الجزائر بحاجة إلى تحريرٍ ثانٍ … هذه المرّة من حُكّامِها المُسِنِّين

كانت سنوات حكم عبد العزيز بوتفليقة فترة ثراء هائل للجزائر ولكن ليس لمعظم الجزائريين. كان من المفترض أن تكون أرباح آلاف المليارات من الدولارات، التي حقّقتها الدولة من ارتفاع أسعار النفط في حينه، استُثمِرت في البنية التحتية. ولكن إذا سافرتَ إلى البلاد اليوم، فمن الصعب أن ترى أين ذهبت هذه الأموال.

الرئيس الحالي عبد المجيد تبون: تحت رحمة الجيش…

فرانسيسكو سيرانو*

الغيابُ الطويل للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بسبب المرض خلال السنوات الأخيرة من حكمه جعله هدفاً للنكات، وأثار شائعات مُتكرِّرة عن وفاته. لذلك عندما توفي في الواقع في 17 أيلول (سبتمبر) عن عمر يناهز 84 عاماً، بدأت وسائل إعلام جزائرية عدة نعيها بالقول، إن الخبر هذه المرة صحيحٌ.

بوتفليقة، الذي حكم الجزائر على مدى 20 عاماً قبل أن يُجبَرَ على تركِ السلطة بسبب الاحتجاجات الشعبية في العام 2019، خلَّفَ وراءه بلداً في حالة من الفوضى. من المؤكد أنه لا يُمكن أن تُنسَب إليه كل مشاكل الجزائر الحالية. لكن بوتفليقة كان موجوداً في البداية – عندما انقلب مصير دولة نابضة بالحياة ومستقلة حديثاً إلى حكم استبدادي عسكري- وبعد نصف قرن، عندما أدار النظام الناشئ الذي لم يكن قادراً على تحويل الثروة النفطية الجزائرية إلى ازدهار. طوال حياته المهنية، كان بوتفليقة نتاجاً للنظام الحاكم في بلاده ومصدراً لإخفاقاته.

شكّل حكم بوتفليقة الكئيب الضربة القاضية لبذرة الشرعية التي يدّعيها النظام الجزائري الغامض. منذ سقوط بوتفليقة قبل عامين، لم يتمكّن حكام البلاد من إعادة ترسيخ قشرة الاستقرار التي اعتمدوا عليها لتقوية النظام لعقود. ومع خروج جيلٍ جديد من الجزائريين إلى الشوارع – للتشكيك في الوضع الراهن بطرق غير مسبوقة – هناك شيء واحد فقط مؤكد حول مستقبل البلاد: إن إخفاقات عهد بوتفليقة هي التي أوصلتهم إلى هنا.

في العام 1956، عندما كان يبلغ من العمر 19 عاماً فقط، انضم بوتفليقة إلى جيش التحرير الوطني، الفرع المُسَلَّح لجبهة التحرير الوطني (المعروفة باختصارها الفرنسي، FLN)، التي قاتلت ضد الإستعمار الفرنسي. وهناك خلافٌ حول ما إذا كان بوتفليقة أطلق أصلاً رصاصة واحدة ضد المُحتلّين أم لا. لكن هذه البداية المبكرة ربطته بهواري بومدين، الذي قاد القوات الخارجية لجيش التحرير في المغرب وتونس وأخذ بوتفليقة تحت رعايته.

بعد الاستقلال في العام 1962، دخلت قوات بومدين الجزائر وجلبت أحمد بن بلّة، أحد قادة جبهة التحرير الوطني، إلى السلطة كأول رئيس للجزائر. كانت هذه هي اللحظة التأسيسية للنظام غير الليبرالي، الذي قضى على معظم الشخصيات التاريخية في حركة الاستقلال لتأسيس نظام الحزب الواحد بقيادة جبهة التحرير الوطني. أصبحت الأمة المُحَرَّرة من الاستعمار خاضعةً لحكمٍ عسكري على الفور. منذ البداية، كان بوتفليقة جزءاً منه.

في سن الخامسة والعشرين فقط، أصبح بوتفليقة وزيراً للشباب والرياضة في عهد بن بلّة، وبعد عام واحد، تم تعيينه وزيراً للخارجية. في العام 1965، عندما قاد بومدين، الذي كان يشغل آنذاك نائباً للرئيس، انقلاباً ضد بن بلّة، فقد اعتمد على دعم بوتفليقة وولائه.

شغل بوتفليقة منصب وزير الخارجية لمدة 16 عاماً، حتى العام 1979. وخلال ذلك الوقت، عزّز سمعة الجزائر كزعيمة لحركة عدم الانحياز. خلال الستينات والسبعينات من القرن الفائت، أصبحت الجزائر مركزاً للثوار والمُقاتلين من أجل الاستقلال من جميع أنحاء العالم، وصوّرت نفسها على أنها منارةٌ للنضال ضد الاستعمار. في الواقع، كان نظامها استبدادياً، يحكمه رجال انتظروا في الغالب اتنهاء الحرب في الخارج، ثم عند استيلائهم على السلطة بعد عودتهم تخلّوا عن أيِّ التزامٍ بالتعدّدية السياسية.

بعد وفاة بومدين في العام 1978، كان بوتفليقة على وشك أن يصبح خليفته. لكن الجيش اختار مرشحاً آخر هو العقيد الشاذلي بن جديد. بحلول العام 1981، كان بوتفليقة قد تمت ترقيته، واتُهم باختلاس ملايين الدولارات خلال فترة تولّيه منصب وزير الخارجية. سافر إلى الخارج لسنوات عدة، وعاش في المنفى في الإمارات العربية المتحدة وفرنسا وسويسرا، على الأرجح لتجنّب العواقب المحتملة.

بالعودة إلى الجزائر، تصدّع نظام الحكم العسكري للحزب الواحد في البلاد بسبب الأزمة الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي الناتج عنها في نهاية الثمانينات الفائتة. رداً على ذلك، سمح الجنرالات الحاكمون للأحزاب الأخرى بالتنافس في الانتخابات ضد جبهة التحرير الوطني لخلق ما يشبه التعدّدية السياسية. في الواقع، ما زالوا يمسكون بخيوط اللعبة السياسية في البلاد.

ومع ذلك، نظّم الإسلاميون أنفسهم في ظل الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المعروفة باختصارها الفرنسي FIS) في محاولةٍ للوصول إلى السلطة. بعد الأداء الجيد في الانتخابات المحلية في العام 1990، بدا أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ ستفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الجزائرية في العام 1991. خوفاً من ذلك، ألغى الجيش الانتخابات، واندمجت الجزائر في صراعٍ عنيف بين قوات الدولة والمسلحين. خلال عقد من الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك، مات ما بين 150 ألف و 200 ألف جزائري، واختفى آلافٌ آخرون.

مع تلاشي الصراع، احتاج الجنرالات إلى رئيسٍ يُمكنه أن يدّعي على السواء الشرعية من حرب التحرير وأن تقبله الفصائل المختلفة داخل النظام الحاكم. دعوا بوتفليقة. تم انتخابه في العام 1999، بعد انسحاب المرشحين المتنافسين من السباق الرئاسي وسط اتهامات بتزوير الانتخابات.

كانت حيلة مألوفة. منذ الاستقلال، اختارت (“السلطة”) (le pouvoir ) – وهي مجموعة مُبهَمة من جنرالات الجيش، ورؤساء الأجهزة السرية، والسياسيين المُسِنّين – كل رئيس جزائري. في دولةٍ شديدة المركزية، سمح هذا الأمر للجيش بالحفاظ على حكمه بسهولة. لكن بوتفليقة كان يهدف إلى شيء مختلف. قال قبل تأمين المنصب: “لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس”.

كرئيسٍ للجمهورية، كان لبوتفليقة الفضل في إحلال السلام في الجزائر من خلال إضفاء الطابع الرسمي على اتفاقات وقف إطلاق النار بين الجيش والمتمردين، وإصدار عفو شامل لجميع المشاركين في الحرب الأهلية. في الواقع، حاول في الغالب فرض فقدان ذاكرة عام عن ضحايا الحرب الأهلية. في العام 1999، عندما سألت والدة أحد آلاف الجزائريين الذين اخفتهم قوات الأمن خلال الحرب الأهلية عن مصيرهم، أجاب بوتفليقة بسرعة: “المختفون ليسوا في جيبي”. تم نسيان الحرب الأهلية وعنفها الغاشم. وأُخفِيَت المقابر الجماعية التي كانت تظهر أحياناً في جميع أنحاء البلاد.

في عهد بوتفليقة، استُخدِمَت خطورة الحرب الأهلية لتذكير الجزائريين بأن الفوضى تجلب الفوضى. كان هذا، إلى جانب الزيادات السخية في رواتب ضباط الشرطة وغيرهم من موظفي الخدمة المدنية والزيادات في دعم القمح والسكر والحليب، كافياً لتثبيط الاحتجاجات الضخمة في الشوارع خلال الانتفاضات الإقليمية في العام 2011 التي أطاحت العديد من الحكّام العرب.

في العقدين التاليين للاستقلال، اختار النظام الجزائري نموذجاً اقتصادياً قائماً على الدولة، مُكتملاً بخططٍ خمسية وشركات حكومية كبيرة. على الرغم من خصخصة بعض الصناعات في التسعينات الفائتة، إلّا أن الحكومة لم تُقلّل دورها أو تُخفّضه حقاً: سمحت سيطرة الدولة للنظام بإدارة الإيجارات الاقتصادية. في بلد يعتمد بشدة على النفط – اليوم، تمثل عائدات النفط 60 في المئة من موازنة الحكومة الجزائرية و94 في المئة من عائدات التصدير – استُخدِمَت البنوك المملوكة للدولة لتغذية المحسوبية.

خلال فترة حكمه التي استمرت 20 عاماً، قام بوتفليقة بتمكين وإثراء مجموعة من “الأوليغارشية” من خلال وصولها إلى عقود الدولة والحصول عليها، وبالتالي جلب الأموال إلى النظام الحاكم وإنشاء قاعدة دعم خاصة به. أدّت المحسوبية الاقتصادية إلى إضعاف قبضة الجيش على السلطة، لكنها تسبّبت أيضاً في تفشّي الفساد: أصبح الوصول إلى الثروة الهيدروكربونية الجزائرية أكثر اعتماداً على الولاء للنظام.

في أعقاب سكتة دماغية في العام 2013 أصابته بالشلل الجزئي، تدهورت صحة بوتفليقة. أصبح الرئيس الغائب، وهو في الخارج دائماً لتلقّي العلاج الطبي، وكان ضعيفاً بشكل واضح حيث لم يظهر إلّا نادراً في مناسبة.

كانت سنوات حكم بوتفليقة فترة ثراء هائل للجزائر ولكن ليس لمعظم الجزائريين. في نيسان (إبريل) 1999، عندما فاز بوتفليقة بالرئاسة لأول مرة، كان سعر النفط 13 دولاراً للبرميل. لسنواتٍ، استمرت الأسعار في الارتفاع، حيث بلغت ذروتها عند 147 دولاراً للبرميل في صيف العام 2008. خلال ذلك الوقت، كان من المفترض أن يكون تم توجيه أرباح آلاف المليارات من الدولارات التي ربحتها الدولة إلى البنية التحتية. ولكن إذا سافرتَ إلى البلاد اليوم، فمن الصعب أن ترى أين ذهبت هذه الأموال.

بحلول الوقت الذي انهارت فيه أسعار النفط العالمية في العام 2014، لم يتم إصلاح أيّ شيء في الجزائر. كان الاقتصاد لا يزال يعتمد على تصدير النفط والغاز واستيراد كل شيء آخر. تم بناء طرق سريعة جديدة ومشاريع إسكان اجتماعية. لكن الكثير خسر بسبب الفساد وسوء الإدارة من قبل المؤسسة العسكرية والأوليغارشية التي نشأت خلال سنوات بوتفليقة.

في العام 2019، كانت الجزائر تعاني بالفعل من عجز في الموازنة، واحتياطاتها من العملات الأجنبية أخذت تتآكل بسرعة. بالنسبة إلى معظم الجزائريين، لم يكن واضحاً مَن الذي كان يحكم البلاد حقاً. مُنغمساً بشكل لا نهاية له في نزاعات بين فصائل السلطة المختلفة، لم يوافق النظام على خطة خلافة الرئيس المريض. لذلك حاول فرض ولاية خامسة لبوتفليقة على الجزائريين وإبقاء الأمور على ما هي عليه.

دفعت هذه الخطوة ملايين الشباب إلى النزول إلى الشوارع. على عكس أهلهم، لم يعشوا الحرب الأهلية في التسعينات، وبالتالي كانوا مُحَصَّنين ضد ادعاء النظام بأن الاستقرار الاستبدادي هو أفضل ما يمكن أن تأمله الجزائر. على الرغم من حشدها في البداية ضد ولاية خامسة لبوتفليقة، فإن حركة “الحراك” الاحتجاجية غير الحزبية أصبحت منذ ذلك الحين رفضاً واسعاً وسلمياً للاستبداد العسكري الذي حكم البلاد منذ الاستقلال.

عندما أصبحت الشوارع صاخبة للغاية، ضحّى النظام بجزء منه للبقاء على قيد الحياة: في نيسان (أبريل) 2019، قام الجنرال أحمد قايد صالح، الذي عيّنه بوتفليقة كرئيس أركان للجيش قبل سنوات، بإقالة الرئيس من منصبه. أظهر التلفزيون الحكومي صورة لبوتفليقة الضعيف وهو يسلم استقالته إلى رئيس المجلس الدستوري مُرتدياً الجلّابة التقليدية، ويبدو وكأنه شخصٌ انتُزِعَ من فراشه في منتصف الليل.

مع إبعاد بوتفليقة عن الطريق، واصل متظاهرو الحراك مسيرة أسبوعياً. كانوا يعلمون أن الرئيس كان مجرد جزءٍ من نظام أكبر وطالبوا بانتخابات عامة تأسيسية لإصلاح النظام الحاكم – وليس رئيساً آخر يتم اختياره خلف الأبواب المغلقة.

إستمرّ المأزق السياسي لأشهر، حتى فرض الجنرالات انتخابات رئاسية جديدة في أواخر العام 2019. وعلى الرغم من تدنّي الإقبال، فقد أعادوا إحياء شخصية أخرى في النظام لملء منصب الرئيس عبد المجيد تبون، الذي كان يبلغ آنذاك 74 عاماً، وكان وزيراً ورئيساً للوزراء في عهد بوتفليقة. منذ العام 2019، رفض العديد من الجزائريين المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات الرئاسية والتشريعية، متجاهلين محاولات النظام اليائسة لتحقيق الشرعية.

غير قادر على إعادة بناء الشاشة المدنية التي سمحت له بحكم الجزائر من وراء الستار، اعتمد الجيش بدلاً من ذلك على دليل مألوف: وصف المعارضة السياسية بأنها مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد. وألقى باللوم على المغرب في موجة حرائق الصيف التي أودت بحياة العشرات ودمّرت مناطق واسعة في منطقة القبائل ذات الأغلبية البربرية. تسارعت وتيرة اعتقال الصحافيين والنشطاء والمتظاهرين. على الرغم من أن كوفيد-19 والقمع قد قمعا الاحتجاجات في العام 2021، إلّا أن البلاد ما زالت غارقة في السخط الاجتماعي – مما يزيد من احتمالات العودة إلى الاحتجاجات الجماهيرية ورد الفعل العنيف من الدولة.

بعد قضاء معظم فصل الصيف في تقنين المياه، يسأل الجزائريون أنفسهم الآن: كيف لا تستطيع دولة تملك بعض أكبر احتياطات الهيدروكربونات في العالم من جعل مياه الشرب تتدفّق من صنابيرها؟ كما أدّى انخفاض قيمة الدينار إلى زيادة التضخّم ورفع تكلفة المعيشة. وقد انخفضت احتياطات النقد الأجنبي من حوالي 120 مليار دولار في العام 2016 إلى 42 مليار دولار في الربع الأول من العام 2021.

عالقون في نزاعاتهم على السلطة، لم يسمح القادة العسكريون والسياسيون الجزائريون أبداً للبلاد بالاستفادة من ثروتها من الموارد أو موقعها الاستراتيجي في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. وربما تكون هذه أكبر مأساة في عهد بوتفليقة والنظام الذي رسمه: لم يفعل الكثير، رُغم ما يملكه وما لديه من ثروات. لقد أعاق الجنرالات والجواسيس والساسة المُسنّون مثل بوتفليقة تقدم الجزائر لفترة طويلة.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي وكاتب يُغطّي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى