على رصيف الطيّونة

راشد فايد*

غابَ عن حَدَثِ االطيّونة، الخميس الفائت، طرفٌ أساسي هو هيبة الدولة، بما فيها القوى المُسلّحة بجميع فروعها، ليس جسدياً، فهذا شأنٌ لم يكن ليخفى على الأعمى، بل غيّب معنوياُ، ليتعزّز الفرز الطائفي، والعصب الديني، خصوصاً أن في الميدان طرفاً لا يُمكنه إلّا أن يكون طائفياً، ولن يستمر إن لم يستقطع لنفسه حيّزاً ديموغرافياً وجغرافياً، مرّةً بالمازوت الإيراني، ومرّات بمرابطي القرى، وهم شبان مولَجون بمراقبة زوّارها، وحتى التحقّق من أهداف زياراتهم، وقد يُطلب منهم أحياناً أن يقفلوا عائدين لأنهم غير مرغوب فيهم.

لم يكن النفس الطائفي عارضاً، فالذين دلفوا من الطيونة إلى عين الرمانة، هم أنفسهم اصحاب “الأيادي البيض” في غزوة بيروت والجبل في 7 أيار 2008، وهم أنفسهم أصحاب الخيم التي أفرغت قلب بيروت من زواره، وأخرجته من يوميات اللبنانيين وحوّلته إلى يباب ولما يزل. ولقد فضح “يوم الطيونة” أكثر من ستر: أوّلاً أن “كلّنا أخوة يجمعنا وطن واحد” هو من “مُتبّلات” التدليس الوطني، ولا يحتل موقعاً مُتقدّماً في دواخلنا، وقد نجح “حزب الله” في فرض نهجه الطائفي – المذهبي على الجميع، بدليل أن صرخة شيعة شيعة حرّكت الغريزة الطائفية لدى الطرف المُواجِه، وفي ذلك ملمح من لوحة الانتخابات النيابية في آذار المقبل، فشد العصب الطائفي هو الدرب الوحيد لعودة الطبقة السياسية الفاسدة نفسها، وهي إن تصارعت وتشاتمت لا تقطع الحبل السرّي الذي يربط بين مصالح اطرافها.

ثانياً، إذا كان تحرك “البيئة الحاضنة” هو لتصويب عمل القضاء، إذا قبلنا الفكرة على مضض، ورأينا فيها همّاً وطنياً(؟؟!) فلماذا شيعة شيعة، ولماذا الأسلحة الثقيلة التي تعهّد السيد حسن، في زمن غابر، ألّا تُستَعمل في الداخل، وهو ما لم يلتزم به لا في الداخل الوطني ولا في الداخل العربي.

الأمر الثالث. لم يعد مُقنعاً الترويج لمقاومة مُتفاهمة مع اسرائيل على حدود الاختلاف، تحت عنوان “قواعد الإشتباك” و”شروط” المواجهة، بحيث يسمح بالقذائف في حيّزٍ معيّن، وبالرصاص في غيره، وفي ذلك حالة سلام واستقرار لا تُبرِّر استمرار ميليشيا الحزب، وقد أكّد حدث الطيّونة أنها ميليشيا، ولم يعد مقبولاً استغباء اللبنانيين، وإفهامهم أن الجيش لا يستطيع حماية البلد من اسرائيل، ووحدها ميليشياتها يمكنها ذلك. فهل اتفاق الهدنة حرام، و”قواعد الاشتباك” حلال؟ أم أن سلاح الميليشيا يُخيف اسرائيل، بينما سلاح الجيش لا يخيفها لأنه أميركي وليس إيرانياً؟

الأمر الرابع، هل يجوز بعد هذا التاريخ الممتد من 7 أيار الشهير إلى الطيّونة، السكوت على جمع الرئيس نبيه بري بين رئاسته السلطة التشريعية، ورئاسته الفعلية والواقعية لـ”حركة أمل”، وشراكة هذه مع ميليشيا الحزب في كل الموبقات والاعتداءات على السلم الأهلي، وهو الذي تعهّد يوم انتخابه رئيسا لمجلس النواب بالإستقالة من رئاسة الميليشيا؟

كل ميليشيا هي تَعارضٌ مع الدولة. أي ميليشيا وأي دولة، وحتى لو ارتدى أفرادها زيّا مُوَحَّداً تحت اسم شرطة مجلس النواب وامتلكوا ملالات، رُغمَ أن القانون العسكري لا يسمح لهم بذلك، ويجمّد مهامهم عند الرصيف المحيط بمجلس النواب، لا أبعد منه. لكن هذه ليست المخالفة الوحيدة لمنطق الدولة التي يحترمها نوابها ورئيسهم.

يبقى مؤكداً أن خميس الطيّونة أطلق أمرين: تأجيج العصب الطائفي، وإسقاط القضاء في حضن السياسة، والدول التي تُسمِعُنا حرصها على الإصلاحات ستُهلّل غداً لإجراء الانتخابات الطائفية المُعلّبة بالتفاهمات.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى