الأفكارُ المُسبَقة والأوهامُ حول الحضارة الأميركية في لبنان والعالم العربي

الحضارة الأميركية لا تقوم على القوة العسكرية والإقتصادية، وإنّما على تطور العلوم، والثقافة، والفنون، والأدب وحقوق الإنسان وتصدير الحرية… التي حملتها إلى العالم وأثّرت في مجتمعاته من أجل تقدّم الإنسانية في كل مكان.

تمثال الحرية: عنوان لكل زائر إلى نيويورك

السفير يوسف صدقة*

تتداول غالبية النخبة في لبنان والعالم العربي بعض الافكار المُسبَقة الجامدة حول تاريخ وثقافة وحضارة الولايات المتحدة الاميركية، والتي نالت استقلالها في 4 تموز (يوليو) 1776. وتتضمن هذه السردية أن الحضارة الإنسانية قد وُلِدَت في أوروبا وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط وفي شرقي آسيا. وتُركز السردية على ان الولايات المتحدة الحديثة العهد في التاريخ والاستقلال، والتي يعود تاريخها الى قرنين ونصف من الاستقلال السياسي، لا تحمل الأثر الحضاري المهم الذي أثر في التاريخ العالمي، حيث يعتبرون ان الحضارة تتمثّل في الآثار الباقية والمعابد القديمة والقصور الملكية، والتراث الفكري للمفكرين والفلاسفة والأدباء الغربيين، وان الحضارة الإغريقية والمسيحية والرومانية وغيرها هي أم الحضارات. تُعتَبَرُ هذه المقاربات صحيحة وأساسية، إلّا انها قاصرة عن الإحاطة بالتراث الحضاري العالمي الذي قدّمته الولايات المتحدة في قرنين ونصف من الزمن، وبخاصة في القرن العشرين من حيث التجديد والريادة في العلوم والأدب والفكر والشعر والفلسفة والموسيقى والفن والموسيقى، وهذه مجتمعة أضحت روافد أساسية للتراث العالمي. لن نستعرض في هذا السياق الهيمنة السياسية والعسكرية والإقتصادية للولايات المتحدة في العالم، وهذا خارج نطاق البحث. نستعرض في هذا المجال على سبيل المثال لا الحصر، بعض الأفكار المُسبقة حول الولايات المتحدة: الحضارة الاميركية، اللوبي اللبناني في أميركا، والمدرسة النيوليبرالية الأميركية.

الثقافة الاميركية

تأثرت الثقافة الأميركية بشكلٍ خاص بالثقافة الاوروبية، كما بثقافات عدة أخرى منها: الأفريقية، الآسيوية واللاتينية-الإسبانية الأميركية. ولكن الأهم كانت المسيحية التي تميزت بتأثير حضاري مُعقّد في أميركا شمل مجالات الحضارة كافة، حيث لعبت الديانة المسيحية دوراً رئيساً في تشكيل أسس وسمات الثقافة والحضارة الأميركية خاصة، والغربية عامة. إذ أثرّت المسيحية بشكل كبير في المجتمع ككل بما في ذلك الفنون واللغة والحياة السياسية والقانون وحياة الأسرى والموسيقى. تلوّنت طريقة التفكير الأميركية تحت تأثير المسيحية على مدى أكثر من 250 سنة من تاريخ الولايات المتحدة، كما كانت مصدراً رئيساً للتعليم،  فقد تم تأسيس العديد من المدارس والجامعات في الولايات من قبل الكنيسة، ويشير عدد من الباحثين كذلك إلى دور المسيحية الرائد في رعاية وتطوير العلوم وتقديم الرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية. كما كان لها تأثير واضح في العمارة،  فقد أنتجت كاتدرائيات لا يزال بعضها قائماً بين مآثر وروائع الهندسة المعمارية الأكثر شهرًة في الحضارة الأميركية. والواقع أن دور المسيحية في الحضارة كان متشابكاً بشكلٍ مُعقّد في تاريخ وتشكيل أسس المجتمع الأميركي، وكان جزءٌ كبيرٌ من تاريخ الكنيسة مرتبطاً أولاً بالغرب ومن بعده بأميركا.

تتجلّى خصائص الحضارة الأميركية المميزة الاجتماعية والثقافية في العلوم، الأدب، الموسيقى، السينما والمسرح، الفنون، سلم القيم الاجتماعية، الفولكلور، المطبخ … وذلك في بلدٍ متنوع الأثنيات نجم عن هجراتٍ مختلفة.

رُغم ذلك، فإن الحضارة الأميركية بالنسبة إلى بعض اليساريين هي ثقافة إمبريالية توسّعية، لكن أهل الثقافة الاميركية فيتعبرونها تحمل قيم الحرية والعدالة، وهي قوية التأثير في العالم المعاصر. ففي القرن العشرين بدأت تتوضّح بشكل عملي معالم الثقافة الأميركية، وقد برزت في الإطارين العقائدي والايديولوجي في زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. وقد تطوّر الأمر الى التنافس العسكري والتقني والعلمي والثقافي مع ظهور التلفزيون وتحرير المرأة، ما ساهم في كشف الوجه الثقافي والحضاري لأميركا في العالم الحديث.

ولم تقتصر الثقافة الأميركية على طبقة معيّنة من الشعب فقد أغناها فقراؤها أيضاً. فمثلاً برزت من الأحياء الفقيرة للسود في مدينة نيو أورليانز في لويزيانا وحي هارلم في نيويورك موسيقى جديدة عُرِفت بالجاز.

على الصعيد الفني، برز الفن الانطباعي (Impressionism) في ظل معارضة من الخط المحافظ. وقد ساهمت الدولة الفيدرالية في نشر الثقافة، بين النخبة الثقافية وفي الأحياء الفقيرة، وقد سُجِّل وجود أكثر من 1,700 اوركسترا سمفونية في كافة الولايات الأميركية.

أما على صعيد المعارض فقد تأسست في أميركا أهم معارض ومتاحف في العالم منها: متحف متروبوليتان في نيويورك والمعرض الوطني للفنون في العاصمة واشنطن.

على صعيد المكتبات فتُعتَبَر مكتبة الكونغرس أهم مكتبة في العالم، حيث تضمّ  على رفوفها 30 مليون كتاب، كما يجب أن لا ننسى أن لكل رئيس جمهورية أميركي يترك منصبه يُنشئ مكتبة خاصة تحمل اسمه ويضع فيها ما أنجزه خلال فترة حكمه مع وثائق وكتب تتعلق بتلك الفترة، وتحيي هذه المكتبات بين حين وآخر محاضرات وندوات ثقافية واجتماعية واقتصادية وحتى في بعض الأحيان سياسية.

أما بالنسبة إلى الجامعات فتضم الولايات المتحدة أهم جامعات في العالم من حيث الترتيب وفق “QS TOP UNIVERSITIES” وهي:

  • معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الأول عالمياً)
  • جامعة هارفرد (الثانية عالمياً)
  • جامعة ستانفورد (الثالثة عالمياً مع جامعة كمبريدج البريطانية)
  • معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (الخامس عالمياً)
  • جامعة شيكاغو (العاشرة عالمياً)
  • جامعة برنستون (المرتبة 11 عالمياً)
  • جامعة يال (المرتبة 15 عالمياً)
  • جامعة جونز هوبكنز (المرتبة 16 عالمياً)
  • جامعة كورنيل (المرتبة 17 عالمياً)
  • جامعة بنسلفانيا (مرتبة 18 عالمياً)

تجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة قد فازت بأكثر من 380 جائزة نوبل في جميع الحقول من جائزة السلام إلى الفيزياء، الطب، الكيمياء، الأدب، والإقتصاد، والدولة التي تأتي بعدها في هذا المجال هي بريطانيا مع أكثر من 135 جائزة نوبل.

سنذكر في هذا السياق أهم الكتّاب والشعراء الاميركيين والذين أثروا في عطاءاتهم في العالم المعاصر وهم على سبيل المثال لا الحصر: أرنِست همنغواي، إدغار ألن بو، جون ستيباك، ف. سكوت فيتزجيرالد، وليم فولكنر، إدوار سعيد (فلسطيني الأصل)، هيرمان ميلفيل، إيميلي ديكنسون، روبرت فوست، وِيت ويتمان، تينيسي وليامز، هاربر لي، جاك لندن، أرثر ميلر …

اما في الفكر السياسي ففقد تصدرت أميركا العالم بمفكريها الرواد ومنهم هنري كسينجر، صاموئيل هنتنغتون وفرنسيس فوكوياما …

في الموسيقى والسينما  برز كثر بينهم إلفيس بريسلي، مايكل جاكسون، مارلين مونرو، فرنك سيناترا، لويس أرمسترونغ، مارلون براندو، روبيرت دونيرو، آل باتشينو، كلارك غيبل، دين مارتن ….

وتعتبر هوليود أهم مدينة لانتاج افلام السينما في العالم، فربع الإنتاج العالمي من الافلام هو انتاج أميركي، وقد وصل في القرن العشرين إلى500,000 فيلم انتجت منها أميركا 167,000 فيلم. في المحصلة تنتج الولايات المتحدة في حدود 175,000 فيلم سينمائي وتلفزيوني خلال العام.

اما الإنترنت فهي اختراعٌ أميركي بدأ العمل به في وزارة الدفاع (البنتاغون) لكي يُستخدَم بين الجيوش الأميركية، ومن ثمّ ارتأت الإدارة الأميركية نشره للاستفادة منه في جميع أنحاء العالم. كما ان الفايسبوك والانستغرام وتويتر و”لينكد إن” الأميركية تُعتبر أهم تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي في العالم.

اللوبي اللبناني في الولايات المتحدة

يتصدّر الحديث في لبنان عن قوة اللوبي اللبناني في الولايات المتحدة، وصلاته الواسعة وتأثيره في الادارة الأميركية، ولا سيما في الكونغرس وفي مجلس الأمن القومي والخارجية الاميركية ووكالة المخابرات المركزية. إلّا أن الوقائع تشير إلى النقيض وإلى ضعف تأثير اللوبي اللبناني في الادارة الاميركية، رُغم النوايا الطيبة والاندفاع لبعض المؤسسات التابعة للجالية اللبنانية.

يعود أسباب التأثير الضعيف الى الموازنات المتواضعة للوبيات اللبنانية مُقارنةً باللوبيات الأخرى كاللوبي اليهودي او اليوناني أو الأرمني وغيرها. بالإضافة إلى أن الانقسام السياسي الحاد  في لبنان ينعكس على الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة.

سنعرض في هذا السياق أهم المؤسسات اللبنانية في أميركا على سبيل المثال لا الحصر:

  • فريق العمل الأميركي من أجل لبنان (ATEL) وهو يضمّ مجموعة بارزة من المنتشرين اللبنانيين في مختلف الولايات الاميركية ومقرّه واشنطن. يديره السفير إدوار غبريال، والذي عمل سفيراً للولايات المتحدة في الغرب ( 1997-2001) في عهد الرئيس بيل كلينتون. يعمل الفريق على تعزيز التواصل بين لبنان والولايات المتحدة، ودعم الجيش اللبناني، وتنفيذ مقررات دولية تتعلّق بلبنان…
  • “أميركان تاسك فورس” (AMERICAN TASK FORCE) وهي مؤسسة أسسها نجاد عصام فارس، وقد عملت في واشنطن في فترة التسعينات الفائتة بفعالية مع الادارة الاميركية لنصرة القضايا اللبنانية.
  • منظمة الدفاع عن المسيحيين (IDC) يرأسها توفيق بعقليني. تقيم هذه المنظمة مؤتمراً سنوياً، تدعو فيه شخصيات من الكونغرس وبعض الشخصيات اللبنانية. وهي تهدف الى الدفاع عن حقوق المسيحيين في لبنان والعالم العربي، وتدعم الخطّ السيادي في لبنان، وهي تنشط في التواصل مع الكونغرس والرئاسة الاميركية…

على صعيد آخر، هناك شخصيات أخرى لها حضور مميز على الساحة الاميركية ومنها البروفسور فيليب سالم الناشط السياسي في دعم لبنان. وقد أرسل أخيراً رسالة الى لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الاميركي، يطالب فيها بخطّة مارشال لبنانية، وضمان سيادة واستقلال لبنان، ضمن آلية دولية بإشراف الامم المتحدة وضمان حياد لبنان الفاعل من قبل مجلس الأمن.

النيوليبرالية

ذكرنا آنفاً عن اسهامات الولايات المتحدة في الحضارة الانسانية في مختلف المجالات، إلّا انها أسهمت في نشر النيوليبرالية الاقتصادية منذ الخمسينات الفائتة. وقد اعتبرتها الدواء الناجح والحلّ السحري لاقتصادات الدول النامية. إن هذه السردية هي أسطورة رسّخت في فكر عدد كبير من النخبة في دول العالم الثالث، غير ان تبنّي هذه المقاربة أدّى الى إنهيار اقتصادات عدد كبير من دول العالم الثالث.

فالنيوليبرالية تشير الى مرحلة من تطور الرأسمالية الغربية، بدأت مع صعود اليمين المحافظ في بريطانيا بقيادة مارغريت تاتشر في العام 1979. وفي الولايات المتحدة في العام 1981، في عهد الرئيس الاميركي رونالد ريغان. وقد أتت فكرة النيوليبرالية نتيجة تراجع الفكر التنموي في دول العالم الثالث، الذي بدأ في الخمسينات وانهياره في السبعينات من القرن الفائت، كما ذكر الدكتور كمال ديب في كتابه “رفيق الحريري، إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان 1990-2005”.

والنيوليبرالية هي عقيدة فكرية متكاملة تشمل الاقتصاد والسياسة ونمط العيش، وتدّعي انها حفيدة الفكر الليبرالي بحجّة أنها  تدعو الى حرية اقتصادية مطلقة. وتحت شعار تحرير الاقتصاد، فإنها تدعو الى الخصخصة – بيع املاك الدولة، فتح الاسواق، خفض الانفاق الحكومي، وقف البرامج الاجتماعية …

وصف نقّاد النيوليبرالية الأميركيون بأنها ابنة النظام الرأسمالي الدولي، والذي يدعو الى الحلول محل اقتصادات التنمية في دول العالم الثالث. وقد ظهر هذا النظام الرأسمالي في العام 1981 باسم  “تفاهم واشنطن” (Washington consensus). وقد أصبح هذا التفاهم إيديولوجية اميركية وغربية جعلت الحرية الوهمية مبدأ مقدّساً الى درجة يصبح فيها دور الدولة في الاقتصاد وفي المجتمع دوراً مُهمّشاً .

وقد أصبحت النيوليبرالية آخر تجليات الرأسمالية وقد وصفها العالم الاقتصادي الاميركي فرنسيس فوكس بيفن بأنها “رأسمالية مفرطة”  (Hypercapitalism) .

اما البروفسور جوزف ستيغلتز (Joseph Stegltz) فاعتبر ان الولايات المتحدة هي آخر من يطبّق الليبرالية على نفسها، وهي حسب قوله تقود الحرب على دول العالم الثالث بقبول انفتاح  اقتصادي غير مدروس بإسم الحرية الاقتصادية.

يبقى القول أنه مهما يكن، فإن الحضارة الأميركية، بعيداً من الصراعات السياسية التي ليست نقطة بحثنا، صارت جزءاً من الحضارة العالمية التي طورت الإنسان في كل مكان وعلى كل الصعد، وهي في طريقها لإيصاله إلى عالم الفضاء.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى