لا وقت للمجاملة

رشيد درباس*

(نحن تاريخُ هذه الأمّةِ الفَخمُ
ونحن المكانُ… والسُّكّانُ
بدوي الجبل)

يصعب على القلمِ السيرُ بين الكلمات، وقد كَمَنَت الأشلاء وراء كل حرف، وفارَ الحبرُ دماً بريئاً يتدفّق في الوجدان، ووجوهاً غالية تطلُّ من نوافذ الأحزان. كيفَ لنا أن نُجامِلَ ونتجاملَ، وفي الغداة يمرُّ عامٌ على الكارثة فكأن الشيء لم يكن، حيث صفاقة السِّحَن على حالها، وسماكة الجلود، وبلادة الأخلاق، والخطاب الهمجي المُتقنّع بابتسامات مُستفزّة، بل ما زالت الأشداق فاغرة كجهنّم  نقول لها، هل امتلأت، فتقول هل من مزيد، وكذلك اللامبالاة الشامتة التي “تصول بلا كفٍّ وتسعى بلا رجلِ”؛ هل يجوز  للقلم إذن، أن يتعثّر بريشته كلما هبَّ الهوى عليه، أو مالت به العاطفة عكس تدافع التيارات العميقة، أم عليه أن يخرج إلى الورق كل ما في جوفه من صدقٍ وصراحة؟!

صباح الأحد الواقع فيه 25 تموز (يوليو) الماضي وجَّهْتُ رسالةً صوتيةً عبر “صوت كل لبنان”، إلى دولة الرئيس المُعتَذِر سعد الحريري، قارَبْتُ فيها الودَّ كثيرًا وجانبتُه قليلًا، لكنني استفتيتُ فيها بحسّي وحَدسي أنينًا ونقدًا وغضبًا وحبًّا ووفاءً ورغبةً نقيةً في انتهاجِ مسيرةٍ وطيدة الأُسُسِ صريحةَ الدروب والمُنعطفات واضحة الأهداف ساطعةَ الانتماءِ الوطني. وحرصتُ في تلك الرسالة على تبيان الفرق الشاسع بين مضمونها والحملات اليومية المُنَسَّقة والمُرَكَّزة التي يتعرَّض لها الرئيس الحريري، فشتّان بين الجِدِّ والعبث، وبين الإنصافِ والتجنّي، وبين الحرصِ والتهديم.يصعب على القلمِ السيرُ بين الكلمات، وقد كَمَنَت الأشلاء وراء كل حرف، وفارَ الحبرُ دماً بريئاً يتدفّق في الوجدان، ووجوهاً غالية تطلُّ من نوافذ الأحزان. كيفَ لنا أن نُجامِلَ ونتجاملَ، وفي الغداة يمرُّ عامٌ على الكارثة فكأن الشيء لم يكن، حيث صفاقة السِّحَن على حالها، وسماكة الجلود، وبلادة الأخلاق، والخطاب الهمجي المُتقنّع بابتسامات مُستفزّة، بل ما زالت الأشداق فاغرة كجهنّم  نقول لها، هل امتلأت، فتقول هل من مزيد، وكذلك اللامبالاة الشامتة التي “تصول بلا كفٍّ وتسعى بلا رجلِ”؛ هل يجوز  للقلم إذن، أن يتعثّر بريشته كلما هبَّ الهوى عليه، أو مالت به العاطفة عكس تدافع التيارات العميقة، أم عليه أن يخرج إلى الورق كل ما في جوفه من صدقٍ وصراحة؟!

وعلى الرغم من صداها الحَسَن في محيطٍ واسع، وجدتُ من يلومني على توقيتها الذي قد يُصَنِّفني قوسًا مُكَمِّلةً لدائرةِ الحصار المضروب على ذلك المُقيم غالبًا وسط الأزمات. لكن، لأنَّ قوسي مُستقلّةٌ عن أيِّ دائرة، وسهمي للإشارةِ لا للرماية والغدر، فها أنذا اليوم مُستَكمِلٌ ما بدأت، مُقلِّلًا من الكلام المُنمَّقِ الذي يخفي معانيَه كما يُخفي الجبلُ بأسَه بقفّازِ نبات، مُحاولًا أن أُظهِّرَ حقيقةَ الصورة التي تُرْشَقُ بالظلال والظلام، وتُشَوَّهُ بالألوان النابية، في غمرةٍ من خَطَرِ الانجراف إلى المُنزلَقِ السحيق.

أما البداية فهي التأكيد “لكلِّ مَن يهمّه الأمر” أن سعد الحريري ليس داعشيًّا ولا مُتَعَصِّبًا ولا مُتنَكِّرًا لإرثِ أبيه العروبيِّ اللبناني وَليِّ العروة الوثقى بين طوائف لبنان، صديقِ الكرسيِّ الرسولي وكراسيّ أنطاكية، الحريصِ على رونق الكنائس حرصَه على مسجد محمد الأمين، فلماذا إذًا تقع معظم وسائل المشاهدة والسماع في فخِّ بثِّ موجةِ الكراهية نحوه، بما يفيد شبهة طائفية بغيضة لا يُمَوِّهُهَا مصدر تمويلها المعروف، ولا يُبَرِّئها من سوءِ النية؟

ثاني الأمور التي لم تعد تنفع فيها المواربة، أن طائفته ليست دُمَّلًا غريبًا في الجسد اللبناني، حتى تكثرَ الدعواتُ إلى تنصّلِ الدورة الدموية اللبنانية من ورمه “الخبيث” بمحاولة الابتعاد إلى الفيدرالية، استعادةً للنقاء الأصلي الخالي من تلك “العجمة”. ألا لا يغربنَّ عن بالِ أحدٍ أنها طائفة مؤسِّسَة، منها رجالات آمنوا بلبنان الكبير وابتكروا له أهم شعاراته، وروَّضوا الموج الرافض وقدموا قادتهم شهداءَ لكي يبقى لبنان، بدءًا من رياض الصلح مرورًا برشيد كرامي والشيخ حسن خالد والشيخ صبحي الصالح، وصولاً إلى رفيق الحريري، الذين لا تُنْسَبُ لأيٍّ منهم نزعة تعصّبية أو مُتَطرّفة أو سعي لتسليح الناس وتنظيم الميليشيات؛ طائفةٌ انتمَت إلى لبنان ولم تنزع من قلبها عروبتها بل قبضت عليها كالقابض على جمرٍ، لهولِ ما عانت من بلاءِ واستكبارِ وفسادِ مَن عبِثوا بلبنان، بكاذب الزعم أنهم جاؤوا إليه لحماية عروبته.

وأمّا ثالثُ الأمور التي لم تعد تقبل المُجاملة فهو أَنَّ هذه الطائفة لا تعيَّرُ دون غيرها بأنها بؤرة الفساد الوحيدة في الدولة؛ فالطوائف لا تنتج الفاسدين، بل الفاسدون هم مَن يحتمون بطوائفهم كلما دعت الحاجة أو هَمَّ قضاء مهيض بالتحرّك.

وفي كلِّ حال، ليس للسُّنَّةِ المُنتشرين في معظم الجغرافيا، وسع المدن والثغور والسهول والتجارة والكتب والثقافة والتسامح، من ملاذٍ سوى دولتهم، وقد خبروا بالتجربة والبصر أن “الملاذَ الواسع” الموهوم يشيح عنهم إلى علاقات مُستَجِدّة، فآمنوا بلبنان إيمانًا صهرَتْه التجاربُ الحارقة التي أوقعت في وجدانهم – قفزًا فوق العقائد والأناشيد – أنَّ مَن لا دولة له، فعبثًا ما يبحث عن عروبته الضائعة في سوق الشعارات الكاذبة، وأيقنوا أن الاستبداد السائد في المحيط هو عدو العروبة الأول، وأن إسرائيل تفوّقت علينا، لا لِعِلَّةِ تَّعدَّد الدول العربية، بل بسبب إذلال المواطن العربي وإفقاره تذرّعًا بالحجة البالية أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”؛ وأدركوا أن من ضاق ذرعًا بها، لن تضيق به ذرعًا، “فما ضاق بابن الجار جيران” على قولِ سعيد عقل، لأنَّ القلبَ لا يضيقُ البتَّةَ بِضَخَّ الدِّماء إلى الرئتين.

لقد تحقَّقَ اللبنانيون قبل سواهم من العرب، أن فلسطين لا تُسترَدُّ بالبيان رقم واحد الذي يذيعه الانقلابيون، وأدركوا على وجهٍ أكيدٍ أن دولتهم هي نقيض الدولة العنصرية، وأن الشجرَ الطيّب لا يُثمِرُ إلّا في مناخ الحرية، بعدما رأوا بأمِّ العين كفاءة الديكتاتوريات بتصحير البساتين، ومُصادقة الثعابين، وإنتاج سموم الفساد.

أعود إلى سعد الحريري الذي لم أتلقَّ منه أي تعليق على رسالتي، وقد تأكّدت أنه سمعها، فأقول إنه أثبت بالملموس، وبالوجه الشرعي، أنه أكثر رؤساء الحكومة ليونة وميلًا إلى التفاهم حتى على حسابه، وأهْوَنُ على شركائه في الحكم من سواه، فهو ليس كفؤاد السنيورة في التمسّك الصارم بكل حرفٍ من الدستور والقوانين، ولا بصلابةِ تمام سلام وحذره، ولا ببرودة أعصاب حسان دياب، ولا بلياقة وزلاقة نجيب ميقاتي وطول باعه الذي أعجز أكبر الحُواة من قبلُ ومن بعد… وهو حتمًا ليس مزيجًا سحريًّا مثاليًّا من هؤلاء كلهم، لكنه نسيجٌ وحده، المنتقلُ فجأة في لحظة دراماتيكية من شابٍّ يدير شركة عملاقةً، حاملٍ تراثًا هائلًا من نجاحات أبيه، إلى حاملٍ صخرةَ سيزيف، يعتصر قلبَه الحزن، ويؤرقُه ثقل المسؤولية في مفترق من تاريخٍ أحرز فيه ولاءً شعبيًّا تخطّى شعبية الشهيد حال حياته؛ وتخطّى الحدود أيضًا، فوجد نفسه في صميم شبكة إقليمية ودولية لم يكن حقلُ عينيه قد استوعبَ شاسعَ مساحتِها حينَ تداولت سمعَه الهمسات والنصائح صادقُها ومغشوشُها، وانتهَتْ إليه محبةُ ناس يطالبونه بما لا طاقة له على تحقيقه، حتّى لأوجعَهُ عجزه عن مكافأةِ تلك المحبة التي لفتني إلى أحد مظاهرها، عندما أشار إلى ثيابه المُبتلّة كليًّا بماء الزهر المرشوش عليه من أهل القلمون مُتسائلًا: “كيف نردُّ الجميل لهؤلاء”؟

هذه المسيرة لم يقيَّضْ لها أن تستمر على وتيرتها التصاعدية. فالنصر الذي أحرزه في انتخابات عام 2009، تحوّل إلى نكسةٍ فهزيمةٍ مُهينة؛ كأنما الحلفاء شركاء الانتصار، آثروا أن يخرج كلٌّ بنصيبه، حتى ذهب النصيب الأكبر إلى الفريق المهزوم، فتفرّق العُشّاق، وبقي سعدٌ في عين الأزمة، يُهادِنُ حينًا، ويُخاصِمُ حينًا، ثم يذهب إلى ما لا نريد أن نستعيده، لأن هذا المقال ليس نغمًا من الجوقة الحاليّة، بل هو مُقاربة حذرة لتلمّس معالم الآتي في ظرفٍ أصبحت فيه الدولة برمّتها على وشك الاندثار. من هنا أسأل: لماذا لم تكفَّ الحملاتُ عن الرجل، وكأنها امتدادٌ لما تعرّضَ له أبوه من ظلمٍ وافتراءٍ ثم قُتِل؟ ألم يكن يكفي الدم المهدور دليلًا على محبة رفيق الحريري لوطنه؟ ألم يشفع لسعد من بعده، أن غامر بإمساك الدفة السياسية في موجٍ عاتٍ من قبل أن يتلقى أية علوم بحرية؟! هنا يكون السؤال الكبير:كيف يُمكن أن تُهْدَمَ هذه الدولة ذاتُ النظام الديموقراطي البرلماني المؤرق لدول الاستبداد المُحيطة، ويُخَلْخَلَ نظامٌ يعيش على التكامل بين الطوائف بما يكشف عُري الوجه الصهيوني لدولة إسرائيل التي تعيش على ترحيل المجموعات العربية وانتزاع أراضيها وإقامة نظام فصل عنصري وقح؟

أما الجواب فمُستَمَدٌّ من الأسئلةِ عينِها، وهو أَنْ لا بدّ من زعزعةِ أحجارِ الزاوية التي يقوم عليها الهيكل اللبناني:

– فلتشنَّ الهجماتُ على دعوة غبطة البطريرك الراعي إلى الحياد النشط، المنطويةِ على خلاص حقيقي من معاناة طويلة لن يبرأ لبنان منها إلّا بخروجه من دائرة الارتهان الإقليمي والدولي.

– ولترتفع أصواتُ التحريض والمذهبيةِ المنتحلةُ صفةَ التحدّث باسم المسيحيين كي تُعلن استقلالها عن الصيغة وتُعيدُ معزوفة القهر والحقوق  المسلوبة، فيما يقرُّ المسلمون بمعظهم أن المسيحيين كانوا ولم يزالوا ملح لبنان وأساسَه ورونقَه وسرَّ فرادته.

– ولتُتَّهم الطائفة السنّية بالفساد والداعشية و”الميول العثملية” جزاء لها عمّا ارتكبتْه من مبالغة في إعلان ولائها للبنان دولة نهائية لأبنائه فقط.

– وليدفع سعد الحريري ثمن شعاره (لبنان أولًا) بعدما دفع أبوه الثمن الأغلى؛ فساكن بيت الوسط يُشكّل واسطة العقد، وينبغي انتزاعه من موقعه، سواءٌ بالقصف المباشر، أو بالحفر من تحت أساساته أو بتجنيد مَن كانوا في كنفه فقلبوا ظهر المجن، أو باستغلال إدارة “الأشقاء” ظهورَهم له ولنا في هذه المحنة القاسية، أو بالتركيز على أخطائه وفشل رهاناته.

كل هذا من أجلِ أن ينفرطَ العقد، ويقفزُ الموجُ فوق السدود التي بناها الحكماء، ويتشتّت المسلمون بين فجر الجرود وألاعيب القرود، ويتعسكروا مجابهةً بين مُتداعشين وحماة لمقر السيدة زينب عليها السلام. هكذا تتحوّل الدولة البرلمانية التي لا يدوم رئيسها إلى الأبد، إلى دولةٍ مُتجانسة مع الجوار، ينتقلُ فيها الحكم إلى الأبناء والأصهار، وتصير الرسالة التي نوَّه بها القديس يوحنا بولس الثاني رسائلَ تنابذ وتقاتل، فتبقى إذّاكَ إسرائيل درة الحضارة في شرق تائه بين جموع  الصعاليك.

لا أتّهمُ أحداً من اللاعبين السياسيين بالضلوع المُتعَمَّد في هذه الخطط، بل أتّهمهم بقلّة الشفقة وضعف النظر والشراهة البذيئة، وبقلّة اللياقة التي لفت إليها النائب فريد الخازن، حين لم تجد أكبرُ كتلتين مسيحيتين شخصًا واحدًا مؤهّلًا لتسميته رئيسًا للحكومة، كأنْ لم يبقَ في الطائفة كلها أحدٌ صالح يليق، أم لعلّها طائفة لا تليق؟!

بعد هذا.. وقبله، ليس اللبنانيون حطب محرقة بل هم تاريخ هذه الأمة، ومكانها وسكانها. وكلُّ من أراد البقاءَ فوق المسرح الوطني، ومنهم سعد الحريري، فعليه أن يُمارس النقد الذاتي العلني الذي لا يكفي لوحده، كما لا تكفي قولَتا “لو كنتُ أعلمُ” و”إني نادمٌ” وما بينهما… ما لم يرافقِ القولَ عقدُ حوارات مركزية وجهوية لبلورة خطة إنقاذ، إن لم تجد حلفاءها في الطاقم السياسي، فهي واجدتُهم حتماً في الشعب الذي يُدرك مصالحه حقَّ الإدراك.

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى