دانْتِه “حيًّا” بعد 700 سنة (2 من 2)

الأَطهار في الفردوس

هنري زغيب*

ماذا فيها، هذه “الكوميديا الإِلهية”، حتى هي خالدةٌ فلسفيًّا وسياسيًّا ولغويًّا وأَدبيًّا، ومعتَبَرَةٌ “منارة الأَدب الإِيطالي”؟ كان اسمها أَصلًا “الكوميديا”، فكيف اتخذَت صفة “الإِلهية”.

“كوميديا” ثم “إِلهية”

الكاتب جيوڤاني بوكاتشيو (1313-1375)، هو الذي وَسَمَ بــ”الإِلهية” رائعة دانته، في كتابه “مديح دانته” (1373) الصادر بعد 70 سنة على بدء الشاعر كتابةَ رائعته. انتشرَت صفة “الإِلهية” مع العنوان منذ النصف الآخر من القرن السادس عشر إِذ تبنَّى الناشر لودوڤيكو دولتشي تسمية بوكاتشيو فأَصدر سنة 1555 طبعةً بعنوان “الكوميديا الإِلهية”. مع أَن كلمة “كوميديا” لا تَرِدُ في كلِّ النص سوى مرتين فقط في مقطوعة “الجحيم” التي يسميها دانته “مقدَّسة” (في فصل “الفردوس”). فالرائعة مكتوبةٌ بأُسلوب مُشْرقٍ بعيدٍ عن التراجيديا، تنطلق من موقف مأْساوي مشؤُوم لتبلُغ نهايةً سعيدةً مَرجُوَّة.

نصُّ “الكوميديا” (المكتوبُ بين 1303 و1321) وصلَنا بشكلٍ قد يكون لحقَه بعضُ التحوير. المخطوطة الأُولى الأَصلية ضاعت، ووصلَتْنا منها نسخٌ عدَّةٌ قد تكون لحِقَت نصَّها تشويهاتٌ وأَخطاء من تعَدُّد الناسخين.

جبل المطهر وعند قمَّته واحةُ الفردوس

الرحلة الطويلة

النص، إِجمالًا، يَسرُدُ فيه الراوي بصيغة المتكلم (“أَنا”) رحلتَه الطويلة في العالم العلْوي، يرافقه افتراضيًّا الشاعر ڤِرجيل متنقِّلًا تباعًا في معارج الجحيم فالمطهر فأَفلاك الفردوس. وخلال مراحل الرحلة يلتقي الراوي نحو 100 شخص: فلاسفة ومعاصري الشاعر وشخصيات أُسطورية من العصور السحيقة، ما يشكِّل سردًا روائيًّا سلِسًا ذا أَفكار أَخلاقية تتخلَّلُها تجارب واقعية.

“الكوميديا الإِلهية” قصيدة طويلة بالمحكية الفلورنسية، تتأَلَّف من سلسلة ثلاثيات وكل بيتٍ من 11 مقطعًا، خرجَت أَسطع شهادة لحضارة القرون الوسطى، وإِحدى روائع الأَدب العالمي الخالد عبر العصور يسرد فيها الشاعر رحلةً خارج الأَرض. وعرفَت القصيدة نجاحًا سريعًا وواسعًا ثبَّتَ المحكية التوسكانية لغةَ كُلّ إِيطاليا. فهي كانت أَول نص بالمحكية المحلية (يومها) وباتت لاحقًا هي اللغة الإِيطالية المعاصرة بعدما انفجرَت اللاتينيةُ القديمةُ الأُم (فصحى تلك الفترة) إِلى لغات محلية فرنسية وإِسپانية وإِيطالية وسواها.

المعذَّبون في الجحيم

الهيكلية

في كتابة القصيدة تأَثَّر دانته بمرجعَين قديمَين: “الإِنْيادة” لڤِرجيل (70 – 19 ق.م.) و”رُؤْيا بولس” (القرن 4 م.) وفي كليهما قصص رحلات إِلى الجحيم. ويرى فيها دارسون ملامحَ من “رسالة الغفران” لأَبي العلاء المعرِّي (973-1057).

هيكليًّا هي في ثلاثة فصول/أَناشيد كبرى (“الجحيم”، المطهر”، “الفردوس”)، في كل نشيدٍ 33 مقطوعة (إِلَّا نشيد “الجحيم”، فيه نشيد تمهيدي إِضافي يفتتح الكتاب). إِذًا نحن أَمام 100 قصيدة، كلٌّ منها منظومٌ بثلاثياتٍ موزونةٍ مقفَّاة. الرقم 1 يعني الوحدة، والثلاثيات تعني الثالوث المسيحي. في الطبعة الأُولى (1572) جاء: “هذه كوميديا دانته أَليغييري، الفلورنسيّ الأَصل لا الفلورنسيّ التقاليد”، وتجري الحوادث “في منتصف العمر” (كان دانته يومها في الثلاثين). وفي القصيدة أَن الأَرض محور الكون، حولها سبع سماوات، فوقها هالة النار. الشيطان هو في وسط الأَرض. سقوطه إِلى الجحيم حفَر فجوة مخروطية يمرُّ قطبُها بأُورشليم، وفيها طريق سري يمتد من مقر الشيطان إِلى جزيرةٍ قبالتَه هي المطهر، فوقها جنَّة عَدَن. وتبدأُ القصيدةُ بفصل الجحيم.

فصل الجحيم

بطلبٍ من بياتريس (حبيبة دانته) يقوم ڤِرجيل باستدعاء دانته ويقوده إِلى الجحيم، وهو الطريق الوحيد للخروج من الغابة. هبَطا معًا عبر تسْعة أَفلاك عموديةٍ نُزولًا، في كلٍّ منها محجُورون يقْضون فترة حُكْمهم بحسَب آثامهم التي كلَّما تضخَّمَت زاد حجْرهم انحدارًا إِلى الطبقات السُفلى حيث القعر محور الأَرض. تنتهي الجولة في الجحيم بلقاء لوسيفوروس الذي كان على دانته وڤرجيل أَن يعتلياه كي يخرجا من الجحيم ويَرَيَا النجوم. والجحيم، في وصْف الشاعر، حفرة هائلة بشكل قُمْعٍ يمتدُّ تحت مدينة أُورشليم، لذا هو في وسط الأَرض. يعبر ڤرجيل ودانته التسْع الحلقات التي تتأَلف منها طبقات الجحيم، حتى يبلُغا مغارة ذات دَرَج يؤَدِّي إِلى منفذ. وإِذ لا يعودان يريان ظهْر لوسيفوروس، يشرح ڤرجيل أَنهما باتا على طريق الخروج إِلى شاطئ المطهر.

فصل المطهر

هو جزيرة قبالة الكرة الأَرضية. يُشاهدان جبلَ المطهر تتصاعد إِليه أَرواح الموتى الذين ثبُتَت توبتُهم. على قمة الجبل واحةٌ يُمضي فيها التائبون فترة انتظار تعادل فترة عقوبتهم في الجحيم. وفيما الجحيم ضوضاء من التذمُّر والصراخ، ليس في واحة المطهر إِلَّا ميلوديات تهْدل في سكون ناعم. وكلما أَعلن ميتٌ عن نوع توبته يَقترب خطواتٍ من الباب الأَخير وهو المنْفَذ إِلى الفردوس الأَرضي الذي ما إِن ينفتح لهما بابه ويبلغان قمة الجبل حتى يودِّع ڤرجيل صديقَه دانته ويعود وحده إِلى الجحيم. عندئذٍ تصل بياتريس الكانت تنتظر حبيبها كي ترافقه ويرتقيا معًا إِلى جَلَد النجوم، إِلى الفردوس.

فصل الفردوس

هذا الفصل أَهداه الشاعر إلى القائد أَلبرتو دِلَّا سْكالا. هنا تقوم بياتريس پورتيناري، حبيبتُه وملهمتُه، فترافقه في معارج الفردوس، وهو – بعكس أَفلاك الجحيم – مؤلَّفٌ من تسعة أَفلاك عموديَّةٍ صوب الأَعلى. هناك يلتقيان عددًا من القديسين، وكلُّ فلك يعادل سماءً (سماء القمر، سماء ڤينوس، سماء عُطارد، …) يرتع فيها الأَبرياء من الخطايا. في ختام الجولة يأْتي رسُل المسيح يسائلون دانته فيجيبُهم جميعًا، ثم ينتقل إِلى السماء العاشرة: موطن الآلهة. هناك تغادره بياتريس ويتولَّاه الراهب برنار دو فونتين (1090-1153) آخر دليل لدانته الذي يرفع صلاةً إِلى العذراء مريم، ثم يذوب كليًا في الحضور الإِلهي وهو “الحب الذي وحده القادر أَن يحرِّك السماء والنجوم وما فيهما”.

دانتِه الحي بعد 700 سنة

هذه هي رائعة دانته الخالدة التي لم تَبْقَ منصة فنية (مسرح، أُوپرا، باليه، سينما، رواية، شعر، رسوم، لوحات، تماثيل، …) إِلَّا استلْهَمَتْها لِـمَا فيها من غنًى شِعريٍّ وأَحداثٍ مُثيرة وخيالٍ روائيٍّ عظيم.

لا عجب إِذًا أَن يبقى دانته خالدًا على مر العصور، وأَن تحتفل بلاده إِيطاليا طيلة هذا الأُسبوع بالذكرى 700 لغيابه الذي يشعُّ على إِيطاليا وأُوروپا والعالم أَسطَعَ من كلِّ حضور.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى