لماذا لا تستطيع روسيا ولا الصين ملء الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط

بدلاً من منح موسكو أو بكين فرصة لتعزيز مصالحهما، فإن الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة من شأنه أن يُقوّض قدرة هاتين الدولتين على المناورة بدون تحمل التكاليف المباشرة لمثل هذا الانخراط الأعمق.

الأميركيون في السعودية: من يملأ فراغهم هناك؟

جون هوفمان*

جدّدت الذكرى العشرين لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وانسحاب أميركا من أفغانستان الجدل حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تظل مُنخَرِطة بعمقٍ عسكرياً في الشرق الأوسط الأوسع. تُركِّزُ هذه المناقشات عادةً على ما إذا كان هذا الوجود ضرورياً لضمان النقل الآمن للنفط من الخليج العربي، أو منع الهجمات الإرهابية، أو منع قوّة واحدة من السيطرة على المنطقة.

مع ذلك، في الآونة الأخيرة إنتقل موضوع المنافسة بين القوى العظمى، الولايات المتحدة وروسيا والصين، في الشرق الأوسط بشكل متزايد إلى واجهةِ مثل هذه النقاشات، وبدأ مسؤولون أميركيون ومُحلّلو السياسة إثارة ناقوس الخطر بشأن إمكانية أن تملأ موسكو أو بكين الفراغ إذا انسحبت واشنطن عسكرياً من المنطقة.

لكن هذه المخاوف مُضَلِّلة. لا روسيا ولا الصين قادرة على ملء الفراغ الأميركي المُفتَرَض في الشرق الأوسط، كما انهما لا ترغبان في ذلك.

لم تَتَحدَّ موسكو وبكين بشكل مباشر النظام الأمني ​​الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، لأنهما تستفيدان منه: فقد وفّر لهما المظلّة الأمنية لزيادة مشاركتهما في المنطقة بدون الاضطرار إلى تحمّل تكاليف الحماية المادية لمصالحهما. في الواقع، إن قدرتهما على مواصلة مناوراتهما المُنخَفِضة التكلفة في المنطقة سوف تُقَوَّض بسبب انسحاب أميركا. في الشرق الأوسط، تُعتَبَرُ روسيا والصين انتهازيتين وغير مؤيّدتين لسياسة المراجعة أو التعديل.

سعت روسيا والصين بالتأكيد إلى استغلال تعب الولايات المتحدة الشديد في المنطقة، فضلاً عن التوترات الإقليمية المتزايدة في أعقاب الانتفاضات العربية في العام 2011.

تدخّلت روسيا عسكرياً في سوريا لإنقاذ بشار الأسد في العام 2015، وهذا البلد هو الآن موطنٌ لقاعدة موسكو البحرية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. شاركت روسيا نفسها في الحرب الأهلية المستمرة في ليبيا، ودعمت الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر بضربات جوية وأسلحة ومتعاقدين عسكريين خاصين وقوات خاصة روسية. ونشرت متعاقدين عسكريين خاصين في السودان لدعم المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بعمر البشير، ووقّعت صفقة مع المجلس لبناء قاعدة بحرية روسية قبالة سواحل السودان في البحر الأحمر. كما زادت مبيعاتها من الأسلحة بشكل كبير في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

في غضون ذلك، أصبحت الصين أكبر مستهلك للنفط في المنطقة، وأكبر شريك تجاري، وأكبر مستثمر، حيث تسعى بكين إلى دمج مبادرة الحزام والطريق الطموحة مع برامج الإصلاح الاقتصادي والتنمية الوطنية التي يتّبعها العديد من الدول في المنطقة. كما زادت مبيعات الأسلحة الصينية إلى الشرق الأوسط بشكل كبير.

يرى البعض هذه التطورات كدليلٍ على أن الشيء الوحيد الذي يقف في طريق روسيا أو الصين لتوسيع نفوذهما وموقعهما الاستراتيجي داخل الشرق الأوسط هو الوجود العسكري الأميركي المُسَيطر.

ومما يثير القلق بشكلٍ خاص هو أن تستطيع موسكو أو بكين السيطرة على طُرُق التجارة والنفط الحيوية في المنطقة، مثل قناة السويس ومضيق هرمز وشرق البحر الأبيض المتوسط. هذا هو الحال بشكل خاص مع الصين؛ الخوف هو أن تكون بكين قادرة على إكمال الجزء الأوسط من مبادرة الحزام والطريق، بسبب عدم الاضطرار إلى التحايل على الهيمنة العسكرية الأميركية على طرق التجارة الحاسمة هذه، وبالتالي السيطرة على أكثر طرق التجارة والنفط أهمية في أوراسيا الكبرى.

هناك مخاوف أخرى تتمثل في أن القوى الإقليمية – بما فيها ليس فقط خصوم أميركا مثل إيران ولكن أيضاً شركاءها مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية – سوف تتجه نحو موسكو وبكين باعتبارهما المستفيد الجديد كقوى عظمى إذا ما انسحبت الولايات المتحدة، مما يغير توازن القوى في المنطقة نحو الشرق.

لكن توقّعات يوم القيامة هذه تفشل في حساب القيود الخطيرة التي ستواجهها كل من روسيا والصين في الشرق الأوسط في حالة انسحاب الولايات المتحدة. سيتعيّن عليهما تولي وجود أكثر مباشرة بكثير لتأمين مصالح كلّ منهما في المنطقة. ومع ذلك، فإن كلا البلدين قد يعارضان بشدة إنشاء ودعم مثل هذا النظام الأمني.

أوّلاً، لا يُمثّل الشرق الأوسط مصلحة وجودية لبكين أو موسكو. لا يقتصر الأمر على اهتمامهما بالمنافسة مع واشنطن في جوارهما القريبين فحسب، بل تواجه كل من روسيا والصين أيضاً مشاكل اقتصادية خطيرة بالإضافة إلى البيئات المحلية شديدة الخلاف، مما يجعل عرض القوة في الشرق الأوسط بدون ضمان أمني أميركي أمراً مُستبعَداً جداً وخطيراً للغاية.

علاوة على ذلك، فإن الانسحاب من الشرق الأوسط سيوفر لواشنطن المزيد من الموارد التي يمكن توجيهها نحو المنافسة الاستراتيجية مع موسكو وبكين، وهي نتيجة لن ترحب بها لا روسيا ولا الصين.

سيتعيّن على كلا البلدين الشروع في إنشاء ودعم نظامٍ سياسي جديد في المنطقة. لقد تمكّنت روسيا والصين من تحقيقِ تقدّمٍ في المنطقة بشكل أساسي من خلال تقسيم سياساتهما الخارجية في الشرق الأوسط.

لقد امتنعتا إلى حدّ كبير عن اتخاذ موقف في أكبر المنافسات الجيوسياسية في المنطقة – التنافس بين المملكة العربية السعودية وإيران، والصراع بين دول الخليج العربية، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني- وبالتالي تجنّبتا الانجرار إلى هذه الخلافات. لقد تمكنتا من القيام بذلك لأن الولايات المتحدة، باعتبارها القوّة المُهيمنة في المنطقة، قد بنت نظاماً سياسياً في الشرق الأوسط يعتمد على دول صديقة محددة لتعزيز قوّة أميركا وتهميش الخصوم.

إذا انسحبت واشنطن، فإن هذا التوازن الدقيق الذي اتبعته روسيا والصين سينهار، مما يجبر موسكو وبكين على الانخراط بشكل وثيق في الشؤون السياسية للمنطقة إذا سعيا لملء هذا الفراغ.

ومع ذلك، فإن حجة “الفراغ” أصبحت مُفيدة سياسياً للبعض. تحوّلت الجهات الفاعلة الإقليمية، وتحديداً تلك التي تعتمد على الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع الأمني الراهن الذي تستفيد منه، بشكل متزايد إلى السرد الذي يُركّز على “الفراغ” للضغط على واشنطن لتبقى مُنخَرِطة بعمق في المنطقة.

في الواقع، استخدمت المملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر والإمارات العربية المتحدة التواصل مع موسكو وبكين لكسب النفوذ والتنازلات من الولايات المتحدة. يتضح هذا بشكلٍ خاص عند فحص مبيعات الأسلحة لدول المنطقة، فضلاً عن الفكرة التي يطرحها المسؤولون الأميركيون في كثير من الأحيان بأن شركاءهم سيتحوّلون ببساطة إلى مكانٍ آخر إذا لم يُلبّوا لهم ما يطلبونه.

غالباً ما يسعى هؤلاء الفاعلون إلى صفقاتٍ مع روسيا أو الصين للضغط على الولايات المتحدة لتزويدهم بما يرغبون فيه حقاً: معدّات وأسلحة أميركية الصنع. هذا يرجع في المقام الأول إلى حقيقة أن قدرة حلفاء أميركا في المنطقة على التحوّل بالجملة إلى أنظمة أسلحة بديلة يكاد يكون مستحيلًا بسبب عدم توافق الأسلحة الروسية أو الصينية مع أنظمة الدفاع الأميركية في هذه البلدان.

في العام 2014، في أعقاب الحظر المؤقت لمبيعات الأسلحة الأميركية على مصر بسبب الانقلاب العسكري في العام 2013، وقّعت موسكو صفقة بقيمة 3.5 مليارات دولار مع القاهرة لا تشمل الأسلحة والذخيرة فحسب، بل تشمل أنظمة دفاع جوي وطيران أيضاً.

وبالمثل، للضغط على الولايات المتحدة بعد أن رفضت بيع طائرات مقاتلة من طراز “أف-35” (F-35) إلى الإمارات في العام 2017، وقع الإماراتيون صفقة للمشاركة في تطوير طائرة مقاتلة من الجيل الخامس مع موسكو. في وقت لاحق، عندما تزايدت المخاوف في واشنطن بشأن تزويد الإمارات بأسلحة بقيمة 23 مليار دولار وطائرات مقاتلة من طراز “أف-35” كجزء من صفقات التطبيع مع إسرائيل، حذّر السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة من أن بلاده ستضطر إلى التحوّل إلى مكانٍ آخر إذا لم تتم الصفقة.

كما لجأت المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات بشكلٍ مُتكرّر إلى الصين لشراء طائرات مُسَيَّرة مسلحة وسط إحجام الولايات المتحدة عن تزويدها بمثل هذه التكنولوجيا. رداً على ذلك، أعلنت إدارة دونالد ترامب إنها ستتجاوز الكونغرس للدفع ببيع طائرات مُسَيَّرة مسلحة متطورة إلى الرياض وأبو ظبي.

للمضي قُدُماً، يجب على صانعي السياسة الأميركيين تبديد الأسطورة القائلة بأن روسيا أو الصين قادرة – أو مستعدة – لملء الفراغ في الشرق الأوسط إذا انسحبت الولايات المتحدة عسكرياً. تم استخدام هذه الرواية بشكل أساس من قبل أولئك الذين لديهم مصالحهم الخاصة في إبقاء أميركا مُنخرطة بعمق في المنطقة، أي الشركاء الإقليميون الذين استغلوا لفترة طويلة هذا الخوف من خسارة المنطقة لصالح روسيا أو الصين من أجل ابتزاز التنازلات من واشنطن.

بدلاً من منح موسكو أو بكين فرصة لتعزيز مصالحهما، فإن الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة من شأنه أن يُقوّض قدرة هاتين الدولتين على المناورة بدون تحمّل التكاليف المباشرة لمثل هذا الانخراط الأعمق.

  • جون هوفمان هو باحث متخصص في شؤون الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط والإسلام السياسي، وهو مرشّح دكتوراه في جامعة جورج مايسون الأميركية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @Hoffman8Jon
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى