المُتَجادِلون

رشيد درباس*

كلمات، كلمات، كلمات (شكسبير)

مُنذُ فجرِ التاريخ كانت للجدلِ أدوارٌ مُتعَدِّدة ومُتناقِضة، فتطوّرُ البشرية وليدُ جدلِ العناصر، تنازعاً فائتلافاً، وصقيعًا فناراً. ومسارُ الحياة قائمٌ على الاختلالِ والتوازن، فالفيضانُ يَغرَقُ ويُحيي، والشمسُ دفءٌ واحتراق، وجدل الفلاسفة لمَّا يزلْ يتراوح بين التهافت والتنوير؛ وعلى شبهِ قوانين الطبيعة “كان الإنسان أكثر شيء جدلاً” كما في سورة الكهف. لكن الجدل الذي يظلُّ يدور دائمًا حول محوره، مُتْلِفٌ للطاقة والابتكار، ووسيلةُ  الخصوم لحرف أنظار الفريق الآخر عن جوهر القضية.
ولبنان، منذ مئة عام، خريطة مثالية ناتجة عن جدلٍ كان سليماً فصار عقيماً ومُستَفحِلاً يلتهم العقود والأجيال، ويُصَحِّرُ الأخضر، ويُجفّف الينابيع في أعمق صخورها، ويجعل النهر الفرات مجرى تدفّقِ سموم تتسرّب إلى مسام الخضار والأشجار فتحوّلها قنابل زمنية تنفجر أمراضاً وعِللاً مُستدامة في الأبدان. ولو أردنا أن نَجِدَ مُرادفاً مناسباً لتعبير “مواطنون لبنانيون” لكانَ “مجادلون لبنانيون” الأقربَ إلى الصحة لأننا لم نزلْ نُجادل في ما إذا كان لبنان وطناً نهائيًّا أم مشروعاً واهماً يبحث عن النقاء مُتنصّلاً من أحمال “زادت ديموغرافيتها عن الحد”. وما زلنا على جدل فيما إذا كنا دولة مُسانِدة أو دولةً وحيدةً للمواجهة. ونحن أيضاً على جدلٍ مُمِلٍّ حول القضاء: يَتَفَقَّهُ المُتفقّهون، ويتوغل الباحثون، ويصيح الصائحون أن اتركوا الأمر للقضاء فهو سلطة مُستقلة فيُجبيهم صائحون من قاطع آخر بأنه غارقٌ في السياسة ومستتبع لها، وعلينا أن نذهب إلى تحقيق دولي؛ وفي هذا الخضم تضيع الحقيقة لأن الجدليين على اختلافهم يخشونها ويكرهونها، فيُجرّدون القضاء من استقلاليته وأبسط مُستلزماته ثم يجعلونه مشجبَ أوزارٍ يعلقون عليه تنصّلهم وتهرّبهم.
لقد سلختُ من عمري خمسًا وخمسين في رحاب المحاماة ، صادقتُ خلالَها قضاة من مختلف الأعمار والمناطق نزلوا من نفسي منزلة الأخوَّة، بعضهم تقاعد، وبعضهم مضى؛ وكنا نلحظ معاً شذوذاً من هنا، ونفوذاً من هناك، لكن موجب التحفّظ بقي سيّد تصرّفاتهم إلى درجة أن قاضياً شاعراً لم يتلُ علينا شعره في جلسة إخوانية  حتى أذنَ له الرئيس الأول الذي كان بيننا.
وأنا ما زلتُ، كلّما نظرتُ إلى جدارٍ أَوَتْ إليه صور الرؤساء القضائيين السابقين، تلبّستني رهبةٌ أمام مَن عرفتهم، ومهابةٌ أمام مَن لم أعرفهم، لأن ثيابهم المُزركشة المُلوَّنة كانت تتزيَّن برصانتهم ووقارهم وحنكتهم وحزمهم.
أعترفُ الآن بأنني أكادُ أنكر ما تراه عيناي من فوضى قضائية ومن “عكاظية” قانونية ومن امتهانٍ للعدالة واجتراء عليها، حتى انتقلت التحقيقاتُ والمحاكماتُ من هيبة الأقواس إلى ضلالة الشاشات، ومن اتّزان النصوص إلى عشوائية الهتافات، فتعسّف المتعسّفون على اختلاف مشاربهم، ونصبوا للقاضي فخًّا من التعظيم والتبجيل يُحمِّله ما لا طاقة دستورية له عليه، لأنَّ تغيير النظام ليس منوطاً بالجسم القضائي؛ كما نصبوا له من جهة أخرى منابر تُشكّك بأدائه وتُلْبِسُه التهم وتهدده بالاقتلاع، وفي هذا تتجلّى صورة الجدل كما وردت في القرآن الكريم: “وإن الشياطين يوحون لأوليائهم ليجادلوكم” (سورة الأنعام) والشياطين هنا بشر يتولَّون أَزِمَّتَنا ويفتتون دولتنا ومؤسساتها، وينفخون في نار الطائفية، لكي تصدق عندهم مقولة جهنّم.
في سنواتِ مهنتي عاقرتُ مئاتٍ من المؤلفاتِ والأحكام، وكتبتُ في القانون كمُحترِفٍ يبحث عن مصالح موكّليه، لكنني لم أنشر يوماً بحثاً فقهيًّا حتى لا أتعدّى على مقام الفقهاء، فما بال كثيرين اليوم بيننا يكيلون “الفتاوى” على وزنِ الطلبات؟ وما بال سياسيين عندنا يتمضمضون بالمفردات القانونية كطفلٍ بحبّة لبان (علكة)؟ وتذهب الأمور إلى أبعد، حين ينبري أحدهم، ويتبعه آحادُهم،  لتفسير معنى حرف (اللام) في كلمةٍ “لمجلس النواب” الواردة في المادة 70 من الدستور فَيَعُدُّها لام التخيير، فيما أهل اللغة يقولون إنها لام التخصيص مُستشهدين بمقولة “للَّه  الأمر من قبل ومن بعد”، ليتجدّد الجدل بعد ذلك بين مَن ينسبون أنفسهم “لسيبَوَيْه” ومَن هم من مُريدي “نَفْطَوَيه”، العالم اللغوي الذي لا علاقة له بتلوّث النفط ومهازل الطاقة.
لقد أُدْخِلَت جناية انفجار المرفإِ إلى دوّامةٍ مقصودة، ابتكرها النظام على جَرْي عادته في التنصّل والتهرّب، لأن تلك الجريمة النكراء ما كان لها أن تكون لو أن مسؤولًا – أيَّ مسؤول – استعملَ منصبه أو لقبه أو”مونته”، وأمر الإطفائية برشّ الماء على النترات إطفاءً لآثارها التفجيرية، أو أن خبيرًا – أيّ خبير- نبّه إلى ضرورة تجنيبها الحرارة المُرتفعة، لأنها مهما كانت نسبة الأزوت فيها، لا تنفجر إلّا عند درجة المئتين على قول العارفين؛ لكن المُحزن أن منظومةً ما، في مكانٍ ما، تستثمرُ في مشاعر اللبنانيين وأهالي الضحايا على وجهٍ أخص، وتُحرّضُ الشارع بصورةٍ مُستدامة، وتؤشّر على “مجرمين” افتراضيين وتُدينهم قبل الأوان، فتطمس بهذا حقيقةَ أن جريمةَ المرفإِ قتلٌ عمدي تنطبق عليه المادة 549 عقوبات المُفضية إلى الإعدام، لأنّ كل الذين عطلوا الدولة ومؤسساتها، ونخروا عظامها، كانوا يعلمون أن الدمار العامَّ سيكون إحدى النتائج الكارثية لممارساتِهم، كمثل مَن يقطع الطريق على سيارة إسعاف فينزف المريض حتى الموت، أو مَن يُشعِلُ شمعةً بطيئةَ الذوبان قرب برميل من البارود فينفجر، أو مَن يترك الدفاع المدني بلا عتاد فيحترق لبنان بغاباته، أو يهمل مُعالجة الليطاني فتجري روافده سموماً في عروق الناس. كل ذلك في ظلِّ حملةٍ تحريضيةٍ جعلت أشتاتَ أهل السياسة المُتفارقين منضوين في خضوعهم لما يُسمَّى (la dictature de l’emotion) “ديكتاتورية العواطف”، على ما أشارت لي قاضية صديقة جزيلة الاحترام، بعد أن ذكّرني إعلاميّ كبير كيف أساءت اللهفة والعشوائية، التي مارسها الإعلام بُعَيْد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، إلى الأدلّة الصلبة التي دفع “الوسامان” حياتيهما ثمناً لها، وذلك من خلال افتعال قرائن غلبت عليها السذاجة وانعدام الاحتراف، بما كان له تأثيرٌ ملموسٌ على حكم المحكمة الدولية الخاصة.
ربما أطلّت في هذا الموضوع، لكنها مُناسَبة لألفتُ القراء إلى ضرورة مشاهدة فيلم قديم اسمه (z) “زد” بطولة “إيف مونتان” و” جان لوي ترينتينيان”، يروي حكاية مُعارض يوناني قُتِلَ أثناء ذهابه سيراً للاشتراك في مهرجانٍ سياسي إبان حكم الانقلابيين. فتعيّنَ قاضي تحقيق كان يرفض أن يستعملَ الشهود أمامه لفظة جريمة، ويصرّ على أنه “حادثٌ حتى الآن”، وكان يأبى أن ينادي المُستمَع إليهم بالمُدَّعى عليهم، حتى استنفد الوسائل التي يتيحها القانون فختم التحقيق، واستدعى الجنرالات الذين زعموا أن وفاة المُعارض نجمت عن حادثِ سَير، فنَسَبَ إليهم تهمة قتل المعارض مع سبق الإصرار بعدما تأكّد له أنه قُتِلَ مضروبًا على رأسه بالهراوات على أيدي مجموعةٍ من البلطجية المُستأجَرين. هكذا بهدوء وأناة كانت النتيجة الواضحة عنده بنت التحقيق… لا بنت اللهفة.
قال الفيلسوف الألماني “هيغل” بالجدلية، واعتبر الديالكتيك وسيلة المناقشة والتعليل والتفسير للأسئلة وقانوناً للمنطق، فجاء من بعده ألماني آخر هو “كارل ماركس”، فأخذ عنه الفكرة وحوّلها إلى أساس فلسفته أي المادية الديالكتيكة (المادية الجدلية)، معتبراً أن هيغل المثالي، جعل قانونه المهم يسير على رأسه، فقلبه هو ليمشي على قدميه. أما ديالكتيك السياسة اللبنانية فلا ينتمي إلى “هيغل” أو “ماركس”، لأنه حالة تدميرية تنتاب المجموعات قبيل أفولها أو زوالها، وإلّا فما معنى “ديالكتيك” الحكومات التي يمتنع عليها التصويت في مجلس الوزراء، وما معنى الثلث المُعطِّل الظاهر أو الخفي، وما تفسير ديالتكتيك الصلاحيات التي رتّبها الدستور ضمانة لحسن سير الدولة ومصالح المواطنين، فعُومِلت كأنها أملاكٌ خاصة لهذه الطائفة أو تلك؛ حتى إذا حاث الحيث هُرِعَ القوم إلى “واإسلاماه” أو  “وامسيحيّتاه” وجُلُّهم ليسوا من أهل الورع، لأنهم لا يتورّعون عن التمثيل بجثّة الخريطة اللبنانية تحت دعاوى الفيدرالية والتنصّل من عبءِ “الآخر”، من غير أن يتبصّروا أن  ذلك المنحى لن يترك طائفة ناجية من جحيمه. فهل كُتِبت علينا لعنة الاستثمار في الكوارث، لا  للاعتبار واستنباط المعالجة، بل “لتدعيش” بعضنا بعضًا، “وداعش” أصلًا ما لها بيننا أرض صالحة؟ فإذا كانت الطائفة السنّية مجموعة تجّار لا ينظمون الزجل، كما قال أحد الفصحاء، فالتاجرُ يحتاج إلى استقرارٍ لأمانه ومدى حيوي لتجارته ومناخ ثقافي لرفاهه، وإذا كان المسيحيون من مقلع الصخور، فلبنان صخرة مُعلّقة بحروفِ قدموس زجلاً وشعراً، وإن كان الشيعة أهل استشهاد، فلا وطن بغير شهداء، أما الموحّدون الدروز، فهم العُقَّال، وَحَسْبُهُم بهذا لقباً، وحسب لبنان أنه خلاصة هذا كله.
إن جدل “التدعيش والتفحيش والتطفيش” بغيرِ علمٍ ولا هُدى ولا كتاب، غرضه الخروج عن النص وتضييع الأصل، فيما كتابُ الدستور يضع لنا القواعد الواضحة لكي “نتجادل بالتي هي أحسن”، لأن الجدل بالتي هي أسوأ، إن هو إلّا لَغْط كلامي  بين ألْسِنَةٍ محلّية، في خدمة حناجر غير محلّية لا ترى في لبنان إلا مُكَبِّرَ صوتٍ، وساحةَ سِجال.

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى