مُبدِعاتٌ موسيقيّاتٌ مَنسيّات (6 – الحلقة الأَخيرة): جيرمين تايفير: موسيقاها تخطَّت تآليف الرجال

جالسةً إِلى البيانو آلتها المفضَّلة عزفًا وتأْليفًا

هنري زغيب*

بعد خمس حلقات من هذه السلسلة – وكان يمكن مَدُّها إِلى حلقات كثيرة بَعد – أَختُمُها بهذه السادسة على أَن تبقى مآثرُ المرأَة في الإِبداع حاضرةً في ما أَقوم به من أَبحاث للتركيز على دور المرأَة المتعدِّدة المواهب والإِبداع في مجتمع ذكوريّ يضطهد نجاحها، رهْبةً من تَفَوُّقها أَو تَعامُلًا فوقيًّا. وفي الحالتين لا يمكنه تَخَطّيها، هي التي سجَّلَت في مطاوي التاريخ حضورًا لن يمحوه ظُلْم ولن تتجاوزَه ادِّعاءات ذكورية.

بداية عنيدة

هذا الأَحد، اليوم السابع من الشهر الجاري، يحتفل العالَم الموسيقي الفرنسي بمرور 38 سنة على غيابها. قد لا تُعتَبَر تمامًا من “المنسيَّات” كما عنوان هذه السلسلة، سوى أَن أَعمالها لم تَعُد تتَّخذ الحيِّز الكافي الذي يليق بإِنتاجها الوفير.

إِنها جيرمين تايفيرTailleferre .

مديدةً كانت حياتها: بين ولادتها في سان مور (منطقة إِيل دو فرانس) في 19 نيسان/أَپريل 1892 ووفاتها في پاريس عن 91 سنة في 7 تشرين الثاني/نوڤمبر 1983، ووفيرةً كانت أَعمالُها، هي التي بدأَت باكرًا في العطاء.

طفلةً بدأَت العزف على الپيانو بمساعدة أُمها ومعارضة والدها. لكنَّ والدتها، في غفلة عنه، سجَّلتْها سنة 1904 في كونسرڤاتوار پاريس لتنال منه بعد سنتين مِدالية الصولفيج (قراءة النوتات وكتابتها)، وهي خفَّفَت من تَصَلُّب والدها لكنه ظلَّ يرفض مساعدتها ماليًّا.

وأَخذت تشقُّ طريقها بعنادٍ يشابه عناد طفولتها في التعلُّم. تعرفت سنة 1912 بالمؤلف الموسيقي الفرنسي شارل كوشلين (1867-1950) فدَّربها على الكتابة الأُوركسترالية، ما هيَّأَها أَن تنال سنة 1913 الجائزة الأُولى في الهارمونيا، وسنة 1914 الجائزة الأُولى في التأْليف، وسنة 1915 الجائزة الأُولى في المرافقة الموسيقية (نالها قبلها دوبوسي سنة 1878)، وهي تقوم على ارتجال موسيقى تصاحب غناءً بدون النوطات أَمامها.

بلاطة على البيت الذي شهد شيخوختَها ووفاتها

فرصةُ أَول الطريق

سنة 1917 قدَّمت مقطوعتَها لآلَتَي پيانو فلفَتَتْ عازفَ الپيانو والمؤَلف الموسيقي الشهير عصرئذٍ إِريك ساتي  (1866-1925) وأَعلنها “شقيقتي في الموسيقى”، ونصحها باـلانضمام إِلى فريق “الشبَّان الجدد” ولولبه الكاتب الفرنسي الشهير جان كوكتو (1889-1963).  وكان ذاك “الفريق” على ارتباط مباشَر مع فريقٍ من شعراء تلك الحقبة: غيوم أَپولينير، ماكس جاكوب، پول إِيلوار، لويس أَراغون، وفريق من الرسامين: پابلو پيكاسو، جورج براك، موييز كيسلنغ، وفي محترفهم قدَّم “الفريق” أَول أُمسية موسيقية في 15 كانون الثاني/يناير 1915، وخلالها قدَّمت جيرمين تايفير مقطوعتها لآلَتَي الپيانو (أَعادت لاحقًا كتابتها للأُوركسترا سنة 1924).

وأَخذت شهرتها بالاتساع، فعقدَت سنة 1919 تعاونًا فنِّيًّا امتدَّ عشر سنوات مع المؤَلف الموسيقي موريس راڤيل (1875-1937) صاحب “البوليرو” الشهير. وفي العام التالي شاركت مع “الفريق” في العمل الجماعي: باليه “عرسان برج إِيفل”. عامئذٍ تغير اسم “الفريق” إلى مجموعة الستَّة” وانفصلت عنه جيرمين لتُكمل الطريق بمفردها، انطلاقًا من عزْفها سنة 1924 مقطوعتَها “كونشرتو للپيانو والأُوركسترا” بقيادة الروسي الشهير سيرج كوسيڤيتسْكي (1874-1951).

الشارع باسمها في باريس (منذ 2007)

الإِصرار الناجع

دلالةً على شخصيتها القوية، خصَّص لها پول لاندورمي صفحات مفصلة في كتابه “الموسيقى الفرنسية بعد دوبوسي” (منشورات غاليمار-پاريس 1943) شرح فيها طفولتها الصاخبة وكيف عاندت والدها بالإِصرار على مزاولة الموسيقى، ولاحقًا عاندت مجتمعًا بأَكمله لا يحبِّذ المرأَةَ مؤَلِّفة موسيقية. وناضلت حتى نالت أَعلى شهادات موسيقية كانت تحلم بنَيْلها، ثم انصرفت وُثقى إِلى التأليف. ولأَن الكونسرڤاتوار لم يمنحها فرصة التدريس فيه، وجدت فرصتها بالتعرف إِلى إِريك ساتي الذي آمَنَ بموهبتها فأَطلقها مسهِّلًا لها الطريق، وواصلَت كاسرة كل “تابو” في عصرها ضدَّ المرأَة التي كان المجتمع يرى إِليها دائمًا تحت وصاية الرجل فتبقى دونه حضورًا إِبداعيًّا. لكنها، حين تعطى الفرصة، تُبدع متخطيةً كل حظْر وخطَر.

تُراجِع تآليفها في أَواخر حياتها

زواجان وطلاقان وحبٌّ واحد

سنة 1925 تزوجت من رسام الكاريكاتور الأَميركي رالف بارتون (1891-1931) بعد طلاقه من الممثلة السينمائية الأَميركية كارلوتا مونتْري. وخلال سكنها معه في نيويورك تعرفَت بتشارلي شاپلن فعرَض عليها كتابة موسيقى لأَفلامه. وإِذ اعترض زوجها انفصلت عنه سنة 1929 بعد عودتهما إِلى پاريس، وأَنجزت طلاقها منه سنة 1931 لينتحر في نيويورك ليلة 19 أَيار/مايو من تلك السنة التي فيها ولدَت جيرمين ابنتها فرنسواز في 4 حزيران/يونيو 1931 من القاضي جان لاجا الذي عادت فتزوَّجته سنة 1932. وتوالت تآليفها فكتبَت بين 1931 و1933 موسيقى أَفلام موريس كْلوش، وسنة 1938 كتبَت “كانتاتا نرسيس” على نص طويل من الشاعر پول ڤاليري.

خلال الاحتلال الأَلماني پاريس هربَت مع شقيقتها إِلى نيويورك بين 1942 و1946. ثم عادت لتسكن في غْراس (منطقة الأَلپ) حتى عادت تتلقَّى طلبات التأْليف للإذاعة والسينما. ومع تدهور علاقتها الزوجية مجدَّدًا فضَّلت حبَّها الوحيد وطلَّقت زوجها سنة 1955 فيما كانت تعمل على خمس مقطوعات للتسجيل الإِذاعي بتكليف من إدارة مسرح “الأُوپرا كوميك”. ومع أنها كانت انفصلت قبل سنواتٍ عن “مجموعة الستة” عاد أَعضاؤُها فأَعلنوها سنة 1956 سفيرتهم في العالم، وبمسعى منهم حقَّقت جولة أُوروپية واسعة مع الباريتون برنار لوفور.

تُدرِّس البيانو في “المدرسة الأَلزاسية” (1980)

التدريس كي لا تجوع

وإِذ عانت في أَواخر حياتها من ضائقة مالية، تلقَّفَها جورج هاكار (مدير “المدرسة الأَلزاسية” في پاريس من 1953 إِلى 1986) فطلب منها إعطاء دروس في العزف على الپيانو لطلاب الكوريغرافيا في هذه المدرسة العريقة (تأَسست سنة 1874) فعادت تؤَلِّف من جديد، ولو قليلًا، حتى آخر حياتها وغابت في عامها الحادي والتسعين تاركة أَعمالًا موسيقية كثيرة جدًّا بين الباليه والسوناتا والكونشرتو، لكنها كتبَت معظم تآليفها للپيانو. وتميَّزت موسيقاها بالسلاسة والعذوبة والحنان والرهافة ووضوح التعبير، متأَثرة ببعض النسيج التأْليفي لدى باخ وموزار.

اليوم، لم تعُد الأُوركسترات تَعزف تآليفها، وبدأَت موسيقاها تغور في النسيان أَمام الموجات الموسيقية الحديثة. عسى الاحتفال بالذكرى 38 لوفاتها نهاية هذا الأُسبوع (الأَحد) يُعيد إِلى الجيل الموسيقي المعاصر ذكْر هذه المرأَة التي كانت في عصرها نجمة مشعة على العالم الموسيقيّ فلا تُمسي، ككثيراتٍ سواها، من المبدعات الموسيقيات المنسيَّات.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى