الدور المسيحي في لبنان يَنحَسِر على إيقاع أخطاء الأحزاب المسيحية والهجرة

بعدما كشفت “الدولية للمعلومات” عبر إحصاءٍ نشرته في العام 2019 أن عدد المسيحيين بمجموع طوائفهم قد تقلّص وأتى في المرتبة الثالثة بعد الشيعة (مليون و743 ألفاً) والسنّة (مليون و721 ألفاً)، حيث بلغ عددهم مليون و686 ألف مسيحي، أي 30% من عدد السكان البالغ، حسب الإحصاء، 5.5 ملايين، فإن الدور السياسي للمسيحيين يبدو أنه بدوره يتقلّص وينحسر بسبب أخطاء الأحزاب المسيحية والهجرة. 

البطريرك مار بشارة بطرس الراعي: أعلن عن مواقف وطنية جامعة

السفير يوسف صَدَقة*

أدّى انفجارُ مرفإِ بيروت، في 4 آب (أغسطس) 2020، الى خسائر فادحة على الصعيد الانساني وفي الممتلكات والمنازل، في بيروت عامة، وفي المناطق المسيحية بخاصة، وذلك في الرميل – مار مخايل – الكرنتينا – الاشرفية – مما سبَّب إحباطاً عميقاً في الوجدان المسيحي، بعدما خسرت هذه المناطق في دقائق معدودة، اهم المؤسسات الاستشفائية والتعليمية والتجارية. وقد زاد من الاحباط افتقاد السلطة، القدرة على التعامل الفاعل والبنّاء مع فاجعة المرفإِ. إلّا أنّ الجيش اللبناني، بالمقابل أثبت كفاءة في الإشرافِ المُباشر على المساعدات الواردة من الدول العربية والأجنبية، فيما ساهمت الاحزاب المسيحية بإعمار ما تهدم مساهمة بسيطة لم ترقَ إلى حجم المساعدات التي قدمتها منظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية. أما المُساعدات الفرنسية، والتي ساهمت في نزع الأضرار من منشآت المرفإِ فقد شملت بعض المساعدات الطبية والغذائية، ولم تطل مفاعيلها أهم مستشفى فرنسي في لبنان “أوتيل ديو” (Hotel Dieu de France)، وهذا ما زاد من مرارة الجسم الطبي العام في المستشفى.

ومما زاد الطين بلّة، أن لبنان يشهد منذ عامين تقريباً انهياراً إقتصادياً ومالياً أثّر بشكل مأسوي في الوضع الاقتصادي والاجتماعي لجميع اللبنانيين.

وقد أكد المرصد “الأورومتوسطي” لحقوق الانسان في تقريرٍ أصدره في 2 آب (أغسطس) الجاري بعنوان “لبنان … الإنزلاق الى الهاوية” أنّ الأزمات المُتفاقمة في لبنان، وعجز الحكومة في التعامل معها، أوصل الأوضاع في لبنان، إلى مستوى غير مسبوق في التدهور، بمعدلات فقر تجاوزت 50%. أما الدولة فكانت خلال العام 2020، قد عانت من كسادٍ اقتصادي، كان سببه انكماش النمو في الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 20،3% إضافةً الى وصول معدلات التضخم الى أكثر من 100% (Inflation galopante) وزيادة أسعار اكثر من 17 سلعة بنسبة 350%. أدّى الانزلاق الاقتصادي نحو الهاوية الى مزيد من النزف المسيحي، وزيادة معدلات الهجرة الى الخارج، بشكل مخيف، حتى اصبح مقصد الهجرة مطلب كل لبناني بعد انهيار المؤسسات والشركات وزيادة معدلات البطالة بشكل خطير. وما زاد من خطورة الأمر هو بيع الاراضي في منطقة كسروان وجبيل وبعض مناطق البقاع.

موقف الأحزاب من تشكيل الحكومة

إزاء الوضع الخطير على الكيان اللبناني، تأخّرت السلطة في تشكيل حكومة فاعلة لمواجهة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي رُغم التدخّل العربي والدولي، بحجة ذرائع متنوعة: عدم المداورة في الحقائب، الدفاع عن حقوق المسيحيين، أو انتظار الضوء الإقليمي من أنوار مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني.

تصرّفت الأحزاب المسيحية الرئيسة إزاء تشكيل الحكومة في إطار أهدافٍ مرحلية قد تكون مشروعة في المدى القريب، إلّا أن هذه المواقف تُخالف قواعد الوفاق الوطني. ولكن كانت هذه المواقف تنسجم مع القواعد الديموقراطية لكنها تفتقد الى الرؤية الاستراتيجية. فحزب “القوات اللبنانية” نأى بنفسه عن منظومة السلطة، فلم يُسَمِّ أي مُرشَّح لرئاسة الحكومة، مُركّزاً على رهانه الأساسي المٌتمَثِّل في إحداثِ التغيير من خلال الانتخابات النيابية المقبلة في مفاصل السلطة القائمة. أما “التيّار الوطني الحرّ” فلم يُسَمِّ لا الرئيس سعد الحريري ولا نجيب ميقاتي، مُتذَرِّعاً بعدم قدرة المرشَّحَين على تشكيلِ حكومةٍ قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. والسؤال المنهجي المطروح، بغض النظر عن الاعتبارات التي يُبرّرها كل من “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحرّ”، ألا يُعتَبَر عدم تسمية أيّ شخصية سنّية إخلالاً بمبادئ الوفاق الوطني، أياً كانت الاعتبارات السياسية المرحلية؟ ألم يكن من الاجدى تسمية اي شخصية، ومن ثم عدم منح الثقة للحكومة في مجلس النواب، اذا لم يكن البيان الوزاري يلبي مطالب كل من الطرفين؟ لقد ادّت هذه المواقف السياسية إلى إحداث شرخٍ في العلاقات المسيحية – السنّية. وقد طرح أحد النواب تصوّرا قد يتماشى مع الحقيقة: وهو إمكانية مُقاطعة أطرافٍ إسلامية إنتخابات رئاسة الجمهورية، ويُذكّرني ذلك بما قاله الكاتب الاميركي “يوجين هيبيكي” (Eugene Habecke) حول أهمية القادة السياسيين في التعاطي مع الشعب: “إن القادة السياسيين الحقيقيين هم الذين يخدمون الشعب، ويحققون له تطلعاته. وقد يتخذون في بعض الاحيان قرارات غير شعبية، أو مُثيرة لعواطف الرأي العام. ولكن أهمية القادة السياسيين، تكمن في استشراف مصلحة الناس أكثر من التطلع إلى أوهامِ العظمة والمجد وعليهم الاستعداد لدفع الثمن تجاه خياراتهم السياسية”.

العلاقات بين الاحزاب المسيحية والاحزاب الاخرى

اتسمت علاقات “التيار الوطني الحرّ و”القوات اللبنانية” بعلاقات سيئة وباردة مع الأحزاب والطوائف والمذاهب الأخرى في لبنان، في وطن ينبغي فيه المحافظة على الحد الأدنى من الوفاق بين العائلات الروحية. فعلاقة “القوات اللبنانية” ب”تيار المستقبل” تمرّ بمرحلة سوء تفاهم، وشبه قطيعة. أما علاقة القوات ب”الحزب الاشتراكي” فهي علاقات تتسم بالبرودة مع تواصل على مستويات في حدود دنيا. ومن الطبيعي أن تكون علاقة القوات مع “حزب الله” سيئة نظراً إلى الاختلاف في الرؤيا الاستراتيجية حول الكيان اللبناني.

وقد مرت العلاقات بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” في شهر عسل؛ قبل أن تصل في ما بعد الى خلافات حادة، وشن الحملات الاعلامية المُنَظَّمة بين الفريقين. أما العلاقة بين العونيين مع حركة “أمل” فهي علاقة يسودها التوتّر والحملات الاعلامية المتبادلة. اما العلاقة مع وليد جنبلاط فقد انتقلت من التوتر على أثر حادث البساتين في عاليه، إلى مرحلة ربط النزاع. وعلى صعيد العلاقات بين الأحزاب المسيحية الرئيسة فقد وصلت الخلافات بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” الى مرحلة القطيعة بعد انهيار تفاهم معراب ومقولة “أوعا خيّك”.

على صعيد آخر فإن علاقة “تيار المردة” ب”التيار الوطني الحر” هي علاقة يسودها التوتر مع إيقاع مضبوط، بينما تسود العلاقة بين القوات اللبنانية والمردة البرودة، مع اجراء تفاهمات في الكورة وزغرتا لمنع تردي العلاقات بين الفريقين.

اما بالنسبة إلى حزب الكتائب اللبنانية فقد اعتبر نفسه خارج المنظومة السياسية، حيث استقال نواب الكتائب من البرلمان. ويطغى التوتر على العلاقات بين الكتائب والقوات اللبنانية، مع استمرار العلاقات الباردة مع التيار الوطني الحر.

على صعيد آخر، فقد اتخذ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مواقف وطنية جامعة، معلناً ضرورة إحياء الحياد الناشط، وإبعاد لبنان عن الحدود الاقليمية، وطالب بعقد مؤتمر دولي لنصرة القضية اللبنانية. لكن مواقف البطريرك الراعي لم تُلاقِ الدعم الكافي من كل الأطراف المسيحية وعوض الالتفاف حول المرجعية الوطنية المتمثّلة ببكركي، قاربت مواقف البطريرك بدعم شكلي. وإزاء الانهيار على جميع التسويات، أليس من الأجدر أن تُنَسّقَ الأحزاب المسيحية بالحد الادنى على الصعيد الاجتماعي والصحي والتربوي، وتتخطى الحساسيات السياسية والشخصية، وتتماهي مع رؤية المُوحّدين الدروز، حيث يجتمع زعماؤهم في الأوقات العصيبة، رُغم الحساسيات والخلافات، وذلك تنفيذاً لطلب المشايخ العقّال في الطائفة؟

لقد حان الوقت لعقد اجتماعات على مستوى ممثلي الأحزاب والشخصيات المستقلة لدراسة الوضع المسيحي العام، وبخاصة مخاطر الهجرة، والمخاطر التي تواجه المنطقة وانعكاساتها على اللبنانيين عامة وعلى المسيحيين خاصة.

حان الوقت بعد التطورات الخطيرة في افغانستان وانعكاساتها على المنطقة ولبنان بعد التراجع الاميركي، وإمكانية تراجع النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط، وتضاعف دور القوى الاقليمية في المنطقة مثل تركيا – ايران – اسرائيل، الى صياغة تفاهمات لحفظ الدور المسيحي بالتوافق والتنسيق مع الشركاء المسلمين في الوطن، لأن لا حياة للبنان إلّا بالتفاهم والوفاق مع جميع المكوّنات في الوطن.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى