إن خفّت وطأة التداعيات السلبية لأحداث 14 تشرين الأول/أكتوبر حتى إبتُلِينا بالتداعيات الكارثية لتصريحات جورج قرداحي والتي أدّت إلى قطع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية بين لبنان ودول الخليج العربي. كأن قدرنا أن لا نرتاح وأن لا نهنَأ وأن نواظب الانتقال من محنة إلى أُخرى، ومن مصيبة… إلى مصيبة أكبر! أثناء تقديم التعازي يقول المُعزّي لأهل الفقيد: “عسى أن يكون هذا خاتمة أحزانكم”. تُرى متى يتوقّف تقديم التعازي في هذا العهد الميمون؟! يبدو وكأننا نعيش في ظل عزاءٍ دائم! ألم يعدنا رئيس الجمهورية بجهنّم… ولقد صدق وعده مع الأسف؟

لقد أضحى واضحاً للبسطاء من الناس قبل العقلاء أن بلاد الأرز رهينةً لتوجّهات طهران، وأن لبنان غدا ساحةً لتصفية حسابات إقليميّة. (ألم يُصرّح اللواء عَلا مُعلي رشيد قائد مقرّ خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني بأن قاسم سليماني أنشأ محوراً من ستة جيوش – منها “حزب الله”- للدفاع عن إيران)، وبالتالي فنحن ندفع الثمن كما سبق ودفعناه نتيجة تسلّط وتجاوزات المقاومة الفلسطينية لحين مغادرتها لبنان في العام 1982 (اعتذر السفير الفلسطيني في لبنان اشرف زكي 2008 عن تلك التجاوزات خلال ما سُمّي “إعلان بيروت”. لكن، ما نفع الاعتذار بعد خراب البصرة؟) لكن بين 1975 و 1982 دخلت اسرائيل على الخط عبر تحالف “الكتائب” و”القوات اللبنانية” معها. قبل ذلك، في الخمسينات من القرن الماضي كان وهجُ الناصريّة وتأثيرها ساطعاً لكن التفاهم بين الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب وعبد الناصر أثمرَ استقراراً لا مثيل له وأضحت المعادلة واضحة: الاستقرار المحلي مرتبط بالاستقرار الإقليمي.

هذا عاملٌ أضحى مع الأسف مُسلَّمٌ به لكن، مع الأخذ بعين الاعتبار العامل الإقليمي في المسار المحلي للبنان فلا يُمكن تجاهل عامل محلي أدّى في جملة ما أدّى إلى استحضار واستيلاد العوامل المتفجرة في المسار اللبناني وتسبّب في حالاتٍ من عدم الاستقرار ألا وهو تناحر بعض الساسة الموارنة بين بعضهم البعض للوصول إلى السلطة والبقاء على سدّة الرئاسة على حساب مصلحة لبنان العُليا. ترافق ويترافق ذلك مع اثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية بين الحين والآخر ظنّاً من بعضهم أن عاملاً كهذا يسهل بتحقيق أهدافهم ليس فقط للوصول إلى السلطة بل للتمسك بها… وفي أحيانٍ أخرى، مع الأسف… لتوريثها! وفي هذا الصدد استعرض ثلاث محطات على سبيل المثال لا الحصر وأبدأ بالمحطة الأخيرة أعني بالرئيس ميشال عون. يتساءل المرء وبكل حياديّة ألم يكن من مصلحة البلاد والعباد أن يعمل الرئيس عون حين كان رئيس الحكومة العسكرية في عهد الرئيس أمين الجميّل على انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية وهو… لو فعل ذلك لما وُلِد اتفاق الطائف الذي قلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية والذي يسعى عون لاستعادتها! ثم، ألم تكُن حظوظ العماد ميشال عون بالوصول إلى سُدّة الرئاسة بعد ست سنوات لاحقة كبيرة بدلاً من الانتظار 15 عاماً؟ لكن العماد عون آنذاك تشبّث بمواقفه وعينه على الرئاسة. تَبِعَت ذلك النتائج الكارثية لحرب الإلغاء والتحرير والتي أضرّت أشد الضرر بجميع اللبنانيين وبخاصة المسيحيين منهم والذي يدّعي صهره جبران باسيل العمل على استرجاع حقوقهم. تَبِعَت ذلك المفاوضات حول اتفاق الطائف. في مذكّراته (“حارس الذاكرة”، محاضر سريّة 1990) يستعرض البطريرك نصرالله بطرس صفير المحاولات والجهود الحثيثة والشاقة لإقناع العماد عون بقبول اتفاق الطائف لكن دون جدوى. ذلك أن عون كان يراهن بأن الوضع سيميل إلى مصلحته وأن الرئاسة ستغدو قاب قوسين! تكرّر المسار نفسه، فلكي يصل عون إلى الرئاسة بعد مُضيّ 15 عاماً من أقامته في فرنسا كان لا بد له من التحالف مع “حزب الله” (اتفاق “مار مخايل” 2006). تطلّب ذلك أيضاً مد الجسور مع النظام السوري الذي قصفه في قصر بعبدا في العام 1989. (راجع تداعيات ذلك ما أورده فايز قزّي في كتابه الأخير”حارس قبر الجمهورية”، دار “سائر المشرق” 2021). والسؤال الذي يطرح هنا: لو تضامن “التيار الوطني الحر” برئاسة عون آنذاك مع فريق 14 آذار ألم يكن المشهد السياسي تغيّر لمصلحة لبنان واللبنانيين؟ صحيح، أنه لم يكن مستطاعاً آنذاك تجاهل موقع “حزب الله” (وبالتالي طهران). لكن، كان بالإمكان أن نضمن موقفاً أقل تصلُّباً إن لم يكن أكثر مرونة في ما يتعلق بمستقبل ومصير لبنان. وها هو الرئيس عون يكرّر هذا الميل نحو التمسّك بالسلطة، فالتقارير تُجمع على حرصه على توريث صهره وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل سُدّة الرئاسة، الأمر الذي تطلّب ويتطلّب مزيداً من التنازلات ل”حزب الله”، علماً أن حظوظ باسيل في هذا الشأن أضحت ضعيفة في ضوء عوامل متعدّدة أهمّها العقوبات الأميركية عليه.

المحطة الثانية تُعيدنا إلى منتصف السبعينات الفائتة، وإلى الرئيس الراحل بشير الجميّل حين اندلعت مع الأسف الشديد احداث عين الرمانة المؤسفة والمُحزنة. كان الشيخ بشير قُطب الرُّحى في حرب عبثيّة أودت بحياة الآلاف من اللبنانيين وتسبّبت بخسائر جسيمة على مختلف الصُّعد. السبب الرئيس لاندلاع الأزمة كمُن في تجاوزات المقاومة الفلسطينية المُسلَّحة وعدم احترام سيادة لبنان والتقيُّد بالمتطلّبات الشرعيّة اللبنانية. ألم يُصرّح “أبو عمّار” لاحقاً أنه باستطاعته أن يحكم غزّة كما حكم لبنان؟ كانت المقاومة الفلسطينية دولة ضمن دولة، السلاح خارج الشرعية، وكان هذا محط انتقاد اللبنانيين جميعاً بدون استثناء، ولم يكُن بإمكان أبناء المناطق التي كانت تحت سيطرة المقاومة الفلسطينية المُسلّحة الاعتراض كما هو الحال اليوم مع “حزب الله” ليس فقط مع بيئته، بل مع جميع اللبنانيين. ثم أنه كان من عدم الحنكة والحكمة، تجاهُل، آنذاك الثقل السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي حصلت يومها على اعتراف معظم الدول وأضحت محوراً مهمّاً في المنطقة يُحسَب له ألف حساب، وهكذا اعتلى أبو عمّار المنابر الدولية وخطب قائلاً: “البندقية بيد وغصن الزيتون بيد أُخرى”. فكان من الصعب في ضوء ما وصلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية إنكار تأثيرها وسطوتها. ولو تعقّل الرئيس بشير الجميّل آنذاك ودعم مؤسسات الدولة بكل أجهزتها وسلّم بأن الدولة، والدولة وحدها، هي المخوّلة بجبه التسلُّط العسكري الفلسطيني لكان بالإمكان الوصول إلى الهدف المنشود، لكن شهوة الرئيس الجميّل إلى السلطة حالت دون ذلك. ولو عرف الرئيس الراحل وهو في عليائه أن أهدافه التي سعى إلى تحقيقها باءت بالفشل وسببت من مآسٍ لعصره الألم، فالفلسطيني كما كان يدعوه لا يزال حاضراً ناضراً مع سلاحه! أما السوري -هكذا كان يسمّيه- فقد تحكّم بالعباد والبلاد طيلة 20 عاماً واليوم أضحينا في زمن العهد الإيراني! بالرجوع إلى تلك الفترة وبالإشارة الى التناحر بين الساسة الموارنة يجدُر التذكير ببعض المحطات والتي حملت في طيّاتها التناحر بين بعض من الساسة الموارنة وشبقهم إلى السلطة: (i) مجزرة إهدن حيث تمّ اغتيال طوني فرنجية ومع عائلته وحرّاسه(ii) .  مجزرة “صفرا” حين تم تصفية 200 عنصر من حزب الوطنية الأحرار  على يد عناصر من “الكتائب” برئاسة الشيخ بشير. تقبّل الرئيس كميل شمعون واقع الأمر على مضض. لكن تم استرضاؤه بأن تعود عائدات مرفإ ضبيّة إليه إضافةً إلى تسلّمه مبلغ 7 ملايين ليرة للعودة إلى اجتماعات الجبهة اللبنانية (راجع جونثان رندل، مراسل “الواشنطن بوست” : “حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي”، ترجمة بشار رضى في العام 1981). بناء على قاعدة ناقل الكفر ليس بكافر فلقد أخبرني وزير سابق عاصر تلك الفترة أن الرئيس كميل شمعون أرسل إشارات إلى السوريين بعدم ممانعته بتعطيل جلسة انتخاب الشيخ بشير عبر قصف ثكنة الفياضية، ونقل إليّ صديق مقرّب من الرئيس شمعون أنه التقاه في لندن بعد اغتيال الشيخ بشير والذي قال له أنه لا أسف على  غياب الشيخ بشير ناعتاً إياه بنعوت غير لائقة. (iii) الصراع بين الشيخ بشير والشيخ أمين الجميّل والذي رغب بعد ان انتُخب رئيساً للجمهورية أن يتولّى رئاسة حزب الكتائب فعارض الشيخ بشير الأمر وهدّد باقتحام مقر المجلس في الصيفي كما ذكر كريم بقرادوني في احد كتبه. (iiii) الصراع المسلّح بين جيش العماد عون والقوات اللبنانية برئاسة جعجع؛ رغبة الرئيس امين الجميّل بالتخلص من جعجع كما ذكر اسعد الشفتري القيادي السابق في القوات اللبنانية في كتابه: “الحقيقة بصوت يرتجف”. صراع جعجع/حبيقة، اغتيال داني شمعون، صراع جعجع/ أمين الجميّل، والذي أُلزِمَ بالرحيل خارج لبنان بعد تهديد جعجع له كما جاء في مذكّرات الجميّل (الرئاسة المقاوِمَة، منشورات بيت المستقبل 2020)

أما المحطة الثالثة فتعيدني إلى العام 1968 حين نشأ “الحلف الثلاثي” الذي جمع (الأخوة الأعداء) الرئيس كميل شمعون، الشيخ بيار جميل، والعميد ريمون إِده. شكّل “الحلف الثلاثي” تكتُّلاً طائفياً مارونيّاً أدّى في جملة ما ادّى وهدف إلى استثارة الغرائز المسيحية والعزف على الأوتار الطائفية؛ والعمل على هدم انجازات الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب (يذكر الصحافي شكري نصر الله في كتابه “ذكريات لم يحن أوانها بعد” أن العميد إدّه أبلغه اثناء لقاءاته معه في باريس ندمه على مُعاداة الرئيس شهاب وأنه لو تم دعمه لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه في العام 1975) عبر استثارة الشعور الطائفي البغيض. أسّس، مع الأسف “الحلف الثلاثي” لاحداث 1975 وعمّق الانقسام بين اللبنانيين وكان هدف كل قطب من الأقطاب الثلاثة الوصول إلى سدّة الرئاسة. يذكر الصحافي إميل خوري في لقاء صحافي أنّه بعد انتهاء ولاية شارل الحلو في العام 1970 ان العميد ريمون إده أبدى رغبته بالترشح إلى الرئاسة فسارع الرئيس كميل شمعون على إعلان ترشّحه لكي يعرقل ترشّح إدّه. سعى الاقطاب الثلاثة الموارنة للانقضاض على انجازات الرئيس شهاب والتخلّص من إنجازاته… هو الذي سعى إلى إحياء الدولة وعزّز إمكانياتها لما فيه مصلحة جميع اللبنانيين بخاصة المسيحيين منهم. في كتاب نقولا ناصيف، “فؤاد شهاب، دار النهار للنشر، 2008” يسرُد ناصيف مجموعة أقوال للرئيس شهاب: “لا أريد أن يكتب عني أحد، ولا أن يدافع عن عهدي أحد. لا أريد تبرير شيء. وحده التاريخ يبرّر. لن يقتنع الناس ولا سيّما منهم المسيحيون بالكثيرالذي قمت به. أرى لبنان مُقبلاً على أيام سود. أرى بُرك الدم. أرجو الله أن لا يجعلني أحضر هذه الأيام”. لكن أحداً مع الأسف لم يصغِ إلى الراحل الكبير.

فرضيّتي كالتالي: لولا المنافع والمصالح الشخصية – على حساب مصلحة الوطن العُليا- لبعض الساسة الموارنة ومنهم من تولّى سُدّة الرئاسة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه… بالرغم من وطأة العامل الإقليمي. استطاع الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب بحكمته واخلاصه ونزاهته وترفُّعه عن المصالح والمنافع الخاصة أن يَحُدّ من التأثير العارِم للناصرية لما فيه مصلحة واستقرار لبنان. ولو أقدم نظراؤه اللاحقين – وبعض الساسة الموارنة الذين سعوا للوصول إلى الرئاسة – على التشبّه به…  مع اختلاف العامل الإقليمي (ابتداءً من الناصرية، وانتهاء بإيران، مروراً بالمقاومة الفلسطينية واسرائيل) لشهدنا استقراراً وأوضاعاً أفضل. لكنّ، ذلك، مع الأسف لم يحصل! تُرى، متى تتوقّف شهوة السلطة والوصول إلى كرسي الحكم على حساب مصلحة الوطن العليا! لا يزال الرئيس فؤاد شهاب راسخاً في الذاكرة السياسية اللبنانية فهو الذي وضع أُسس الدولة الحديثة وعمل لمصلحة لبنان واللبنانيين بعيداً من أيّة منافع خاصة. لن يستقيم الوضع بدون حوكمة وبدون حاكمٍ مُتبصّرٍ حكيم، مترفّع، وطني، مستقيم، نزيه، ومن دون ذلك فلا أمل يُرجَى. أبحث عن ذلك الحاكم، فلا أجده! يحضرني ما قاله الشاعر القروي رشيد سليم الخوري في منتصف اربعينات القرن الماضي: “إلهي بُلينا بقحط الرجال / أما من فتاةٍ لهذا الوطن؟”.

ويؤسفني اليوم أن أكرر ما قاله الشاعر..!!

  • عبد الرحمن عبد المولى الصلح هو كاتب لبناني.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى