هل مِن حَربٍ باردةٍ جديدة؟

الدكتور ناصيف حتي*

يبدو أن منطقةَ المُحيطَين الهادئ والهندي في طريقِها للتحوّلِ إلى مركزِ الثقلِ الرئيس في الصراعِ الدولي الجديد ضمن مُثلّثِ القوى الأميركي-الصيني-الروسي، وبخاصة بين القوّتين الاقتصاديتين الأُولتَين في العالم: الولايات المتحدة والصين الشعبية. يأتي هذا بعد نهاية ما عُرِفَ “بلحظةِ أحادية القوّة” الأميركية غداة نهاية الحرب الباردة، وبعد دخول العالم في مرحلة  “ما بعد الحرب الباردة” التي تَشهَدُ تبلورَ نظامٍ دوليٍّ جديدٍ لم تستقرّ قواعده ومعالمه بعد.

من أهمِّ عناصرِ تَبَلورِ هذا النظام ما يشهده العالم من استراتيجيةٍ صينية عالمية ناشطة ذات بُعدَين مُترابطَين إقتصادي وسياسي، تحت عنوان “حزام واحد طريق واحد”. من أولى نتائج هذا التحوّل إلغاء أوستراليا لعقدِ شراءِ غوّاصاتٍ من فرنسا لمصلحة شراءِ غواصاتٍ أميركية، وما تركه ذلك من توتّرٍ في العلاقات الفرنسية مع كلٍّ من “الحليف الاستراتيجي الغربي” الولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا. وقد تبع ذلك قيام الاتحاد الاوروبي بطلبِ تقديمِ اعتذارٍ من طرف أوستراليا عشية انطلاق المحادثات التجارية بين الطرفين. وصدرت تصريحاتٌ من مسؤولين في دولٍ أوروبية عدّة، منها فرنسا بالطبع، حول أن واشنطن تُولي أولوِيّةً لتحالفٍ أنغلوساكسوني (أوستراليا وبريطانيا) على حسابِ حلفها مع أوروبا.

خطوتان قامت بهما واشنطن عبّرتا من جهة وكرّستا من جهة أخرى هذا التوجّه الاستراتيجي الجديد. أوّلاً، الإعلان عن ولادة اتفاقية تعاونٍ أمني استراتيجي ثُلاثي تضمّ إلى جانب الولايات  المتحدة كلاً من بريطانيا وأوستراليا، وعُرِفت باتفاقية “أوكوس” (AUKUS). والمُثير للإهتمام أن هذه الاتفاقية أُعلِنَ عنها في اليوم ذاته الذي أعلن الإتحاد الأوروبي عن بلورةِ استراتيجيةٍ تتعلّق “بالمُحيطَين” شاملةً في أطرافِها ومواضيعها. وجاءت الصين الشعبية ضمن هذه الأطراف المدعوّة للتعاون في إطارِ هذه الاستراتيجية، ولكن في مجالاتٍ مُعَيَّنة، وليس في كافة المجالات.

الخطوة أو المُبادرة الثانية التي جاءت من واشنطن تقوم على نوعٍ من الحوار التعاوني الاستراتيجي بين كلٍّ من الولايات المتحدة واليابان وأوستراليا والهند، وعُرفت بمجموعة “كواد” ( QUAD). وهذا الحوار هو صيغةٌ من التحالف الرباعي يقوم على “حوارٍ أمني” في مواجهة الصين الشعبية. فالولايات المتحدة تريد من الحليف الاوروبي أن يكون معها في استراتيجيتها لاحتواءِ الصين في منطقة المُحيطَين، فيما يبقى هناك، رُغم اختلاف المواقف الأوروبية من العلاقات مع الصين الشعبية وذلك حسب مصالح كل دولة، موقفٌ أوروبي عام يُفضّلُ  في حدّه الأدنى تلافي استراتيجية الاحتواء الحاملة للتوتّر وإمكانية المواجهة مع بكين، واللجوء إلى سياسة تقوم على تخفيض التوتّر الاستراتيجي مع الصين الشعبية.

هذه السياسة الأميركية الناشطة من حيث الأولويّات، والتي تقوم على أولويَة احتواء الصين الشعيبة، كانت من العوامل المُشجّعة لتعزيز التعاون العسكري والأمني بين بكين وموسكو التي تنظر  بقلقٍ أيضاً إلى السياسة الأميركية في “المُحيطَين”. وجاءت “القمة الهاتفية”، إذا صحّ وصفها بهذا الشكل، بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، في مطلع أيلول (سبتمبر) الفائت، والتي استغرقت حوالي التسعين دقيقة، لتعمل على منع تحوّل المنافسة الشديدة بين الطرفين إلى نزاعٍ مفتوحٍ، كما وصفها أحدهم.

البعض يتحدّث، كما تساءلنا في البداية، عن احتمال تبلور نظامِ حربٍ باردة جديدة على الصعيد العالمي. ولكن لا يوجد انقسامٌ إيديولوجي حاد يطغى على العلاقات بين مختلف القوى الكبرى، كما كان الوضع عليه خلال نظام الحرب الباردة في الماضي، يكون عنصراً أساسياً في رسم التحالفات وصياغة الأحلاف، بل ما هو حاصل هو “لعبة” تنافسٍ استراتيجي و”حروب نفوذ” بصِيَغٍ وعناوين ومصالح مُتقاطعة حيناً ومُختلفة أحياناً .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” – (لندن) – توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى