الأهمّيَةُ الرَمزِيَةُ لسيطرةِ الأسد على جنوبِ سوريا

الثورة في سوريا بدأت في درعا ويبدو أنها ستنتهي هناك، لذا فإن عودة الجيش السوري للسيطرة عليها وعلى منطقة حوران لها أهمية رمزية.

درعا البلد: سقوطها مروِّعٌ بالنسبة إلى المتمرّدين والثورة السورية.

محمد الحلبي*

خلال الجزء الأكبر من الحرب الأهلية السورية، كانت مدينة درعا الجنوبية ومنطقة سهل حوران المحيطة بها، وهي منطقة زراعية بالقرب من الحدود الأردنية، مُقَسَّمتَين بين القوات الحكومية والمتمرّدين المُسَلّحين. إحتدم القتال ذهاباً وإياباً، مما أسفر عن مقتل الآلاف. لم يتغيّر الوضعُ بشكلٍ جدّي إلّا بعدما دعمت روسيا هجوماً حكومياً في العام 2018. في ذلك العام، توسّطت موسكو في سلسلة من الاتفاقات مع الفصائل المُتمرّدة التي أعادت المنطقة إلى سيطرة الحكومة المُفكَّكة.

هذا الصيف، عاد القتال إلى درعا -مركز انتفاضة 2011 الأولى ضد الرئيس بشار الأسد التي أشعلت الحرب الأهلية- عندما تحرّكت القوات الحكومية لمراجعة بنود اتفاقات 2018 وفرض ما تريده بالقوة. بعد حصارٍ استمرّ شهوراً، سيطرت قوات الأسد وحلفاؤها الروس على جزء من مدينة درعا الذي كان لا يزال تحت سيطرة المُتمرّدين، وضغطت على المقاتلين لإلقاء أسلحتهم وقبولِ وجودٍ أكبر للدولة. إنها نتيجة لا تُبشّرُ بالخير للقوى المناهضة للحكومة في أماكن أخرى في المنطقة.

كان جنوب سوريا -حوران على وجه الخصوص- مسرحاً مُهمّاً خلال السنوات الأولى من الحرب، واستفاد المقاتلون هناك من الدعم الأجنبي. سمح الأردن باستخدام أراضيه كقاعدة خلفية وقناةٍ لخطِّ إمدادٍ نظّمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتمويلٍ سعودي للقوات المناهضة للأسد. لكن مع استيلاء تنظيم “الدولة الإسلامية” بسرعة على مناطق في العراق وسوريا في العامين 2014 و2015، فَقَدَ الأردن ثقته بالمتمرّدين الجنوبيين. وعندما بدأت روسيا تنفيذ ضربات جوية في سوريا في أيلول (سبتمبر) 2015، دخل المسؤولون الأردنيون بسرعة في محادثاتٍ مع موسكو، التي اعتقدوا أنها يمكنها أن تكون، على حدٍّ سواء، عدواً للجهاديين ومؤثّرة في الأسد ونظامه. من وجهة نظر عمّان، كانت طريقة جيدة مثل أي وسيلة للسيطرة على الوضع.

عندما بدأ الأردنيون كبحَ جماحِ عملائهم المُتمرّدين، على أساس أن روسيا ستُعيد سيطرة نظام الأسد على طول الحدود بطريقة تدريجية وغير مزعجة، لم يحتجّ حلفاؤهم كثيراً.  فقد سئم السعوديون من الوضع المُتذبذب في سوريا خصوصاً بعدما انخرطوا في حرب أخرى في اليمن، في حين أن الولايات المتحدة تشارك الأردن العديد من مخاوفه بشأن قابلية قوات المتمرّدين على البقاء في المدى الطويل. على أيّ حال، أنهى الرئيس دونالد ترامب بعد فترة قصيرة برنامج دعم وكالة المخابرات المركزية للمتمرّدين، الذي وصفه بأنه “ضخمٌ وخطير ومُهدِرٌ للمال”.

بدون تمويلٍ أجنبي، بدأ تمرّد حوران يذبُل ويضعف.

في أوائل العام 2018، بعد العمليات الناجحة المدعومة من روسيا في وسط وشمال وشرق البلاد، تحوّل جيش الأسد إلى الجنوب. أخذت روسيا زمام المبادرة، حيث أطلقت عملية مفاوضات لتهدئة مخاوف الأردن، الذي كان يخشى من تدفّق اللاجئين وعدم الاستقرار، وقلق إسرائيل المجاورة، التي كانت تخشى تسلّل إيران وميليشيا “حزب الله”، الحليفين الرئيسيين للأسد. لعبت القوات السورية دور الشرطي السيئ فيما لعب الروس دور الشرطي الطيّب، وبحلول منتصف العام، كانت البلدات الواقعة عبر سهول حوران إما قد تعرّضت للهجوم من أجل الخضوع أو وقّعت على اتفاقات استسلام مشروط إرتكزت تسويته على وعودٍ بالعفو والإفراج عن المعتقلين. لم يكن لدى المُتمرّدين الذين يتبنّون مواقف أكثر تشدّداً خياراً سوى قبول ممرٍّ آمنٍ إلى شمال غرب سوريا، حيث تحرس القوات التركية جيباً آخر للمعارضة بموجبِ تفاهمٍ مُنفصلٍ مع موسكو.

أنهت الصفقات التي توسّطت فيها روسيا في 2018 قتالاً كبيراً في الجنوب، لكنها لم تفعل شيئاً يُذكَر لمعالجة مظالم المنطقة أو تسريح وحلّ قوات الجانب الخاسر. واصل المتمرّدون السابقون السيطرة على العديد من البلدات والقرى، وانسحبوا من الحرب الأوسع، لكنهم ظلّوا مُسَلَّحين. أصبح عدد قليل من هذه الجماعات حلفاء موثوقين للنظام أو روسيا، لكن تم استقطاب معظمهم بشكل مُفَكّك ومُنفصل وغامض. لذا بقيت التوترات عالية بين الأعداء السابقين، الذين لم يعودوا في حالة حرب، لأنه لم يتم التوفيق بينهم بشكلٍ هادف.

كل طرف من الجانبين اتّهم الآخر بالخيانة. اشتكى المتمرّدون وغيرهم من السكان المحليين من الوعود الكاذبة التي لم تُنَفَّذ والحكم التمييزي. شعر الكثيرون بالاستياء بشكل خاص من رفض نظام الأسد إطلاق سراح أصدقائهم وأقاربهم من السجن، على الرغم من أنه من المرجح أن يكون معظمهم قد قُتِلَ فعلياً في المعتقل. أصدرت دمشق قرارات عفو ووعدت بحرية الحركة، رُغم أن هذه الوعود لم يتم الوفاء بها دائماً. علماً أن الضباط السوريين في الميدان يلقون القبض على المتمرّدين السابقين الذين يتجرّؤون ويغامرون بالخروج من مناطقهم الآمنة.

الموالون للنظام أيضاً غير راضين عن صفقات 2018، والتي ، بالنسبة إليهم، تبدو وكأنها ترميزٌ إرهابي لا يُغتَفَر. إنهم يرون مسلحين يَتَحدّون النظام ويُلوّحون بأعلام المتمردين في البلدات التي لا يُسمَح للجيش دخولها – خصوصاً وأن بعض هذه المناطق يعمل كملاذٍ آمن للجماعات التي لا تزال تستهدف الحكومة، بمَن فيهم الجهاديون الناشطون سراً.

وأثارت هذه التوترات قعقعةً مستمرة من الاضطرابات حول جيوب المتمردين السابقة في الجنوب منذ العام 2018، بما في ذلك إطلاق النار والكمائن والتفجيرات والاغتيالات غير المُبرّرة. حلّت جهود الوساطة الروسية بعض الأزمات، لكن أزمات جديدة استمرّت بالظهور. من الواضح أن بعض أعمال العنف سياسي الطابع ويرتبط بفلول المتمرّدين أو الجماعات الموالية للنظام أو المسلحين الجهاديين. ولكن هناك مشكلة أوسع نطاقاً تتعلق بغياب القانون عبر الطيف السياسي، والذي يتجلّى في نزاعاتٍ عائلية عنيفة، وتصفية حسابات، وجريمة مُنظّمة. في كثيرٍ من الأحيان، تكون الحوادث غامضة للغاية بحيث لا يمكن التحقيق فيها أو فهمها. مدينة طفس، على سبيل المثال، ابتُلِيَت بالاقتتال القبلي الدموي، لكن فصائلها السياسية هي أيضاً عشائرية، حيث ينخرط البعض في أعمال عنفٍ مُناهضة للنظام.

وثّق عبد الله الجباسيني، الباحث المُتخصّص في جنوب سوريا، اتجاهاً متصاعداً للعنف أودى بحياة أكثر من 380 شخصاً من منتصف العام 2018 إلى أوائل العام 2020. وكان ذلك لا يزال يُمثّل تحسّناً كبيراً عمّا كان عليه الوضع قبل العام 2018 من الحرب الشاملة، ولكن التفجيرات أصبحت بعد ذلك أكثر خطورة. في العام الفائت، شنّت الحكومة هجوماً لاستعادة السيطرة على الصنمين، إحدى البلدات الرئيسة في منطقة حوران، تلاه قتال حول المزيريب وطفس.

عندما اختطفت جماعة مُتمرّدة سابقة تسعة ضباط شرطة وأعدمتهم في المزيريب في أيار (مايو) 2020، غضب الموالون للحكومة بشكلٍ كبير. حذر جمال الزعبي، عضو حزب البعث التابع للأسد والذي ينحدر من إحدى القبائل الرئيسة في المنطقة، من أنه بمجرد انتهاء الجيش من منطقة إدلب شمال سوريا، فإنه سيتحوّل جنوباً مرة أخرى. وقال الزعبي ل”الوطن”، إحدى الصحف الموالية للنظام في دمشق: “لن تترك الدولة أياً من المناطق التي دخلت في الصفقة والتي يستغلها الإرهابيون الآن. ما حدث في الصنمين قبل بضعة أشهر سيُطبَّق على باقي المناطق”.

أخيراً، في حزيران (يونيو) الفائت، وجّهت الحكومة نظرها جنوباً إلى مدينة درعا القديمة، المعروفة باسم “درعا البلد”، حيث يستمر المتمرّدون السابقون وشيوخ العشائر المتحالفة في حكم نحو 50 ألف شخص بعد استسلام 2018. باعتبارها أكبر معقل للمعارضة وأكثرها شهرة في جنوب سوريا، رأى الجانبان في “درعا البلد” محكّاً ونقطة مهمة للسياسة الحورانية. إذا نجح النظام في فرض نظام جديد هناك، فيُمكنه بثقة الانتقال إلى مدنٍ أخرى.

رفض زعماءٌ محلّيون مطلب الحكومة الأَوَّلي الذي قدمته في حزيران (يونيو) بالسماح للجيش الدخول لإقامة نقاط تفتيش ونزع سلاح المتمرّدين السابقين. عندها أغلقت قوات الأسد جميع المنافذ ومنعت المساعدات الإنسانية، ما تسبّب في نقصٍ شديد، وبدأت قصف المنطقة. وافق حكام “درعا البلد” على صفقةٍ جديدة في تموز (يوليو)، لكن المُفسِدين من المعارضة رفضوا على ما يبدو السماح للجيش بالانتشار، وكان لا بدّ من إعادة التفاوض على الصفقة. وانهارت الجولات اللاحقة من المحادثات أيضاً بسبب العناد المُتبادَل. لذا، في أواخر آب (أغسطس)، حذّرت روسيا من أنها ستُدخِل قواتها الجوية في المعركة، وعند هذه النقطة استسلمت معاقل المتمردين ووافقت على شروط اتفاقٍ جديد. منذ السادس من أيلول (سبتمبر)، سارت عملية التنفيذ بسلاسة، ومع انتهاء الحصار والقصف، بدأ بعض النازحين المدنيين في المنطقة، البالغ عددهم حوالي 40 ألفاً، العودة إلى ديارهم.

يُعدِّلُ الاتفاقُ الأخير شروطَ 2018 بشكل كبير لصالح الحكومة. فهو لا يفرض سيطرة كاملة للدولة، لكن السلطات المحلية فقدت الكثير من استقلالية الأمر الواقع التي كانت تتمتع بها، وتم نزع سلاح العناصر المُتمردة السابقة المسلحة. لأول مرة منذ سنوات، دخلت القوات السورية والروسية “درعا البلد” لرفع أعلامها وإقامة نقاط تفتيش والبحث عن أسلحة وهاربين. يقول الجيش الروسي إن أكثر من 1600 من السكان تسجّلوا على لائحة العفو، وسلّموا حوالي 600 قطعة سلاح ناري. في المقابل، وبحسب النشرة الأسبوعية الموالية للمعارضة “عنب بلدي”، أنهى الجيش أخيراً حصاره على شحنات المواد الغذائية والأدوية في 10 أيلول (سبتمبر).

من الصعب عدم ملاحظة المغزى الرمزي لرؤية أعلام الحكومة ترفرف فوق “درعا البلد”، حيث بدأت انتفاضة سوريا في العام 2011، ولا تنتهي عند هذا الحد. وفقاً لنواياها الأصلية، تسعى الحكومة بالفعل إلى الاستفادة من انتصارها بالانتقال إلى البلدات الواقعة غرب درعا. في الأسبوع الفائت، أفادت المعلومات أن وحدات الجيش السوري انتشرت في المزيريب واليادودة، وكانت تتحرّك إلى ضواحي طفس، إحدى النقاط الساخنة الرئيسة في المنطقة.

بالنسبة إلى المُتعاطفين مع المعارضة في هذه البلدات، وفي أماكن أخرى عبر سهل حوران، ستكون النتيجة في “درعا البلد” بمثابة تحذيرٍ ونموذجٍ في آن واحد. وقال مصدرٌ رسمي لـ”الوطن”: “لن يكون هناك مزيدٌ من المفاوضات. إن شروطَ التسوية واضحة. كلُّ مَن يوافق عليها مُرَحَّبٌ به، لكن أولئك الذين لا يُوافقون قد يحصلون على موعدٍ نهائي. إذا لم يوافقوا بعد ذلك، فإن الجيشَ جاهزٌ”.

  • محمد الحلبي هو مراسل “أسواق العرب” في دمشق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى