النظامُ المصري يَتخَبَّطُ في قانونِ الأحوالِ الشخصيّة

كَشَفَ مشروع قانون الأحوال الشخصية، الذي أحالته الحكومة المصرية إلى البرلمان، عجزاً كبيراً في التميّز عن الأطروحات المُجتمعية الأخرى، كما أظهر صعوبة التوصّل لقانونٍ توافقي في الوقت الراهن.

الرئيس عبد الفتاح السيسي: سحب القانون المُقترَح من التداول لتحضير قانون توافقي.

نوران سيّد أحمد*

في شباط (فبراير) 2021، أحالَ مجلسُ الوزراء المصري إلى البرلمان مُقترَحاً مُتكاملاً لقانون الأحوال الشخصية. تسبّب تسريب مسوَدّة القانون إلى وسائل الإعلام في إثارةِ عاصفةٍ من الانتقادات بسبب انتقاصه من حقوق النساء. تبعاً لذلك، تمّ سحب مشروع القانون ووعد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن القانون الجديد سيكون مُتوازِناً. غالب الظن، أن القانون لن يصدرَ قريباً، إلّا أنه يُعَدُّ مرآةً جيّدة تَعكُسُ طريقةَ تفكير نظام السيسي.

يُمثّل تصاعد المطالب الاجتماعية والبرلمانية لتعديل قانون الأحوال الشخصية وانخراط البرلمان والحكومة في هذا النقاش منذ العام 2017، إحدى علامات دخول نظام السيسي مرحلة الاستقرار خصوصاً بعد اختفاء المُهدّدات الوجودية لبقائه نتيجة تراجع موجة العنف والإرهاب، وتحييد المعارضة السياسية وإقصائها، وهي المهددات التي تطلّبت حينها حشد جهود النظام وآلته التشريعية للعمل على مواجهتهما. الآن أصبح الطريق مفتوحاً لتناول قضايا أخرى، لكنها ستبقى غير سياسية. كان استقرارُ النظامِ وهدوؤه من العوامل الدافعة للموافقة رسمياً على وقفة احتجاجية لإحدى جمعيات الأمّهات للإعتراض على مُقترَحِ بعض النواب لتقييد حق الخلع وحضانة الأم للأطفال. ورُغمَ محدودية نطاق الوقفة إلّا أنها بدت نسمةَ تغييرٍ في الوقت المناسب، فقد  حظيت باهتمام وسائل الإعلام المُؤيِّدة للنظام، وقبولٍ منه كما بدا من حضور الشرطة لتأمينها، وتصريحات النواب الإيجابية، كما الرئيس السيسي نفسه بشأنها.

يُشكّل ملف الأحوال الشخصية فرصةً للنظامِ لتجديد الدماء وردم فجوة غياب السياسة الداخلية. في الوقت الذي تظهرأصواتٌ  قريبةٌ من النظام تدعو للتسامح مع قدر من العمل السياسي والحزبي، يبرز ملف الأُسرة “غير السياسي” كأول تجارب ذلك الانفتاح. كما انعكس استقرار العلاقات بين النظام وأجهزة الدولة المختلفة، وفي مقدمتها الأزهر، في مشروع القانون الذي لعب الأخير فيه دوراً محورياً بعد سنوات من التوتّر مع رأس النظام.

لدى نظام السيسي اهتمام أصيل بملف الأسرة، فمنذ 2014 تضمّنت أجندة العمل المُطَوَّلة للجنة الإصلاح التشريعي التابعة لمجلس الوزراء والقريبة من الرئاسة، تعديل قانون الأحوال الشخصية. وكان هذا سبباً في حينه للتوتر مع شيخ الأزهر على خلفية قضية الطلاق الشفهي، ومطالبة السيسي بعدم الاعتداد والأخذ به كمحاولة للحدّ من معدّلات الطلاق المُرتفعة. الآن، بعد تراجع الأخطار الحرجة، يتفرّغ النظام لإعادة ترتيب الأوضاع المُجتمعية بما يُعزّز استقرار الحكم في الأمد الطويل. لدى النظام تصوّرات عن مجتمعٍ أكثر انضباطاً وأقل قابلية للتمرّد. ووفقاً لهذه الرؤية، فالطلاق مُهِدِّدٌ حقيقي لمحاولات الضبط والهيمنة. إلى جانب إنتاجه لأزماتٍ اجتماعية يعجز النظام عن معالجتها لاحقاً، تبدأ بالأعباء المالية التي تتحمّلها الدولة بسبب إجراءات الطلاق وتشرّد الأطفال، وتمتد إلى الإرهاب وإقبال الشباب على التنظيمات المُتطرّفة، أو الخروج في احتجاجاتٍ واسعة على السلطة كما حدث في 2011.

ويعكف النظام في مصر أيضاً بشكلٍ جاد على إعادة هيكلة منظومة التقاضي، ومنها تقاضي الأُسرة، والذي يُثقل كاهل المحاكم المصرية. في ضوء هذه الأسباب، اتّجهت الحكومة لإنتاج مشروع قانون يميل للتوسّع في التفاصيل للقضاء على الثغرات القانونية التي تفضي إلى إشكاليات في التطبيق. يُفيد الميل للتفصيل، وكذلك، محاولة النظام للتمايز وإبراز بصمته في ملف الأسرة، إلى مُقارنةِ هذا القانون بقوانين الحقب السابقة الأقل تفصيلاً. إلّا أن عاملًا آخر دفع إلى اختيارِ نهجِ الشمول والتفصيل في مشروع القانون، وهو أن بعض المقترحات، التي طرحها نوابٌ ومنظّمات نسائية عدة  وغيرهم من الفاعلين، اتسمت بالشمول على نحوٍ صَعَّب على النظام التراجع عن السقف الذي وضعه هؤلاء بتقديم مشروعِ قانونٍ مُتكامِلٍ وشاملٍ للأحوال الشخصية.

يتّسم هامش التغيير والتبديل في ملف الأحوال الشخصية بالمحدودية لثقلِ وطأةِ الدين وعدم إمكان تجاوزه. ومن ثم اقتضى الميل للشمول والتفصيل في تنظيم قواعد الأسرة الرجوع للمرجع الأساس وهو الفقه الإسلامي لتغطية التفاصيل المطلوبة. شُحِنَت مسودّة القانون بتفاصيل فقهية عديدة جعلتها أقرب إلى المحتوى الفقهي منها لشكل القانون الحديث، ليُصبِحَ مشروعُ القانونِ بمثابةِ قطيعةٍ مع تقليدِ التشريع وأسلوبِ الجمع والدمج القانوني المصري على مستوى المحتوى والصياغة. تضمّن المشروع كل المواد التي قد ترتبط بالأحوال الشخصية في مصر، بعدما كانت مُتفَرِّقة بين قوانين كثيرة مُتعَدِّدة، وهو جُزءٌ من توجّهٍ عام نحو التجميع والدمج المُوَحّد والمركزي للقوانين في مصر تحت نظام السيسي. وفي ملف الأسرة، يهدف اتجاه التجميع والدمج الموحّد للمواد القانونية إلى تقليل هامش الاجتهاد والسلطة التقديرية للقضاة والعاملين في الجهاز القضائي، بخاصة مع ملاحظة وزارة العدل للتفاوت في تطبيق الأحكام بين النيابات والمحاكم المختلفة، وهو ما يتعارض مع مبادئ الوحدة والمركزية القانونية التي تُيَسِّرُ إحكام سيطرة النظام على الجهاز القضائي وحُكمِ المجتمع.

يكشفُ مشروعُ القانون عن طبيعة الانتقال الذي يشهده نظام 2013 وجهاز الدولة الذي لايزال في طور التشكّل. ويمثل قانون الأحوال الشخصية الاختبار الأول من نوعه لنظام السيسي. على عكس قانون الجمعيات الذي كان هدف النظام منه واضحاً وهو التقييد، وعلى عكس المجالات التي تتطلب خبرات تقنية وفنية حديثة كالاقتصاد والإدارة العامة والتخطيط العمراني وخبرات العمل في المنظمات الدولية والتي سهُلَ على النظام إيجاد تكنوقراط وخبرات غير مُسَيّسة للعمل فيها، يقع قانون الأسرة في مساحة قيمية تتطلّب أكثر من الخبرة الفنية ومن التوسّع في الجوانب الإجرائية والعقابية.

التحدّي الأساس لقانون الأُسرة يكمنُ في القدرة على التعامل مع نصوصِ الشريعة والاختيار منها وقوننتها في نصوص تستوعب التوازنات الدينية والاجتماعية المختلفة. دفع وعي النظام بذلك للمضي في مساراتٍ مُتعدّدة وربما تكون مُتخَبِّطة. فقد عمل أكثر من جهاز في الدولة على مشروع قانون أُسرة مُستقل به، مع وجود تداخل وتبادل بين لجان إعداد القوانين المُختلفة، حيث وُجِدَ في كلِّ لجنة تعمل على إعداد قانون في جهة ما مُمثّلٌ للجهات الأخرى التي تعمل في الوقت ذاته على تصوّرٍ خاص بها لقانون الأسرة، مثل المجلس القومي للمرأة والأزهر، اللذان كانت لهما  بصمةٌ واضحةٌ على مشروع قانون الحكومة. في الوقت عينه، قدّمت الحكومة للبرلمان مشروعاً مُنفَصِلاً لتنظيم المأذونين (عاقدي القِران) الذي صدر فيه إعلان لجنة الإصلاح التشريعي، التابعة لمجلس الوزراء، التي تعمل على قانون الأسرة، والذي يفيد بأن القانون سيأتي مُتكامِلاً وسيتضمّن مواداً لتنظيم المأذونين، وهو ما دفع برئيس اللجنة التشريعية في البرلمان لتنبيه الحكومة لهذا التخبّط.

يعكس ذلك التخبّط حالةَ الفراغ التي نتجت عن القطيعة في السلطة منذ 2011 في أعقاب خروج الرئيس الأسبق حسني مبارك ومجموعته القانونية والسياسية. حيث يبدو أن العناصر الجديدة في جهاز الدولة –منذ 2013- وكذلك في البرلمان، لم تتمكن بعد من ملء هذا الفراغ، خصوصاً مع ميل النظام الحالي للاعتماد على كوادر غير مُسَيَّسة من التكنوقراط. وانتهى الأمر بالنظام لترك القيادة في هذا المشروع لأطرافٍ حديثة العهد بالتشريع لسدِّ هذه الفجوة.

يبدو مأزق نظام السيسي بالنسبة إلى هذا القانون هو وقوعه في شبكة من التناقضات. أولها التناقض بين عدم إمكانية تجاوز الدين في هذا الملف، في الوقت الذي يروّج النظام أنه يدعم حقوق المرأة وأن لديه تصورات تقدّمية في هذا المجال. والتناقض الثاني مُرتبطٌ بالميل لجمع ودمج كافة المبادئ المُنظِّمة لشؤون الأُسرة في نمط أقرب لدليل استرشادي مُفَصَّل، بحيث يُمكن للقضاة والعاملين في نيابات الأسرة العودة إليه. وقد أدّى هذا إلى جمع ودمج عددٍ من المبادئ الجدلية، مثل النص المُتعلّق بحقِّ الوَلِيِّ في طلب فسخ عقد زواج المرأة من غير “الكفؤ”.

كان هذا المبدأ معمولاً به ومُستَقِرّاً في عقود الزواج في مصر وحتى في بعض المنازعات أمام المحاكم. كان السكوت عن مثل هذه المبادئ الخلافية في القوانين وتركها للممارسة العملية غير المكتوبة وغير المُوَثَّقة مُتَّبَعاً، تجنّباً للانتقادات؛ وبالتالي تخضع هذه المبادئ للتفاوض بين مُسَجِّلي عقود الزواج واجتهادات القضاة في القضايا الواردة لهم من عائلات تعترض على اقتران فتياتها بأزواجٍ من خلفية اجتماعية وطبقية أدنى بدون علمهم، أو للحسم خارج قاعات المحاكم بوصفها شأناً خاصاً. وعلى الرغم من أن وجود هذا المبدأ يسبق النظام الحالي، إلّا أنه بُشكّل ما يوافق تصوّراته الانضباطية عن الأسرة، وعن مؤسسات الدولة المؤدلجة، الحريصة على التجانس الأُسَري وعدم تمرّد الشباب على القِيَمِ العائلية. وتبعاً لذلك، تُتاحُ الفرصة للعائلات للدفاع عن مكانتها الاجتماعية والطبقية عند الحاجة. يُمثّل المُكَوِّن الطبقي مُحدّداً مهماً في عقلية النظام. وبشكلٍ عام، تعكس هذه المادة القانونية والمشروع بأكمله رؤية النظام للنساء والرجال ليس بوصفهم أفراداً، وإنما بوصفهم جُزءاً من كيان “العائلة” الحري بالتدعيم والحفاظ عليه.

يرتبطُ التناقض الأخير بطرح النظام نفسه بوصفه حَكَماً فاصلاً في القضايا الخلافية ومتجاوزاً لها، وأنه صاحب الحلول المُطلَقة بخاصة في القضايا المصيرية والتاريخية. وهو الأمر الذي دفعه إلى سحب الخيط من الأطراف المُتناحرة في ما يتعلق بقانونٍ مهم مثل الأحوال الشخصية، ويُعلن تولّي الحكومة هذه المهمة بعد تحرّك بعض الجمعيات النسائية للتنديد بمقترحات بعض النواب الذكورية ومطالبتها للرئيس السيسي بالتدخّل. إلّا أن مشروع القانون كشف عن عجزٍ كبيرٍ في إظهارِ تميّزٍ في المواقف والأفكار مُقارنَةً بأطروحاتٍ مُقَدَّمة من جهاتٍ أخرى، وكشف ذلك أيضا عن مدى الصعوبة في التوصل لقانون توافقي في الوقت الراهن.

أمرٌ أخير كشفه هذا القانون، فعلى الرغم من عدم إمكانية وصف النظام المصري الحالي بالديموقراطي، إلّا أنه يُراقب عن كثب المحيط الاجتماعي والسياسي ويتعامل بجدية مع كافة الضغوط الاجتماعية التي يواجهها مهما بدت محدودة النطاق، كما ظهر ذلك في سحب مشروع القانون فوراً عند انطلاق حملة الانتقادات القوية من دون تأخير، مع الوعد بالتوجّه نحو إعادة التوازن المطلوب لمسودة القانون، وبدا كذلك في عمل النظام على مشروعِ قانونٍ مُتكاملٍ يُواكب البدائل المطروحة على الساحة المصرية.

  • نوران أحمد هي باحثة في وحدة أبحاث القانون والمجتمع في الجامعة الأميركية في القاهرة. تُركز أبحاثها على علاقة الدين بالدولة، والحركات الاجتماعية، وتقاطعات القانون والدين في مصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى