زيارةٌ جديدة للثُنائيّة العَسكَرِيَّة في لبنان

البروفيسور بيار الخوري*

الثُنائيّة العسكرية في لبنان تَعبيرٌ استخدمه الخبير في قطاع الأمن اللبناني والتحوّل في القوة العسكرية في دول المشرق إلى مؤسسات أمن وطني في المجتمعات المُنقَسِمة في مرحلة ما بعد النزاع، آرام نركيزيان، في دراسته المنشورة على مدوّنة كارنيغي والمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية في العام ٢٠١٨، لوصف الوضع المُركَّب لاحتكار العنف في لبنان واقتسام ذلك الاحتكار بين القوى العسكرية اللبنانية والجناح العسكري ل”حزب الله”.

حصل ذلك في ظل الرعاية السورية للخروج من الحرب الأهلية وفقاً لاتفاق الطائف وفي طل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأجزاءٍ واسعة من الجنوب اللبناني وبعض مناطق البقاع الغربي.

تَكَرَّست الثُنائية العسكرية بموجب البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المُتعاقِبة قبل وبعد خروج الجيش السوري من لبنان في العام ٢٠٠٥.

وتقوم الثُنائيّة المذكورة على توازنات أوسع من لبنان سمحت ولا تزال باستمرارِ توازنٍ مُضطربٍ بين الطرفين. ففي حين صار “حزب الله” قوّةً عسكرية تتمتّع بقدراتٍ تسليحية جبّارة جعلت منه إحدى قوى الشرق الأوسط التي يُحسَب حسابها في التوازنات الكبرى، فقد بقي الجيش اللبناني جيشاً ضعيفَ التسليح وقليلَ العدد رُغمَ قدراته القيادية والقتالية المشهود لها من مرجعيات عسكرية إقليمية ودولية.

وهكذا لأن التوازنَ بين الطَرَفَين المُشكِّلَين الثُنائية ليس توازناً عسكرياً، بل تَدخُلُ في احتسابِ الميزانِ عناصرٌ سياسيّةٌ ووطنيّةٌ تَجعلُ الجيش حاجة لا غنى عنها ضمن تقاطعاتٍ ليست إيران و”حزب الله” حتى بعيدَين منها.

الغربُ يُريدُ الحفاظ على المؤسسة العسكرية، وتعمل الولايات المتحدة على مدِّ الجيش بموازنة مُساعدات تسمح يسد ثغراتٍ تمويلية مُحَدَّدة رُغمَ تواضُعِها.

كذلك تُقدّمُ كلٌّ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا مُساعداتٍ مختلفة، بعضُها عيني ولوجيستي. وحتى وقت ليس ببعيد كانت المملكة العربية السعودية أيضاً تملك تصوّراً لمد الجيش بموازنة تسليحية تصل إلى ثلاثة مليارات دولار أميركي.

توقّف مشروع المدد السعودي لأسبابٍ غير واضحة تماماً، رُغمَ أن الرياض قد ربطت تجميد تلك المساعدة بسبب مهاجمتها والتحريض ضدها من قبل بعض المجموعات اللبنانية.

خاضَ الجيش معركتَين كبيرتَين في العقدَين الأخيرين في مواجهة الإرهاب، الأولى في نهر البارد والثانية والأضخم في الجرود الشرقية للبنان.

رُغم الأداء العالي المستوى للقوى العسكرية اللبنانية فهي قد حصلت على مساعداتٍ “على القطعة” وفي ظروفٍ مُحَدَّدة. وهذا الأمر جعل فارق القوّة العسكرية يتّسع عاماً بعد عام بين طرفَي الثُنائية. وجاء تدخّل “حزب الله” في سوريا ليُضاعِف من اعتمادِ “محور الممانعة” عليه وزيادة قدراته التي رفدها بخبرةِ الأرض في سوريا في الوقت الذي بقي الجيش اللبناني أسيرَ القرارِ السياسي الداخلي والخارجي بعدم تسليحه.

تدعونا الأزمة الاقتصادية الراهنة في لبنان إلى زيارةٍ جديدةٍ لمفهومِ الثُنائيّة العسكرية، وإلى التفكيرِ بمدى قدرة الجيش على مواجهة أوضاعٍ شديدةِ التعقيد في استمرار قدرته على لعب دورٍ فعّال ضمن الثُنائيّة.

وفي الوقت الذي ارتفعت صرخة قيادة الجيش من أن الأزمة الاقتصادية سوف تؤثّر في ضبّاطه وعسكرييه وعملياته وإدارته، كان الحزب يلتزم باستمرار دفع معاشات أفراده بالدولار الأميركي.

لقد اتّسَعَ الفارق النوعي في الموازنة والمستويات بين الطرفين، فإلى متى يكون الجيش قادراً على الحفاظ على وزنٍ فاعلٍ وفعّال ضمن المُعادلة بين الطرَفين؟

ليس هذا سؤال المليون دولار، لكن إذا كان التوازنُ حاجةً إقليمية ودولية فإنه يتحوّل إلى سؤالٍ بثلاثة مليارات دولار.

الجيش يمتلك أرصدة لا يمتلكها الحزب أخصّها إنه يُمثّل مؤسّسة جامعة لا طائفية، ويُمثّل خيط الأمل لمعظم اللبنانيين لاستمرار الثقة بمستقبل بلدهم بعد أن عاثت السياسة فساداً في كل شيء. يملك الجيش أيضاً قوّة العقيدة التي رُغم تعرّضها لعظيم التحدّيات في ظلِّ الأزمة الاقتصادية فهي لا زالت قويّة بفعلِ قوّة الأرصدة أعلاه.

هناك مبادرةٌ غربية لإقرار مساعدات للجيش في ظلِّ الأزمة، لكني على ثقة أنها لن تخرجَ عن مُقاربة ” على القطعة” التي تسمح للجيش بالبقاء يتنفس ليس إلّا.

تناقُضٌ غريب يحكم المُقاربة الغربية لتسليح الجيش: يريدون أن يروا الجيش قادراً على التوازن مع “حزب الله” (بل أن يحلَّ محلّه) ويختارون مساعدته بالقطارة كي لا يُغضِبوا إسرائيل.

هل من حلٍّ لهذه المعضلة؟ في اليوم الأول من كلِّ آب، حيث يحتفل الجيش اللبناني بعيده، نسال السؤال عينه، ولكن آبَ هذا العام لهّابٌ وحارقٌ جداً.

  • البروفيسور بيار الخوري هو أكاديمي لبنانيوكاتب في الإقتصاد السياسي. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى