لبنان … “في بيتِنا رجل”!

محمّد قوّاص*

وصلت اهتزازات الصفعة التي وجّهتها صناديق الاقتراع في العراق إلى ميليشيات إيران هناك إلى “حزب الله” في لبنان. إحدى رسائل الانتخابات العراقية الأخيرة تكشف أن مزاج الناخب ما بعد “تشرين” العراق بات مُعادياً للواجهات السياسية التابعة مُباشرة لطهران بما يستشرف أن يفصح مزاج الناخب ما بعد “تشرين” في لبنان عن التحوّل نفسه في الانتخابات النيابية المقبلة في هذا البلد.

على هذا نفهم توق حزب “القوات اللبنانية”  (وقوى سياسية أخرى) إلى إجراء هذه الانتخابات بصفتها الآلية الناجعة والوحيدة المُتاحة لإجراء أيِّ تغييرٍ في منظومة الحكم الراهنة. وعلى هذا نستنتج أن إبعاد الاستحقاق الانتخابي قد يكون خياراً لدى “حزب الله” وحلفائه لتجنّب الخضوع لمفاجآت ليست في موعدها داخل سياق التحوّلات الجارية والمُنتظِرة في كل المنطقة.

وتُمثّل ظاهرة القاضي البيطار ظاهرة مُتقدّمة عن أعراض تغيّر في قواعد اللعبة التي احتكر “حزب الله” التحكّم بمفاصلها منذ انسحاب الوصاية السورية من لبنان. وعلى الرغم من أن البيطار يمثل “حالة” نادرة في معاندة المنظومة السياسية في البلد، إلّا أن الدعم الذي تلقّاه من قبل المؤسسة القضائية اللبنانية (ووزراء من داخل الحكومة لاحقاً) يؤشّر إلى أن ما هو مميّز مختلف لافت في طباع الرجل يُقابل ببيئة مؤسساتية حاضنة قلّما أظهرتها “الدولة العميقة” (إذا جاز التعبير) في لبنان.

فجأة، وبعد عقود على اعتياد اللبنانيين، منذ اتفاق الطائف، على أن أمور البلد دائماً ما كانت مُوَضّبة مُدَبّرة معلّبة داخل غرف عتمة تُمسك بكل جوانب العَقدِ والحلّ، وبعد خضوع العقل اللبناني الجمعي لفكرة الوصاية (السورية ثم الإيرانية) بصفتها قدراً وجب التعامل معه لتيسير وتسيير أمور البلد، يُعاد هذه الأيام اكتشاف السلطة القضائية بصفتها جسماً مستقلاً لا تملك السلطة التنفيذية (حكومة ورئاسة جمهورية) التدخّل في شؤونها.

والمشهد مناقض لمسلّمة انكفاء الدولة لصالح الميليشيا بصفتها “مقاومة” دستورية تحميها البيانات الوزارية. والواقعة، وقبل الوصول إلى قدر الانتخابات، تُمثّل نيلاً من السطوة التي يمارسها “حزب الله” على لبنان بحيث (وكما شهدنا في السنوات الأخيرة) لا رئيس جمهورية يُنتخَب ولا حكومة تُشكّل ولا برلمان يعمل بدون أن يأذن بذلك الحزب، ولا سيرورة لبنانية تبتعد من أجندة طهران وخططها في مقاربة استحقاقاتها الإقليمية والدولية.

لم يكن تَحَرُّكُ “حزب الله” المُفرط ضد التحقيق الذي يُجريه القاضي البيطار بشأن كارثة مرفإِ بيروت ترفاً. شيءٌ ما (ربما اختراق التحقيقات) جعل الحزب وأمينه العام السيّد حسن نصر الله يستنتج بشكل مُتدرّجٍ أن القاضي ليس “عملاً فردياً”، بل هو واجهة مُتقدّمة تأخّر التعرّف عليها واستباقها قبل ذلك. تنهل أصول تلك الواجهة حيثياتها من مخزون محلي بيتي ظهرت أعراضه الصاخبة بانتقاضة “17 تشرين الأول” 2019 وما تلاها، وتستقوي بتقاليد مؤسّساتية لبنانية عتيقة لطالما اعتُبِرَت ساقطة مُتقادمة داخل مستنقع السلطة والفساد والسلاح، وتستند على مناقبية وظيفية قد تنسحب سريعاً على مؤسسات أخرى (العسكرية والأمنية مثلاً) تُعيد تعويم الدولة منطقاً أصيلاً ووحيداً مُقاوماً لوَرَمِ السقوط إلى درك الدويلة.

أعلن نصر الله جهاراً الحرب على رجل واحد بعينه. تحرّكت الثنائية الشيعية من خلال أحد وزرائها في الحكومة مُهدِّداً بأن “تروا ما لم ترونه من قبل” إذا لم يتم التخلص من هذا الرجل بالذات. وزّع جيش إلكتروني رسائل صوتية تُبلغ الأنصار بالجهوزية والاستعداد “لأن الوضع صعب” (لماذا صعب؟!!). رُتِّبت كل عدّة الشغل لتكرار جولات سبق للبلد أن خبر عفنها لإرهاب لبنان واللبنانيين وكل الطبقة السياسية، الحلفاء منهم قبل الخصوم. كل ذلك جرى لإزاحة رجل واحد عن مهمة كُلِّفَ بها بعد أن أزاحت الضغوط سلفاً له.

تنتفخ مخازن “حزب الله” بترسانة استراتيجية من الصواريخ، لا سيما تلك الدقيقة التي تُقلق إسرائيل. هدّد الأمين العام يوماً بطرد القوات الأميركية من الشرق الأوسط. ينشر الحزب ورشاته “الجهادية” في سوريا واليمن والكويت والبحرين، حتى أن أحد قادته يُشرف على تدبير أمر ميليشيات إيران في العراق بالتوازي والتناوب مع الجنرال إسماعيل قآاني. يجلس الحزب على قوة عسكرية استراتيجية يُحسَب لها ألف حساب لدى العواصم ويعتبرها سعد الحريري قدراً إقليمياً دولياً لا قدرة للبنان على معاندته. ومع ذلك يرتجف هذا الحزب من ذاك الرجل بالذات.

في طهران مَن بدأ يتساءل حول حقيقة سيطرة “حزب الله” (الذي تستثمر فيه إيران غالياً) على مقاليد الأمور في البلد. كان الجنرال قاسم سليماني أعلن بعد الانتخابات التشريعية الماضية في العام 2018 أن الحزب يسيطر على 70 في المئة من مجلس النواب في لبنان، فيما أعلن منبر إيراني آخر أن بيروت ساقطة تماماً داخل النفوذ الإيراني مثلها مثل دمشق وبغداد وصنعاء. خُيّلَ لوزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في زيارته الأخيرة إلى لبنان أنه يجول داخل محافظة إيرانية، فيعِدُ بالكهرباء والوقود والدواء والبناء… إلخ. فكيف لرجل واحد أن يقف أمام الفتح الإيراني المُبين.

منذ ولادته قدّم “حزب الله” نفسه مُدافعاً عن الشيعة في لبنان. نهل كثيراً من ثقافة “المحرومية” التي راجت قبل ذلك في صفوف الطائفة ليتقدّم حامياً مُنتصراً لحقوقها. غير أن الحزب بدا في الأيام الأخيرة هو مَن يحتاح إلى الاحتماء بالطائفة والاستقواء بها. ناشدها واستدعى العصبية المذهبية لديها، واستصرخ فيها العزّة للخروج إلى الشارع والزحف لـ “قبع” هذا الرجل. والأرجح أن الجموع التي اندفعت تصدح حناجرها “شيعة شيعة شيعة” لتُرهِب منطقة مسيحية مجاورة لا تعرف ولا حتى تسأل لماذا تخرج ضد هذا الرجل.

بالإمكان توجيه كمّ لا ينتهي من الأسئلة والانتقادات حول الطريقة التي يدير بها القاضي طارق البيطار تحقيقه. استدعى واتّهمَ ولاحقَ مسؤولين سياسيين وأمنيين من دون آخرين. الأمر يفتح في لبنان، بتعقيداته الطائفية وانقساماته السياسية، سجالات حول أجندة القاضي وانتماءاته وخضوعه لسلطة هذا وذاك. وأياً كانت طبيعة مُقاربة القاضي للتحقيق، فإنه لم يوجّه أيّ اتهام ولا حتى إشارة تقترب من حدود “حزب الله”. وقد يكون منطقياً أن يُحذّر نصر الله من استنسابية وسياسوية التحقيق ويهاجم القاضي دفاعاً عن حلفاء للحزب وعاملين داخل منظومة البلد الخاضعة له نالتهم مخالب التحقيق. لكن شيئاً ما يجبر الحزب إلى الذهاب أبعد من ذلك.

لا يمكن، وفق موقف الحزب وزعيمه، إلّا استنتاج تورّط الحزب ودوائر إقليمية حليفة بكارثة مرفإِ بيروت. وفي الأجواء أن المرفأ كان بابا بحريا لإيران نفسها يمر عبره ما لا يمكن تمريره إلى موانئ إيران. سبق لنصر الله أن دعا إلى إقفال الملف وتعويض المُتضرّرين وبالتالي لفلفة القضية تماماً كما تلفلف قضايا أخرى. والظاهر أن اليد التي اغتالت الضابط وسام عيد في قضية اغتيال الحريري من دون مقدمات تأخرت عن التخلص من طارق البيطار وفضحتها تهديدات زعيم الحزب وغضبه. والأرجح أن الحزب الذي خبر التعامل مع كافة التحديات التقليدية التي تفرضها “الصهيونية والامبريالية وقوى الاستكبار” يرتبك في مواجهة رجل واحد.

قد ينجح “حزب الله” مرة أخرى في إجبار منظومة الحكم على إيجاد الوسيلة لـ “تحييد” هذا الرجل صوناً -من جديد- للسلم الأهلي المُهدَّد. وحتى لو جرى ذلك، فإن جولة الطيونة تُضاف إلى تلك قبل ذلك في خلدة وشويا، لتُقيم دليلاً آخر على أن البلد تغيّر وبات الحزب مرفوضاً محشوراً مُنكفئاً داخل بيئة يطمئن لها كلما لفظت تعويذة “شيعة شيعة شيعة”. باختصار بيروت توجه تحية إلى بغداد.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى