بَعدَ عامٍ على انفجارِ مرفإِ بيروت، صراعُ لبنان واستسلامه

مايكل يونغ*

غالبيةُ الأميركيين من جيلٍ مُعَيَّن ما زالت تتذكّر أين كانت في يومِ اغتيالِ الرئيس جون كينيدي. 4 آب (أغسطس) 2020 يحتلُّ مكانةً مُماثلة في الروح الوطنية اللبنانية. كان الانفجارُ المُروِّع في مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، وجرح حوالي 6,000 إنسان، وشرَّد حوالي 300 ألف نسمة، صدمةً لا تُضاهَى في بلدٍ يُعاني أصلاً من أَلَمٍ شديد ومآسٍ قٌاسية.

الآن، بعد عامٍ على الحدث، ما زال أهالي الضحايا الغاضبين بعيدين من معرفة مَن المسؤول. لقد اصطدم التحقيق بحائطٍ مسدود. وواجه القاضيان اللذان قادا التحقيق الرسمي على التوالي قيادةً سياسية حاولت عرقلة جهودهما، رافضةً رفع الحصانة عن السياسيين والمسؤولين الأمنيين الذين يريد المُحقّق الحالي طارق البيطار استجوابهم.

تراجع بعض السياسيين البارزين منذ ذلك الحين، مُطالبين برفع الحصانة عن كل أولئك المُدرَجين على قائمة القاضي البيطار. لكن بالنسبة إلى اللبنانيين، هذه التصريحات ضحلة لا معنى لها لأنها تهدف إلى جذب اهتمام ورضى الرأي العام، فهم يعرفُون جيداً أنه من غير المرجح أن تظهر الحقيقة على الإطلاق.

كانت هناك نظريات مُتعَدّدة حول ما حدث. إحداها، من الراحل لقمان سليم، المُعارض الشيعي الذي اغتيل في شباط (فبراير) الفائت، هي أن نيترات الأمونيوم التي انفجرت كانت محفوظة في المرفأ للحكومة السورية لتحضير براميلها المُتَفجِّرة في الداخل. تم ذلك على الأرجح بتواطؤٍ من “حزب الله” وروسيا. في حين أن هذا الأمر لم يتّم إثباته، هناك شكٌّ محلّي بأن العنبر الذي فجّر المُجَمّع كان تحت سيطرة “حزب الله”.

مهما كانت الحقيقة، فإن إحجام السلطات اللبنانية عن السماح بدفع التحقيق قُدُماً عزّز الشكّ العام في أن السياسيين والأحزاب اللبنانية يخفون شيئاً ما. بالتأكيد، عرف الكثيرون منهم أن نيترات الأمونيوم قد تمَّ تخزينها في المرفأ اعتباراً من أيلول (سبتمبر) 2013، ولم يفعلوا شيئاً للضغط من أجل إزالتها وإعادتها إلى مصدرها. من بين هؤلاء الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال الدكتورحسّان دياب.

بالنسبة إلى عائلات ضحايا الانفجار، كانت لامبالاة المسؤولين إهانة أخرى لسكّانٍ يواجهون أصلاً فقراً واسع النطاق وانهياراً وطنياً كان يمكن تجنّبه. من المُعترَف به على نطاق واسع أن القيادة السياسية في البلاد غير كفؤة وفاسدة، إلّا في ما يتعلق بطرق الجريمة. ومع ذلك، لقد نقل انفجار المرفأ هذا الوضع إلى مستوى آخر من الرعب. بشكلٍ أساس، لم تهتم السلطات بحقيقة وجود قنبلة موقوتة بالقرب من مناطق سكنية.

أظهر تقريرٌ لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي) بتاريخ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2020، ولكن نقلته رويترز أخيراً، مدى اقتراب اللبنانيين من الهولوكوست. وأشار التقرير إلى أنه من بين 2,754 طناً من نيترات الأمونيوم المُخزَّنة في المرفأ، إنفجر 552 طناً منها فقط. قد تبدو كلمة “فقط” مُضحِكة في ضوء الضرر الجسيم، ولكن بالنظر إلى أن الرقم الأوّل كان أكثر من خمسة أضعاف ما تم تفجيره، فإن الكلمة مُناسبة. لو تم تفجير الكمية الكاملة من نيترات الأمونيوم، لكانت بيروت في معظمها سُوِّيَت بالأرض. ربما كان عدد الوفيات وصل إلى عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف.

بعدَ عامٍ على هذا العار، لا يزال من الصعب فَهم سبب عدم غضب اللبنانيين. يبدو واضحاً تماماً أن العدالة لن تتحقّق وأن الأبرياء الذين ماتوا أو أصيبوا في ذلك اليوم، والذين دُمِّرَت منازلهم وحُطِّمَت حياتهم، لن يحصلوا أبداً على تعويض. في أيّ بلد عادي، لا يمكن لأي سياسي أن يأمل في العودة إلى دياره بعد هذه المأساة.

لكن، في لبنان، حتى مع استمرار تدهور الوضع إلى مستويات غير مسبوقة في البلاد، حتى أثناء الحرب الأهلية، ظلّ السكان سلبيين ومُذعنين نسبياً. ربما يكون خطأهم هو أنهم عاشوا لفترةٍ طويلة في بلدٍ مُختَل وظيفياً لدرجة أنهم مستعدون للتكيّف مع الأسوأ.

مع ذلك، تتسبب النزاعات “المُرتَزَقة”، التي تشلٌّ الطبقة السياسية، بالموت بشكل متزايد. يموت المرضى، بِمَن فيهم الأطفال، لأن المستشفيات لم تعد تمتلك أدوية لعلاجهم؛ وغيابُ الكهرباء يعني بأن الأشخاص الذين يحتاجون إلى آلات الأوكسجين للبقاء على قيد الحياة لا يمكنهم الاحتفاظ بها لفترة طويلة. أكثر من ذلك، أفاد طبيب أخيراً أنه لم تعد هناك أجهزة لتنظيم ضربات القلب في لبنان.

لقد أكّد انفجارُ المرفأ بأفظعِ الطرق أن السياسيين اللبنانيين يقتلون رعاياهم ببطء، إن لم يكن بالفعل فبالتجاهل. في مواجهة مثل هذا الواقع الخبيث، هل القدرة على التكيّف حتى مقبولة؟ يُجادل البعض بأن مَن هم في السلطة يحملون كل الأوراق – قوات الأمن، والبلطجية المسلحين والقوى القمعية للدولة. لكن في تشرين (أكتوبر) 2019، طغت انتفاضة شعبية سلمية على جميع الطوائف وأرعبت السياسيين.

الواقع أن الرغبة في إحياء هذه الحركة قد تكون طموحة للغاية. لكن بعد مرور عام على انفجار المرفأ، هناك شعورٌ بأن اللبنانيين لا يمتلكون هذه الرغبة فيهم. إنهم يجيدون فحص وتحليل محنتهم، لكنهم يثورون من حين لآخر لمحاولة حلّ مشاكلهم – قبل التخلّي عن ذلك بعد فترة قصيرة. أولئك الذين فقدوا أفراد عائلاتهم في 4 آب (أغسطس) هم وحدهم الذين لم يستسلموا، لكن كل الدلائل تشير إلى أن كفاحهم سيبقى طويلاً ووحيداً.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى