لبنان: كيف تسلّلت الأحزاب السياسية إلى الدولة وشفطت خيراتها

بعد اتتهاء الحرب الأهلية في لبنان، تسللت الأحزاب الطائفية في البلاد إلى الدولة، وتغذّت منها واختلست خيراتها، حيث أوصلتها في النهاية إلى الإفلاس.

الثنائي الشيعي: متغلغل في جميع مرافق الدولة…

مهند الحاج علي*

تسبّبت مشاهد القتال في شوارع بيروت يوم 14 تشرين الأول (أكتوبر) بصدمة في جميع أنحاء لبنان وخارجه. لقد ذكّرت الكثير من الناس بالحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في العام 1975. لكن في الواقع، لم يكن القتال عودةً إلى ذلك الوقت.

كان للعنف الأخير هدفٌ سياسيٌّ واضح، وهو عزل القاضي طارق البيطار وإبعاده من التحقيق في انفجار مرفإِ بيروت الذي وقع في 4 آب (أغسطس) 2020. كان البيطار أصدر مذكرة توقيف بحق وزير المالية السابق علي حسن الخليل، أحد كبار مساعدي رئيس مجلس النواب نبيه بري حليف “حزب الله”. كما سعى البيطار إلى استجواب يوسف فنيانوس، وزير الأشغال العامة السابق من حزب “المردة”، وهو أيضاً حليف ل”حزب الله” والرئيس السوري بشار الأسد، وكذلك نهاد المشنوق، السياسي السنّي المُعارض لإيران. في الواقع، إن البيطار يلاحق السياسيين من مختلف الأطياف، ولديه العديد من الأعداء. وفي الوقت نفسه، فإن أولئك الذين يقفون إلى جانبه، وبالتحديد عائلات ضحايا انفجار المرفإ وجماعات المعارضة، لا يتمتّعون بنفوذٍ يُذكر أو بسلطة.

تولّى الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، زمام المبادرة بالنسبة إلى انتقاد البيطار وتحقيقاته، ودعا إلى استبداله. والمظاهرات ضد القاضي التي قام بها أعضاء من “حزب الله” وحركة “أمل” وأعمال العنف التي تلت ذلك في الأسبوع الفائت خدمت هذا الغرض. بالنسبة إلى الكثيرين، ما حدث يُذكّرنا ب7 أيار (مايو) 2008، عندما نشر “حزب الله” وحلفاؤه، بمن فيهم حركة “أمل” والحزب القومي الاجتماعي السوري، مُسَلّحين في بيروت والجبل لإلغاء قرارَين حكوميين اعتبروهما تهديداً. كما مهّد نجاحهم في ذلك الوقت الطريق لحكومة مُنِحَ فيها “حزب الله” وشركاؤه عدداً كافياً من الوزراء للسيطرة على أجندة الحكومة وعرقلة القرارات التي يعارضونها.

اليوم، بعد أكثر من عقد من الزمان، عادت الميليشيات اللبنانية إلى الشوارع. السؤال هو: هل حُلَّت في أي وقت مضى في المقام الأول؟ احتفظت غالبية الميليشيات في زمن الحرب، باستثناء “القوات اللبنانية” المسيحية حتى العام 2005، بالعديد من قدراتها القتالية، وعزّزت شبكات المحسوبية الخاصة بها من خلال شفط واختلاس الأموال من الدولة عبر عملية إعادة الإعمار الفاسدة للغاية في لبنان.

عزّزت فترة ما بعد الحرب في لبنان مركزية الميليشيات في زمن الحرب وأرست أسس حصانتها، وقوّضت أي عملية لبناء المؤسسات الوطنية. لقد ازدهر “حزب الله” وانتعش بأسلحته وشبكته من المؤسسات الحزبية في واقع ما بعد الحرب هذا. يقود الحزب الآن الكفاح من أجل استعادة النظام القديم بعد احتجاجات 2019، سواء من خلال حملته ضد البيطار أو من خلال أخذ زمام المبادرة في قمع ونزع الشرعية عن منظمات المجتمع المدني بدعوى ارتباطها بسفارات أجنبية أو “مؤامرات أميركية مُتَخيَّلة”.

إن فحصَ هذه الميليشيات وشبكاتها في مؤسسات الدولة هو على السواء ذو صلة وفي الوقت المناسب فيما تتفاوض الحكومة اللبنانية المُشَكَّلة حديثاً بشأن خطة إنقاذ مالي مع صندوق النقد الدولي وآخرين. كما في قضية التحقيق في انفجار بيروت، يستخدم السياسيون اللبنانيون لغةً طائفية وتهديدات بالحرب لتجنّب أي محاسبة على الفساد في المؤسسات الحكومية وفي البنك المركزي اللبناني.

لقد أوضحت الدعوات لإجراء تدقيق جنائي لمصرف لبنان المركزي، على سبيل المثال، الديناميكيات المؤثّرة. وقد دعا الرئيس ميشال عون و”التيار الوطني الحر”، الذي أسسه، إلى إجراء مثل هذه المراجعة، ما أثار ردّ فعل قوياً من السياسيين والأحزاب التي لا تريد أن تُعلَن أو تُعرَف أخطاؤها. وهذا يشمل، من بين أطراف أخرى، حركة أمل وتيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري، اللذين طالبا بدورهما بإجراء تدقيق جنائي لوزارة الطاقة، وهي وزارة مشبوهة سيطر عليها “التيار الوطني الحر” منذ أكثر من عقد.

قد يكون التدقيق االكاشف أكثر هو الذي يبحث في الشؤون المالية للأحزاب السياسية المُهَيمنة وشبكاتها في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. في حين أن هذا شبه مستحيل، فإن فهم مثل هذه الشبكات هو أمر ضروري في وقت تكون الإصلاحات اللبنانية على أجندة المجتمع الدولي.

لا يتم تمويل الأحزاب الطائفية اللبنانية المُهَيمِنة، وكثير منها ميليشيات سابقة، بالطريقة نفسها التي يتم فيها تمويل معظم الأحزاب في جميع أنحاء العالم. فهي لا تُمَوَّل من قبل الأعضاء أو من الاعتماد على أنشطة جمع الأموال، كما لا تعتمد على تمويل الأفراد ذوي التفكير المماثل في مجتمع الأعمال. ومع ذلك، فإن هذه المنظمات لديها ما بين مئات عدة وبضعة آلاف من الموظفين بدوامٍ كامل في مختلف المجالات، من مكاتبها الرئيسة والمكاتب الإقليمية إلى المنظمات الكشفية والصحف والجيوش الإلكترونية والمؤسسات التعليمية (والتي في حالة حركة “أمل”، على سبيل المثال، تضم ثلاث مدارس ثانوية)، ومكاتب خدمات، ودوائر صحية، بالإضافة إلى من يتم تجنيده في أجهزتها الأمنية والعسكرية.

ومن الأمثلة على ذلك الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة السياسي الدرزي وليد جنبلاط. وهو يدير، بشكل مباشر وغير مباشر، معهد فرح للمساعدات الاجتماعية، ومستشفى الإيمان، وصحيفة الأنباء، ومصنع سبلين للأسمنت الذي له أيضاً حصة في قطاع الطاقة. كما أن هذه الأحزاب وضعت أعضاء منها مُتفرّغين في البيروقراطية الحكومية. كل هذا يدر عائدات أو يساعد على نشر نفوذ الحزب وشبكة المحسوبية. “حزب الله”، أكبر حزب سياسي في لبنان، هو على نطاق آخر وأوسع. يستفيد من التمويل الخارجي، بشكل رئيس من إيران، ويحتفظ بآلاف المقاتلين المتفرغين بالإضافة إلى الموظفين في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، والعديد من فروع الحزب، والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.

أحزاب سياسية لبنانية، شبكاتها أكبر بكثير من شبكات أحزاب أخرى في حجم لبنان، تغذّت على الدولة اللبنانية. لقد تحوّلت المؤسسات الحكومية في فترة ما بعد الحرب إلى شبكات من الشبكات السياسية، تضخ الأموال في الأحزاب. يخدم موظفو الحكومة أحزابهم بفاعلية وليس الدولة. وقد حققت هذه الأحزاب مكاسب على حساب الحكم الرشيد، ومالية الدولة، والتنمية الاقتصادية، والرفاهية الوطنية.

في الوقت الذي انهار الاقتصاد اللبناني، تكافح المؤسسات الحكومية من أجل البقاء وتستمر معظم الأحزاب الطائفية في الحفاظ على الميليشيات والخدمات الصحية وشبكات الرعاية الاجتماعية والإنسانية. هذا هو السبب في أن أي إصلاح للنظام يجب أن يأخذ في الاعتبار هذا الهيكل المُتمَحور حول الميليشيات. السبيل الوحيد للمضي قُدماً هو المطالبة بأطر مؤسّسية مستقلة في لبنان، خالية من التعيينات السياسية على أسس طائفية. هذا هو جوهر القانون المُقترح الذي قدمته “المُفكّرة القانونية”، وهي منظمة غير حكومية تدعو إلى الإصلاح القانوني، والتي تسعى إلى منع تعيين القضاة من قبل الأحزاب السياسية. ويمكن أن يكون بمثابة أساس لإصلاح عمليات التعيين في مؤسسات الدولة الأخرى.

ومع ذلك، فإن الوصول إلى هذه المرحلة سيكون طويلاً، شاقاً وصعباً. كما أظهرت أحداث الأسبوع الماضي، فإن الأحزاب وميليشياتها كائنات أكبر من الدولة اللبنانية ومؤسساتها المُتعثّرة. ولكي يقف لبنان على قدميه مرة أخرى، فإن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تستمر إلّا من خلال كبح والقضاء على هذه الشبكات الطفيلية.

  • مُهنّد الحاج علي هو مدير الاتصالات وزميل في مركز مالكولم إتش كير كارنيغي للشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MohanadHageAli

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى