هل هناك ثِقَةٌ ببياناتِ المؤسّساتِ الدولية؟

كابي طبراني*

هل يُمكنُنا الوثوق بالمؤسسات الدولية لتزويدنا بمعلوماتٍ مُحايدة عن حالة العالم؟ هذا السؤال هو في قلب الجدل المُثار حالياً في صندوق النقد والبنك الدوليين. ومن المُحتَمَل أن يُطارِدَ المنظّمات الأخرى متعددة الأطراف في المستقبل أيضاَ.

كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي حالياً، مُتَّهَمة بالضغط على موظفي البنك الدولي، حيث كانت تشغل سابقاً منصباً رفيعاً، لتحسين وضع الصين في الترتيب السنوي لانفتاح الدول على الأعمال التجارية. أعلن البنك منذ ذلك الحين أنه سيتوقّف عن نشر تقرير ممارسة أنشطة الأعمال. وقد دعتها مجلة “ذي إيكونوميست” إلى الاستقالة فوراً من صندوق النقد لحماية مصداقية المؤسّستين.

في كل الأحوال، إنطلقت في العاشر من هذا الشهر الاجتماعات السنوية التي تستغرق أسبوعاً لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، والتي من المتوقع أن يُقرّر خلالها المجلس التنفيذي لصندوق النقد ما إذا كانت جورجيفا ستتنحى جرّاء هذه المزاعم.

ليس لدينا أيّ إطلاع مباشر أو أدلّة على هذه الإتهامات، على الرغم من أننا أشدنا بجورجيفا في الماضي لأدائها كمفوَّضة لشؤون الموازنة والموارد البشرية في الاتحاد الأوروبي. كما رحّبنا بخبرة الاقتصادية البلغارية لشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة في العام 2016. لقد كانت واحدة من النجوم القلائل في الديبلوماسية مُتعدّدة الأطراف في السنوات الأخيرة. سيكون من المُحزن رؤيتها تخرج من المسرح الآن.

بغض النظر عن الحقوق والخطأ في قضية البنك الدولي، فإنها تُسلّط الضوء على تحدٍّ أساسي للمنظمات الدولية بشكلٍ عام. هناك علاقة طويلة الأمد بين مصداقية المعلومات التي تُقدّمها هذه المنظمات ومصداقيتها السياسية الأوسع. إذا بدأ هذا في الانهيار، فسيؤدي ذلك إلى إلحاق ضررٍ جسيم بالمؤسسات الدولية.

منذ إطلاق “عصبة الأمم”، التي سبقت الأمم المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية، قام موظفو الخدمة المدنية الدولية بتجميع ونشر بياناتٍ حول قضايا مُتعدّدة من التدفّقات التجارية إلى التسلّح. وتمنح عملية جمع هذه البيانات القوى الكبيرة والصغيرة أساساً مُشتَرَكاً لمفاوضاتها. كما كتب أحد الإحصائيين الفرنسيين عن الجهود الأوّلية لجمع المعلومات في العام 1921: “مهما كان السؤال المطروح أمام عصبة الأمم، فإن بياناتٍ إحصائية يتمّ جمعها بعناية ومعالجتها بطريقة منهجية، هي ضرورية لإضافة وقودٍ جديد للمناقشات ولتبرير القرارات”.

في القرن الذي تلا، نمت الآليات المُتعدّدة الأطراف لجمعِ كلٍّ من الإحصاءات والأشكال الأخرى لتقصّي الحقائق بشكلٍ كبير. على خطى عصبة الأمم، وضعت الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات بعد العام 1945 معايير مُشتَرَكة لتتبع الاتجاهات الدولية. التوحيد التدريجي لأُطُرِ وطُرُقِ جمع الإحصاءات الوطنية، وفقاً لإحدى الدراسات التي أُجرِيَت حول العملية، كان “أحد أعظم النجاحات التي حققتها منظمة الأمم المتحدة والمجهولة في الغالب”. في حين أن بعض صانعي السياسات والمُحَلّلين قد يرفض المؤسسات الدولية ويعتبرها غير ذات صلة ولا حاجة إليها، فإن كثيرين منهم يستخدمون البيانات التي تُصدِرُها هذه المؤسسات كمسألة طبيعية. إن الخلافَ الحالي حول تقرير ممارسة أنشطة الأعمال يُعتبَرُ مهماً على وجه التحديد لأن رجال الأعمال وصنّاع السياسات الاقتصادية استخدموا نتائج هذا التقرير كدليلٍ لاتخاذِ قراراتٍ استثمارية وإصلاحاتِ السياسات.

في فترةٍ تُواجه فيها فروعٌ عدّة من الديبلوماسية المُتعدّدة الأطراف صعوباتٍ بسبب التوتّرات الدولية المُتصاعدة، يرى بعض موظفي الخدمة المدنية الدولية أن توفير معلوماتٍ مُحايدة يُمثّل مجالاً دائماً للقوّة. هذا هو أحد موضوعات “جدول أعمالنا المُشتَرَك”، وهو تقريرٌ عن مستقبل التعاون مُتعدّد الأطراف أصدره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في الشهر الفائت، والذي يؤكد أن “أحد الأدوار الرئيسة للأمم المتحدة هو أن تكون المنظمة مصدراً موثوقاً للبيانات والأدلّة”. ويدعو التقرير مكاتب الأمم المتحدة والوكالات المشاركة في جمع البيانات إلى مُشارَكَةِ نتائجها بشكل أكثر اتِّساقاً – ونشر تقارير يًسهلُ الوصول إليها.

يقول مسؤولو الأمم المتحدة إن جائحة كوفيد-19 قدّمت مثالاً مُقنعاً على مدى أهمية المعلومات المُحايِدة. استجابةً لموجة المعلومات الخاطئة حول المرض في العام الماضي، أطلقت الأمم المتحدة – بالعمل مع منصّات التواصل الاجتماعي، مثل فايسبوك- سلسلةً من المبادرات لمشاركة المعلومات الصحّية الدقيقة عبر الإنترنت. وتشير التقييمات المستقلة إلى أن الجهود ساعدت على الحدّ من تأثير الروايات والشائعات الكاذبة. كما أشارت مجموعة الأزمات الدولية في تقريرٍ عن الأمم المتحدة في الشهر الفائت، إلى أنه يُمكن للمنظمة تطبيق تقنياتٍ مُماثِلة لمكافحة المعلومات المُضَلِّلة والكاذبة في البلدان المُتضرّرة من النزاعات في المستقبل.

ومع ذلك، سيكون من الصعب على الأمم المتحدة والهيئات العالمية الأخرى أن تعمل كجامعة ومُقَدِّمة للمعلومات المُحايدة إذا بدا أنها تتلاعب ببياناتها الخاصة لتحقيق غاياتٍ سياسية.

واجه مسؤولو المنظمات الدولية دائماً ضغوطاً سياسية لتغيير معلوماتهم وتحليلاتهم لإبقاء بعض الحكومات سعيدة. يُظهرُ كتابٌ حديث عن كارثة تشيرنوبيل النووية، بتفاصيل مؤلمة، كيف قلّلت سلسلة من وكالات الأمم المتحدة من أهمية تداعيات الحادث على الصحة العامة لتجنّب الاشتباكات والخلاف مع السلطات السوفياتية. لقد جعلت تقييماتها المتفائلة من الصعب على الأمم المتحدة جمع الأموال للمتضرّرين من الإشعاع. وفي فضيحة تتكرر حالياً سنوياً في الأمم المتحدة، ضغطت المملكة العربية السعودية مراراً وتكراراً على الأمانة العامة لعدم إدراج قوّاتها التي تُقاتِلُ في اليمن على “قائمة العار” السنوية للمنظمة للدول التي قتلت أو جرحت أطفالاً في زمن الحرب.

كما يشير الجدل الدائر حول معاملة البنك الدولي للصين، فإن تدهور علاقات القوى الكبرى يخلق المزيد من الضغوط على جامعي المعلومات الدوليين. وكنا أشرنا في “أسواق العرب” في العام 2018 : “في فترة التوتّرات المتزايدة في الأمم المتحدة والمنظمات متعددة الأطراف الأخرى، يقضي الديبلوماسيون الكثير من الوقت في جدالٍ حول الحقيقة والأدلّة والوقائع”. في ذلك الوقت، كان الديبلوماسيون الغربيون والروس في مواجهة حول مصداقية تقارير المُحقِّقين الدوليين حول استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا.

في الآونة الأخيرة، اختلفت الصين والولايات المتحدة حول تحقيقات منظمة الصحة العالمية في أصل فيروس كوفيد-19 في مدينة ووهان. يزعم المسؤولون الأميركيون أن بكين فشلت في تزويد منظمة الصحة العالمية بالبيانات التي تحتاجها. في خطابٍ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الفائت، حذّر الرئيس الصيني شي جين بينغ من “المناورات السياسية” بشأن دراسات المرض.

من الواضح أن أنواعَ الخبرات والأدلة المُستَخدَمة في دراسة الأسلحة الكيميائية وتفشّي الأمراض وظروف الاستثمار تختلف اختلافاً كبيراً. ومع ذلك، فإن كل هذه الخلافات تعود إلى السؤال الأساس الذي طرحته في بداية هذا المقال. هل تستطيع الأمم المتحدة والبنك الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى أن تُطَوِّق وتحمي أنشطة جمع المعلومات بشكل كافٍ من منافسة القوى الكبرى للاحتفاظ بالمصداقية مع الحكومات والجمهور؟

للحفاظ على المصداقية، سيحتاج قادة هذه المؤسسات إلى الإظهار بأن الفِرَق والمجموعات التي تجمع البيانات الرئيسة وتنشرها معزولة عن الضغوط السياسية قدر الإمكان. يجب على منظّمات المجتمع المدني أن تُواصل التدقيق في كلٍّ من المنظمات متعدّدة الأطراف والحكومات التي تُموّلها للحفاظ على صدقها وصدقيتها. يجب أن تهدف الولايات المتحدة إلى أن تكون قدوةً للقوى الكبرى الأخرى من خلال الالتزام باحترام استقلالية التقارير الدولية، حتى التقارير التي قد تُحرِجُ واشنطن أو حلفاءها.

في نهاية المطاف، ينبغي أن يكون جمع المعلومات من قبل المؤسسات الدولية عملاً تقنياً مستقلاً ومُملّاًّ. بلا شك، إن إبقاءه على هذا النحو سيكون تحدّياَ كبيراً.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى