كيف يُمكن لإيران والمملكة العربية السعودية معاً إحلال السلام في الشرق الأوسط

فيما تُخفّض الولايات المتحدة وجودها من الشرق الأوسط فمن الحكمة تشجيع الحوار الديبلوماسي بين السعودية وإيران الذي بدأ في نيسان (إبريل) الفائت بتشجيع من رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي لكي يحل السلام والإستقرار في الشرق الأوسط.

الأمير محمد بن سلمان: “نريد علاقات جيدة مع إيران”

فالي نصر وماريا فانتابي*

لا يُمكِن الإنكار بأن هناك تحوّلاً في واشنطن: لم يعد الشرق الأوسط أولوِيّة قصوى بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ويتّضِحُ انسحابُ أميركا من المنطقة الأوسع في خروج قوّاتها من أفغانستان وتخفيض الالتزامات العسكرية الأميركية للعراق والأردن والكويت والمملكة العربية السعودية، إلى جانبِ التركيز المُتزايد على الصين وروسيا. هناك أسبابٌ وجيهة لهذا التحوّل في الاستراتيجية، لا سيما إذا نظرنا إلى التاريخ الحديث المؤسف لتدخل الولايات المتحدة في المنطقة، لكنه يَجلُبُ أيضاً مخاطرَ خاصة به. على سبيل المثال، مَهَّدَ رحيلُ القوات الأميركية المُتسرِّع من العراق في العام 2011 الطريق لصعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وتوسيع بصمة إيران الإقليمية. لتجنّب حدوث ضررٍ مُماثِلٍ هذه المرة، يجب على واشنطن أن تَجدَ طريقةً للجمع بين التخفيضات في الالتزامات العسكرية والمكاسب في الاستقرار الإقليمي. وواحدةٌ من أفضل الفرص لتحقيق هذه المكاسب تكمن في المحادثات الناشئة بين الخَصمين اللدودين الأكثر أهمية في المنطقة: إيران والمملكة العربية السعودية.

حتى في الوقت الذي تتخلّى الولايات المتحدة عن التزاماتها، دخل الصراع في الشرق الأوسط مرحلةً جديدة خطيرة. تخوض إيران وإسرائيل حربَ ظلٍّ قوامها الهجمات الإلكترونية والاغتيالات المُستهدَفة والتخريب. تدعم روسيا وتركيا القوات شبه العسكرية بالوكالة في ليبيا وسوريا (وكذلك في القوقاز). تجد تقنيات الصواريخ والمدافع الجديدة طريقها إلى أيدي الجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك “حماس” والجماعات شبه العسكرية العراقية وجماعة الحوثيين في اليمن. حقّقت تركيا وإيران قفزاتٍ مُفاجئة في قدرات حرب الطائرات المُسَيَّرة، ما أدّى إلى تغييرٍ جذري في ميزان القوة العسكري. نجحت الطائرات التركية المُسيَّرة في الدفاع عن إدلب في سوريا وصَدّت مُقاتلي خليفة حفتر المدعومين من بعض العرب وروسيا في ليبيا، في حين استخدمت إيران طائرات مُسَيَّرة مُتطوّرة لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي المُتَقدِّمة وضربِ أهدافٍ حرجة في المملكة العربية السعودية. مع انتشارِ مثل هذه التقنيات في جميع أنحاء المنطقة، ستُصبح النزاعات أكثر خطورة ولا يُمكن التنبّؤ بها. وكلما زادَ احتمالُ خروجِ الصراعاتِ عن السيطرة، زاد احتمال عودة الولايات المتحدة مُجبَرةً إلى المنطقة للتعامل مع العواقب.

التنافسُ الأكثر خطورة في المنطقة –بين إيران والمملكة العربية السعودية– بدأ من المشرق العربي إلى الخليج العربي، مما أدّى إلى عملية استقطابِ في المنطقة على طول خطوط الصدع الشيعي- السنّي -العربي -الفارسي. تصاعدت المُنافسة طويلة الأمد أوّلاً مع بداية حرب العراق في العام 2003، ثم مع اندلاع الحروب الأهلية في سوريا واليمن والاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. وصلت التوترات إلى نقطة خطيرة بشكلٍ خاص في العام 2019، عندما شنّت إيران هجوماً عسكرياً مُتطوّراً على مُنشآت النفط السعودية. واليوم، يواصل الخصمان التنافس في اليمن كما على موقع في العراق ولبنان، ويُمكن أن يكونا يستعدّان لتجديد المُنافسة في أفغانستان مع انسحاب الولايات المتحدة واستيلاء طالبان على البلاد تدريجاً.

لكن على الرغم من كل هذا، التقى مسؤولون عسكريون وفي المخابرات سعوديون وإيرانيون في بغداد في نيسان (إبريل) الفائت بعد فترة مُكَثَّفة بشكلٍ خاص من الهجمات الصاروخية والطائرات المُسَيَّرة التي انطلقت من اليمن والعراق ضد أهدافٍ سعودية. إستفاد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من علاقاته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وطهران للجمع بين الجانبين. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأ بن سلمان التحدّث بنبرةٍ تصالحية نادرة، قائلاً إنه يريد “علاقات جيدة” مع إيران مُعرِباً عن انفتاحه على الحوار مع الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. وأبدى المُتحدّث باسم الحكومة الإيرانية تفاؤلاً مُماثِلاً بشأن انفراجٍ قريب، وتتوقّع الصحافة الإيرانية استئنافاً وشيكاً للعلاقات الديبلوماسية بين البلدين. منذ نيسان (أبريل)، عُقِدَت اجتماعاتٌ إضافية تحت إشراف مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى من كلا الجانبين، بمَن فيهم قائد فيلق القدس الإيراني؛ وبعد توقّفٍ مؤقت بسبب الانتخابات الرئاسية الإيرانية، من المتوقّع أن تُستأنَف المحادثات مرة أخرى بعدما تولى إبراهيم رئيسي منصبه منذ أيام.

لا شك أن أمام الخَصمَين مسافةً غير قصيرة عليهما اجتيازها لإصلاح العلاقات، لكن التقارب الناشئ بينهما يُوفّرُ أفضل فرصةٍ منذ سنوات للعودة إلى الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط. ستستفيد الولايات المتحدة بشكلٍ كبيرٍ من الديبلوماسية المستمرة التي تُحرّك الجانبين في الاتجاه الصحيح. وعلى الرغم من أن واشنطن ليست على طاولة المفاوضات، إلّا أنها يُمكن أن ُتقدّم دعماً حاسماً للعملية من خلال تزويد المملكة العربية السعودية بالمزيج الصحيح من التشجيع والضمانات – بهدفٍ نهائي يتمثّل في ضمان ألّا يؤدي تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط إلى كارثة.

أسئلة الالتزام

هناك سبب للتساؤل عمّا إذا كانت المملكة العربية السعودية مُلتزمة حقاً بإجراء محادثات مع إيران. قد تستخدم الرياض الحوار لتهدئة واشنطن من خلال تقديم نفسها كلاعبٍ إقليمي بنّاء، أو لكسبِ الوقت لتعزيز موقعها والتوصّل إلى طُرقٍ لمواجهة الطائرات الإيرانية المُسَيَّرة. ومع ذلك، لدى الرياض سببٌ وجيهٌ لدفن الأحقاد مع طهران. الأكثر إلحاحاً، يريد القادة السعوديون إنهاء حربهم المُكلِفة في اليمن، وهذا يتطلّب من طهران الضغط على الحوثيين لوقف هجومهم والدخول في مفاوضات جادة. في المدى الطويل، لم يعد بإمكان الرياض الاعتماد على الدعم الأميركي الثابت، وقد توتّرت علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة بسبب نزاعات إنتاج النفط. ومع اشتدادِ المُنافَسة بين إيران وإسرائيل وتركيا، قد يسمح خفض التصعيد مع إيران للمملكة توسيع نفوذها من خلال لعب دورٍ متوازن في الساحات المُتنازَع عليها في العراق ولبنان وسوريا.

الرياض تلعبُ وتفاوض بيدٍ ضعيفة وهي تعرف ذلك. البلاد عالقةٌ في مستنقعٍ في اليمن وهي عِرضةٌ لحرب الطائرات المُسَيَّرة الإيرانية. فقد انسحبت إلى حدٍّ ما من لبنان، وخسرت في الحرب الأهلية السورية، ولم تستطع النجاح في العراق منذ العام 2003. وعلى النقيض من ذلك، فإن النفوذَ الإيراني راسخٌ بقوّة في المشرق العربي. وبفضلِ مُناورة الرياض المشؤومة لعام 2017 لعزل قطر، وسّعت طهران أيضاً نفوذها إلى الشواطئ الجنوبية للخليج العربي. ويخشى المسؤولون السعوديون أن يؤدي الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة إلى تعزيز ثقة إيران، وإنهاء عزلتها الدولية والسماح لاقتصادها وتجارتها الإقليمية بالتوسّع.

لكن المحادثات الناجحة تصبُّ في مصلحة إيران أيضاً. يخفي تبجّح طهران مخاوف بشأن تكلفة تنافسها الإقليمي غير المُنضبط مع الرياض، ويُمكن أن تُحبِطَ التوتّرات الإقليمية المُستمرّة رغبة الحكومة الإيرانية في تقليصِ الوجود الأميركي. تودّ إيران أيضاً أن تُنهي المملكة العربية السعودية دعمها للقوات الانفصالية العِرقِيّة في إيران ووسائل الإعلام في المنفى التي تُشجّعُ على تغييرِ النظام. بعد الإعلان عن الاتفاق النووي الذي أبرِمَ في العام 2015، قلّلت إيران من قدرة خصومها على تقويض الاتفاق. هذه المرة، ترى أن المشاركة الإقليمية ضرورية للتوصّل إلى اتفاقٍ مع واشنطن والحفاظ عليه. وبينما تدرس إيران المُنافَسة مع إسرائيل وتركيا، فإنها تريد منع الرياض من تقديم الدعم الكامل لمثل هؤلاء المنافسين.

لقد ركّزت المحادثات حتى الآن على القضايا الأمنية الضيّقة، وبخاصة في اليمن – حيث تتعلق الأسئلة الأكثر إلحاحاً وإثارة للجدل بمحافظة مأرب الغنية بالنفط. (كما قال لنا أحد المسؤولين السعوديين، “الأمر كلّه يتعلق بمأرب”). تريد إيران من الرياض إنهاء حصارها الاقتصادي للمناطق التي يُسيطرُ عليها الحوثيون ووقف الضربات الجوية على مواقعهم، بما في ذلك محيط مأرب. ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يضمن، كما تقول الفكرة، انتصاراً للحوثيين في مأرب يسمح لطهران بإملاء التسوية النهائية في اليمن مع الاستمرار في تهديد المملكة العربية السعودية بهجمات الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ. تحاول المملكة، من جانبها، كسب الوقت بينما تُعزّز أنظمة دفاعها الجوي وتضغط من أجل إنهاء هجمات الطائرات المُسيَّرة التي تشنّها الميليشيات المدعومة من إيران من العراق واليمن (تمكّنت ثلاثة منها أخيراً من ضرب قصرٍ ملكي في الرياض).

في نهاية المطاف، تريد إيران والمملكة العربية السعودية أشياءً مُختلفة من المحادثات. تأمل طهران في أن يؤدي ذلك إلى تطبيع العلاقات الإيرانية-السعودية، بينما تُريد الرياض مُعالجةَ مخاوفها الأمنية – على وجه التحديد، حلٌّ في اليمن ووَضعُ حدٍّ للهجمات عبر الحدود. وبناءً على ذلك، فإن المفاوضين السعوديين يتمسّكون بالتطبيع حتى يحصلوا على تنازلات حقيقية، بينما يُقاوم المفاوضون الإيرانيون الاتفاقات المحدودة بشأن العراق واليمن لأن مثل هذه الصفقات ستُعالِج المخاوف السعودية بدون تغيير العلاقات بشكل عام. أصبحت الديناميكيات أكثر تعقيداً بسبب حقيقة أنه على الرغم من أن إيران تعرف ما تريده، فإن المسؤولين السعوديين يواجهون عقبات بسبب عدم اليقين بشأن توجّه السياسة الأميركية – بالنسبة إلى تفاصيل الصفقة الإيرانية، ووجود القوات الأميركية في العراق، والسياسة الأميركية الأوسع في المنطقة. إن حالة عدم اليقين تُقوّض هذه الثقة التي يحتاجها المسؤولون السعوديون للانخراط في عقد صفقات جادة.

الضمانات الصحيحة

يُمكن لواشنطن أن تُساعدَ على تعزيزِ الثقة السعودية، وبالتالي تشجيع إحراز تقدّمٍ حقيقي في المحادثات، من خلال تزويد الرياض بضمان واضح بأنها ستدافع عن المملكة في مواجهة هجومٍ إيراني مباشر. يمكن للولايات المتحدة أيضاً المساعدة من خلال التأكيد لإيران أنه على عكس الانسحاب الأميركي غير المشروط من أفغانستان، فإن تخفيض القوات سيعتمد على اتفاقيةٍ أمنية مُستدامة بين إيران وجيرانها العرب، وكذلك على إنهاء الهجمات على الأصول والأراضي السعودية. سيكون من المفيد أيضاً وجود التزام أميركي صريح بمحاولة منع سقوط مأرب في أيدي الحوثيين – وهي نتيجة لن تؤدّي إلّا إلى إطالة أمد الحرب في اليمن وإلى تصعيد جميع الأطراف بطرق خطيرة – ووضع الضغط الدولي على إيران إذا استمر الحوثيون في مسيرتهم نحو مأرب.

وفوق كل شيء، يُمكن للولايات المتحدة أن تساعد من خلال إقناعِ كلٍّ من إيران والمملكة العربية السعودية بأن أفضل ما يخدم مصالحهما الأمنية هي المحادثات الناجحة. يجب على كلِّ جانبٍ أن يرى التقدّم على أنه أمرٌ حاسمٌ لما يريده قادته: ضمانات أمنية أميركية في حالة الرياض وبصمة عسكرية أميركية أصغر في المنطقة في حالة طهران. الهدفان ليسا مُتعارضَين: الولايات المتحدة لديها وجود عسكري واسع يأتي بدون التزامات أمنية مُحَدَّدة تجاه المملكة العربية السعودية – وهو ترتيبٌ اتَّضحت عيوبه بشكل كبير عندما هاجمت إيران منشآت النفط السعودية من دون ردٍّ أميركي. بدلاً من ذلك، يجب على واشنطن أن تهدف إلى وجودٍ عسكريٍّ أصغر، ولكن مع التزاماتٍ مُحَدَّدة للأمن السعودي. يُمكن لمثل هذه الجهود أن تُحفِّز بالضبط أنواع الخطوات التي من شأنها، بمرور الوقت، توليد الزخم وبناء الثقة وخلق حقائق جديدة على الأرض – اللبنات الأساسية، بدورها، لهيكلِ أمنٍ إقليميٍّ يُمكنه أن ينجو من عواقب الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط.

  • فالي نصر هو أستاذ مجيد خضوري لدراسات الشرق الأوسط والشؤون الدولية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. يمكن متابعته عبر تويتر على: @vali_nasr
  • ماريا فانتابي هي المستشارة الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “مركز الحوار الإنساني” (Centre for Humanitarian Dialogue). يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @MariaFantappie
  • كُتِبَ هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى