كوّةٌ في جدارِ العُزلة

يضطلع الأردن راهناً بدور قيادي في إعادة سوريا إلى كنف الدول العربية، بعد سنوات من اتّباعه سياسة مغايرة.

فيصل المقداد وسامح شكري في الأمم المتحدة: أول لقاء ديبلوماسي سوري-مصري منذ عشر سنين

أرميناك توكماجيان*

تُنبئ وتيرة الاتصالات المُتسارعة بين الأردن وسوريا، بما في ذلك الإتصال الهاتفي غير المسبوق بين الرئيس بشار الأسد والعاهل الأردني الملك عبدالله في 3 تشرين الأول/أكتوبر، بتحوّلٍ مُهمٍّ في سياسة المملكة الهاشمية حيال الشأن السوري. يأتي ذلك على خلفية نأي الولايات المتحدة بنفسها عن شؤون الشرق الأوسط، ويبدو أنه يعكس قناعةً متنامية لدى بعض الدول العربية بأن الحوار مع نظام الأسد أفضل لصون مصالحها من ممارسة الضغوط السياسية عليه أو الانتظار إلى ما لا نهاية أملاً في حدوث تغييرٍ في السلوك السوري.

تغيّرت سياسة الأردن في الملف السوري بعدما استعاد نظام الأسد سيطرته على جنوب سوريا في صيف العام 2018 بمساعدة روسيا. أُنهي التمرّد في الجنوب، وانتهى معه الدعم الذي كانت عمّان تُقدّمه للمتمرّدين. ثم حاول الأردن استئناف علاقاته الاقتصادية مع جارته الشمالية، لكن هذه المحاولات اصطدمت بعوائق عدة أبرزها القرار الذي اتخذته الولايات المتحدة بعزل سوريا سياسياً واقتصادياً، والذي توقّعت من حلفائها، ومنهم الأردن، الامتثال له. ولم تكن لدى الأسد، بدوره، مصلحة في الانفتاح اقتصادياً على عمّان من دون أن يترافق ذلك مع تقاربٍ سياسي.

لكن أموراً كثيرة تغيّرت منذ ذلك الحين. فقد بدا نظام الأسد أنه آمنٌ حتى منتصف العام 2020، حين بدأت سوريا تواجه أزمة إقتصادية عميقة بسبب الإنهيار الإقتصادي في لبنان الذي كان بمثابة رئتها الإقتصادية، وفرض عقوبات عليها بموجب قانون قيصر، والتشريعات التي أقرّتها الولايات المتحدة لمعاقبة نظام الأسد. لكن هذا الأخير لم يتزعزع، ولم يحرّك ساكناً لتسهيل التوصّل إلى حلٍّ سياسي في سوريا.

وفي ضوء تعنّت الأسد وتفاقم المأزق الاقتصادي في سوريا، أصبح سقوط النظام احتمالاً مُمكناً. دفع هذا السيناريو، وما قد يترتب عنه من فوضى في مختلف أنحاء البلاد، دولاً عربية عدة، وعلى رأسها الأردن، إلى تغيير موقفها من دمشق. تستند هذه النظرة الجديدة إلى إقرارٍ ضمني بأن سياسة تغيير النظام في سوريا، أو تغيير سلوكه، لم تحقّق النتائج المنشودة.

لكن التبدّل في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كان السبب الأهم وراء هذا التحوّل. فابتعاد إدارة بايدن عن المنطقة، وإدراج مناطق أخرى في رأس أولوياتها، وتساهلها النسبي تجاه سوريا، وفّرت مجتمعةً سياقاً مؤاتياً لسلوك الأردن مساراً مُغايراً. وقد أبدى الرئيس بايدن أيضاً تساهلاً أكبر إزاء الأولويات الأردنية. وفي هذا الصدد، تحدّث الملك عبدالله الثاني، بعد لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي في واشنطن في تموز/يوليو الماضي، عن تحوّل أساسي في التعاطي مع الملف السوري، وقال في مقابلة  مع قناة سي إن إن: “إن النظام السوري باقٍ […] والدفع باتجاه الحوار بصورة منسّقة أفضل من ترك الأمور على ما هي عليه”.

اتّضح أن انتظار حدوث تغيير جذري في دمشق غير مجدٍ، لا بل بدا أيضاً خياراً خطيراً على ضوء احتمال سقوط النظام. فكما أوضح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في مقابلة أُجريت معه الشهر الفائت: “لا يمكن الاستمرار في مقاربات أثبتت عدم جدواها. نحن في المنطقة مَن يدفع ثمن استمرار الأزمة السورية”.

ما استُخدِمَ سابقاً من مقاربات لم يوفّر حلولاً لأولويات الأردن الأساسية حيال الملف السوري، وهي تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي في جنوب سوريا، وإعادة إحياء العلاقات الاقتصادية، ومكافحة تهريب المخدرات، ومعالجة مسألة وجود قوات إيرانية وأخرى موالية لإيران في المنطقة الحدودية الأردنية-السورية. صحيحٌ أن تطبيع العلاقات بين الأردن ونظام الأسد لن يقدّم حلّاً سحرياً لكل هذه القضايا الشائكة، لكنه يبقى خياراً أفضل للأردنيين لسببٍ واحد على الأقل.

ويتمثّل هذا السبب في أن أهمية انخراط الأردن مع سوريا يُمكن أن تشكّل ورقة ضغط على دمشق لدفعها إلى مراعاة بعض المصالح والمخاوف الأردنية الرئيسة. ويبدو الأسد حريصاً على العودة إلى كنف الدول العربية لاستعادة الشرعية وتمهيد الطريق أمام تطبيع علاقاته مع سائر دول المنطقة، ما قد يفسح بدوره المجال أمام رفع العقوبات الغربية عن سوريا، وربما الحصول على تمويل عربي لإعادة إعمار البلاد.

يُعتبر الأردن على خط المواجهة مع سوريا، لكن الخطوات التي يتّخذها الآن تعكس قراراً عربياً أوسع نطاقاً بإعادة الانخراط مع الأسد، وقناعةً متنامية بأن ذلك قد يعود بفوائد ملموسة. لكن الدول العربية لم تتوصّل إلى موقف موحّد حيال هذه المسألة، إذ صرّح الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أخيراً بأنه لم يلمس حتى الآن وجود توافق عربي حول عودة سوريا إلى الجامعة العربية. مع ذلك، يبدو أن الكفّة ترجح للجهات الداعمة لإعادة إحياء العلاقات مع دمشق، كما بدا جلياً في الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. فقد كانت تلك المرة الأولى منذ عقد من الزمن التي يلتقي فيها عشرة وزراء خارجية عرب، بمن فيهم وزراء خارجية مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والعراق، بوزير الخارجية السوري.

في الواقع، سيشكّل التقارب السوري-الأردني سابقةً تحتذي بها دول عربية أخرى، ناهيك عن دول من خارج المنطقة. ويبقى أن ننتظر لنرى إلى أي مدى سيكون الأسد مُستعدّاً، أو قادراً، على تقديم التنازلات مقابل الحصول على الشرعية وإعادة دمج سوريا في فلك الدول العربية. لكن الأكيد أن النظام السوري تمكّن من فتح كوّةٍ في جدار عزلته السياسية، حين عمد إلى إحياء علاقاته مع الأردن بالتزامن مع قرار الولايات المتحدة أن تشيح بنظرها عن منطقة الشرق الأوسط.

  • أرميناك توكماجيان هو باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركّز أبحاثه على قضايا الحدود والصراع، واللاجئين السوريين، والوسطاء المحليين في سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى