كي تتِمَّ رسالةُ الكاتب

هنري زغيب*

يلومُني بعض المتابعين مقالاتي على أَنني أُعالج مواضيعَ ثقافية وتراثية وحضارية لبنانية وعالمية، معتبرينَني انفصلتُ عن السياق اليومي من حياة اللبنانيين التائهين بحثًا عن رغيف أَو دواء أَو ليتر بنزين. مع أَنني في مواضيعي الوطنية لا أُعالج إِلَّا هذا السياق اليومي وما يجرَح كرامةَ اللبنانيين من سلطتهم الفاشلة، ودولتهم العقيمة عن إِيجاد الحلول قبل حصول الأَزمات، عاجزةً عن فهْم أَن “الحُكْم هو الاستباق لا الاستلحاق”.

سوى أَنني أُكمل، لإِيماني الراسخ أَن التراثَ ذاكرةُ المستقبل، وتاليًا يجب أَن نحافظَ عليه فنحفَظَه بالإِضاءَة الدورية على أَعلامه ومعالمه وعلاماته، تذكيرًا به جيلَنا المنهَك باليوميات الداهمة، والجيلَ الجديد كي يعيه فلا يظنَّ أَن لبنان وطَن تاعس كدولته التعيسة.

أُكمل لأَنني مؤْمن بتراث بلادي وهو هُويتها وشرَفُها. وإِن لم أَكتب عنه فعَمَّ أَكتب؟ ومَن ذا، خارجَه، يستاهل أَن أَكتب عنه؟

منذ مطالعي وأَنا أَكتُب عن الثوابت في تراث لبنان ولم أَهتمَّ للعوابر والمتحوِّلات في أَحداثه وحوادثه وأَحاديثه خصوصًا في هذا الزمن الحقير. فأَنا لا أَدَّعيني كاتبًا سياسيًّا، وكُتَّابُ السياسة والمحررون والمندوبون لا يُقَصِّرون في متابعة المداولات العابرة المتغيِّرة المترججة يوميًّا، وتحليلِ ما فيها ومَن فيها كالوضع الحاليّ مثلًا: “سحنة” الرئيس المكلف عند خروجه من الاجتماع الرئاسي، إِذ صارت “سحنتُه” بارومتر الحالة السياسية، أَو التنظير في محاصصة تشكيل الحكومة وتقاسُم حقائبها بين أَولياء العشيرة، أَو التشاتم “المتاريسي” المتبادَل بين السياسيين استثارةً غرائزَ الناس بتغريداتهم التويترية المتوترة الموتورة، أَو تصاريحهم وتُوْكْشُوَاتهم الإِذاعية والتلڤزيونية.

طبعًا لن أَكتب عن تلك الفئة العاهرة من سياسيين لم يبقَ لبناني في لبنان والعالم إِلَّا صبَّ عليهم جَمْر حقْده وسخْطه وقَرَفه ورَفْضه وكُرهه ولَعنته وشتائمه، حتى جعلوا العمل السياسي عارًا لكثرة ما انفضح لديهم من فساد وتواطُؤ وتغطيات فاسدين وأَنانية وسرقات مكشوفة وصفقات مشبوهة بين تهريب وتخريب وترهيب فَوقي وترغيب انتخابي، فبات أَقلَّ ما لأَيِّ واحد منهم أَن ينهزم ويختفي لاقترافه موبقات العمل السياسي القذِر في لبنان.

هذا الأَعلاه أُتابعه مواطنًا لا كاتبًا، فهو عابرٌ مهما طال، زائلٌ مهما صعُب، ويجرف آنيَّات الكتابة عنه حين ينقضي. لذا أَكتب عن الثابت غير الزائل، عن الباقي غير العابر، عن الراسخ في الماضي والحاضر تحضيرًا مستقبلَه لأَجيالنا الجديدة.

الأُمم الحضارية تُؤَرَّخ بتراثها وتاريخها الثقافي الثابت لا بـعوابر الأَحداث السياسية اليومية أَو الظرفية أَو المنقرضة. وتراثنا اللبناني الثقافي من أَغنى كنوز المنطقة بخلود أَعلامه وعلاماته ومعالِمه، ودَوري ككاتب أَن أُضيْءَ عليه، ومعه أَيضًا على جرعات ثقافية أُخرى عربية وعالَمية تكون إِضافاتٍ إِلى ما يكتَنِزُهُ القراء من ثقافة لبنانية فتتَّسع ثقافتهم بما أَستطيع تأْمينَه لهم من أَضواء ثقافية وحضارية من كل مَلْمَح وكل ينبوع. فَدَور الكاتب أَن يكون في خدمة قرائه المؤْمنين به، ينفَحُهُم بجديدٍ نافعٍ مفيد، ولا يُغْرِقُهُم بعنديَّاته الشخصية وخواطره الخاصة التي لا تَهُمُّ إِلَّاه، لأَنهم عندها يُشيحون عنه وعن كتاباته ومؤَلَّفاته.

هو هذا دأْبي الثقافي، وهي هذه رسالتي ككاتب وكأَديب يعطي قرَّاءَه مع كل نَصٍّ جديدٍ بخورًا ثقافيًّا جديدًا في هيكلهم، فيحترق البخور، وتضُوع ذكرى مُرسِله، وتتمُّ رسالة الكاتب.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في جريدة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى