“الكوميديا البشرية” في الذكرى 180 لانطلاقها

26 مجلَّدًا وآلاف الصفحات

هنري زغيب*

بعد مقالي الأُسبوع الماضي في جُزءين عن دانتِه (في الذكرى 700 لغيابه) وعن رائعته الخالدة “الكوميديا الإِلهية”، وما كان منها ومن ظروف تأْليفها، طبيعيٌّ أَن يكون التالي عن “الكوميديا البشرية” للروائي الفرنسي هُونُوريه دو بَلْزاك (1799-1850) في الذكرى 180 (1841 – 2021) لإِطلاقه مجموعتَه الضخمة بهذا الاسم.

50 سنة…90 كتابًا

في الأَول من حزيران/يونيو 1841 كتب بَلْزاك: “من اليوم ولشهر كامل، سيكون لي أَن أُصحِّح، ثلاث مرات على الأَقل، نحو 500 ورقة منفصلة حجمًا صغيرًا، هي نصوص مجموعة مؤَلفاتي التي ستصدر تباعًا وسَمَّيتُها “الكوميديا البشرية”.

تلك “المجموعة” هي من نحو 90 كتابًا (70 رواية و20 قصة قصيرة ومتوسطة) يتراوح نمطها الأَدبي بين الواقعية والرومنطيقية والساخرة والفلسفية، كتبها بَلْزاك بين 1829 و1841.

إِلى هذه المجموعة الضخمة، تضاف ما لم يصدر ضمن “الكوميديا البشرية”: روايات مبكرة للكاتب، وما نشره قبل 1829 بأَسماء مستعارة، كما لا تشمل المقالات الصحافية ولا المحاولات الأُولى الشعرية والمسرحية.

بَلْزاك على فراش الموت

نماذج وشخصيات

في “الكوميديا البشرية” نظام تأْليفي شبيه بنظام الطبيعة، وضعه الكاتب في ثلاثة أَقسام:

  1. دراسة العادات والتقاليد (وهي المجموعة الأَبرز): تشمل ستة أَجزاء من الروايات التي تتمسرح في الحياة الشخصية (“الأَب غوريو”)، وحياة المدينة (“أُوجيني غرانديه”) والحياة الپاريسية (“النسيب پون”) ومشاهد من الحياة السياسية والعسكرية (“الكولونيل شابير”) والريفية.
  2. الدراسات الفلسفية لشرح مسببات وظروف الحياة الاجتماعية، وخصوصًا تلك الطاقة الشاملة التي تطلَّبُها تفكير الإِنسان. من هنا قول الكاتب: “على المجتمع أَن يحمل في ذاته مبرر ظواهره”. فهو يرى أَن إِعمال الفكر يستهلك المخزون الحيوي لكل فرد، ومزاولة الولع العاطفي يؤَدي به حتمًا إِلى الموت. وهو ما ظهر في مصير أَكثر من بطل في رواياته، إِذ درس كلَّ من تنطبق عليه قاعدة هذا المبدأ، من أَحقر التصرفات إِلى أَسماها.
  3. الدراسات التحليلية التي توسع مبادئَ نظريةً تنتشر في الحياة الاجتماعية.

برغم هذه المجموعة الضخمة، لم يتمكن بَلْزاك من بسْط فكرته كاملةً. ففي الدراسات التحليلية، مثلًا، لا يحلل ظروف الزواج ولا مآسي الحياة الزوجية. ومشاهد الحياة العسكرية لا تشمل سوى نصين فيما الكاتب وعد بنحو 25 نصًّا. والحياة الريفية لا تظهر إِلَّا لُمامًا في نص “الفلاحين”، فيما حياتهم كانت تشمل معظم الفرنسيين في القرن التاسع عشر.

مكتبة پاريسية خاصة بــ”الكوميديا البشرية”

أَنماط الحياة في “الكوميديا”

لا يتَّبع الكاتب في رواياته نمطًا متسلسلًا أَو متصاعدًا بين رواية أُخرى. فبينما رواية “الزنبقة في الوادي” تتأَرجح بين حياة المدينة والحياة الريفية، نجد رواية “سيزار بيروتُّو” (المفترض أَنها فلسفية) غارقة في المشهد الپاريسي. من هنا لا يمكن البحث في تواتُر روايات بَلْزاك عن تسلسل زمنيّ، لأَن بَلْزاك، مع كل طبعة جديدة، كان يعدِّل حتى في أَسماء أبطاله وفي مزاج معظمهم. من هنا يجب أَخذ أَعماله إِفراديًا دون النظر إِلى ما سبق الرواية أَو ما صدر بعدها.

وهذا ناجم عن طبيعة الكاتب وقلقه الدائم في حياته الشخصية. فهو، طوال حياته القصيرة (51 سنة)، سعى إِلى الثروة التي كانت تفرُّ منه وهو منها على خطوات قليلة. لذا أَرهق أَعصابه وجسمه وفكره في سباق محموم مع الكتابة فأَنتج الكثير الـمُذهل لكنه لم يحصد سوى سراب ما كان يتمنَّى.

رأْس بَلْزاك بإِزميل رودان

أُسلوبه الواقعي الحادّ

ما يتمنّاه، كان أَن يكتب تاريخ المجتمع الفرنسي بين 1830 و1843. وبالفعل، نجد في رواياته نماذج من جميع الطبقات الاجتماعية. لكن رواياته تجاوزت تلك المرحلة الزمنية المحددة، إِلى أُسلوب واقعيٍّ حادٍّ رسم شخصية الإِنسان في جميع حالاته: شغفًا، ولَعًا، ولَهًا، طموحات، إحباطات، … من هنا أَنه تربَّع على عرش الكلاسيكية وتكرَّس رائد الرواية المعاصرة.

صحيح أَنه استخدم عبارات كانت نابية في زمانها، لكنه غزير الإِنتاج على دقة في الملاحظة والاستنباط حتى أن في رواياته وقصصه نحو 2000 شخصية عالجها في دقة عجيبة، كأَنه لا يكتب إِلَّا عن كل واحدة منها.

وعبثًا يبحث الدارسون اليوم عن عِبَر اجتماعية أَو أَخلاقية. همُّه كان أَن يوجد حياة نابضةً في مجتمع تتآكله المحرَّمات السياسية والدينية، وأَن “يرسم” نماذج مجتمعه كما هي (من هنا طابع أَدبه الواقعي)، وأَن يُعيد افتراضيًّا خلق ذاك المجتمع من زوايا خفية لا تظهر حتى لأَبناء ذاك المجتمع.

هكذا رمى إِلى تحليل الواقع الاجتماعي والطبيعة البشرية بجميع تعقيداتها وتنوُّعها وتقاليدها وعاداتها وطموحاتها وشرورها. لذا نجح في وصف الواقع كما هو، وخلَّده في روايته وقصصه القصيرة.

كأَنه عاش عمرين

عجيب أَمرُه هذا البَلْزاك: عاش 51 سنة فقط، وأَنتج كَمَن عاش عُمْرَين.

إِنها العبقرية الخلَّاقة: لا تُنْبِت الحياة سوى نماذجَ منها قليلة، تَمرُّ عابرة في العمر لكنها تترك بعدها بصماتٍ إِبداعيةً لا تمحوها حتى الحياة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى